رامي وقاف ونبيل السمان: التماهي مع الحرب السورية

سامر محمد اسماعيل

ستعاد النحات السوري رامي وقاف (القامشلي – 1975) التماثيل التي هدمها الإسلام إبان فتحه لمكة سنة 650 م، مقدماً في معرضه المشترك مع التشكيلي نبيل السمان (جدل 3 ـ ألف نون 1ـ 20 تشرين الأول) ثلاثين منحوتة من البرونز (15× 80 سم) كان أبرزها تماثيل كل من (هبل، اللات، العزى، ذي الخلصة) لكن بأحجام ابتعدت عن الوثائقي في تكرار الأحجام الرخامية العملاقة لـ «آلهة قريش» التي عمل عليها وقاف منذ عام 2009 بعد اقتناعه بأن هذه التماثيل لها قيمة تشكيلية عالية لا يمكن شطبها من تاريخ الفن الإنساني.
استعان الفنان بكتاب «الأصنام» لابن الكلبي، (تحقيق أحمد زكي ـ القاهرة ـ 1924)، نابشاً في بطون الكتب القديمة من «تاريخ مكة» للأزرقي، و«السيرة النبوية» لابن هشام مروراً بـ«الكامل في التاريخ» لابن الأثير و«معجم البلدان» لياقوت الحموي، وصولاً إلى كتاب «المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام» لجواد علي. رحلة شاقة قطعها النحات الشاب، مقتفياً جذور النحت التدمري وتأثيراته على تاريخ الفن في العصر الجاهلي. تنويعاته وتكويناته البيزنطية والبابلية والسلوقية والرافدية، مستحضراً بذلك تلك التماثيل التي جلبها عمرو بن لُحي الخزاعي معه من الشام والحبشة عبر ميناء جِدة، حاملاً معه الذوق الهيلينستي المتطور إلى قلب الجزيرة العربية.
هكذا تقحم «وقاف» مخاطر عدة في زمن قطع الرؤوس والتكفير على الشبهة، معيداً إلى الذاكرة الجمعية آلهة العرب الأولى: «إساف ونائلة، سواع، يغوث، يعوق، ود، نسر، الجلسد». المنحوتات التي ستلقى مصيراً مأساوياً على يد الصحابة الأوائل لتتوضح وفق رؤية وقاف تصاميم خيطية نحيلة، بكتل قاربت أسلوبية الإيطالي ألبرتو جياكوميتي (1901 ـ 1966) دون تقديم نسخ تسجيلية عن رموز الوثنيات العربية؛ إذ نشاهد الإله «هُبل» بيده الذهبية التي صنعها له أعيان قريش بعد أن تحطمت في إحدى الحروب، مشيراً بها نحو كؤوس خمره السبع «الأزلام» التي كان العرب القدماء يستفتونها عن طريق النرد، لخوض حروبهم والتحكيم بين رجالاتهم من أجل الفصل في شؤونهم المدنية من إرث وملكية وأنساب، بينما تظهر «اللات» بدلاً من كتلتها الرخامية المرتفعة كامرأة من البرونز الخالص يعلوها تاج، فيما بدت «العُزى» كامرأة أيضاً تروي السجع من وراء شجراتها الثلاث للطائفين بالبيت، بينما نشاهد «ذي الخلصة» جالسةً كما كل التماثيل على مكعبها وبيدها صولجانها الذي كان يلجأ إليه عرب الجزيرة للتداوي من الأمراض وإصابات الحرب.
ثيمة «وقاف» جاءت في جدلية مع لوحات الفنان نبيل السمان (دمشق 1957) الذي قدم هو الآخر مستوى آخر من هذا النقاش الجريء واللافت عبر (29) لوحة (من أحجام مختلفة ـ أكرليك على قماش) مستعيداً بدوره الأسطورة والملاحم السورية القديمة عبر تصاوير لكل من جلجامش وعشبة الخلود، عشتار وتموز، إنكيدو والثور المجنح، وقصة الخلق البابلية الأولى «إنوما إيليش» ليروي عبر هذه الرسومات قصة الساحرة التي حوّلت أهل تدمر إلى تماثيل من الحجارة؛ حيث يحاول السمان هنا إيقاظ أهل تدمر من غفلتهم، بما يشبه محاولة لفك الرصد عن المدينة النائمة.
تناص لافت مع الحرب السورية، استعان عبره السمان بكيمياء مغايرة للون، عكست حدس هذا الفنان ومراكمته المعرفية الكثيفة لحالةٍ وجودية تنشد إيجاد عالم موازٍ، مؤكداً محاكاة الموجودات واستنطاق الدهشة في الثقافي والبصري بطابعه السحري، مبتعداً هو الآخر عن حذافير التاريخ والأسطورة، نحو ما يشبه ملحمة شخصية تستنطق نظرة الإنسان السوري الأول نحو الموت والخلود وطقوس الجنس المقدس في الحضارات القديمة، دون الركون إلى قوالب جاهزة في صياغة الخلفية، أو المشاغبة البرانية على سطح اللوحة، بل في التفكير عميقاً في تجاور الألوان وقدرتها على إتاحة الفرصة مجدداً للرسام بأن يخلق أسطورته الشخصية، مستلهماً الميثولوجيا لتكون جديدة وراهنة في الحاضر الدموي للبلاد.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى