كوميديا سوداء تصرخ في وجه الإمبريالية المتوحشة

حميد عقبي

قبل رحيله، ترك لنا المخرج الفرنسي باسكال شوميي الذي توفي في صيف هذا العام 2016 عن عمر 54 عاما، فيلما مدهشا سيظل في ذاكرتنا، «المهمة الصغيرة». في البداية نظن أنفسنا مع فيلم اجتماعي يعالج قضية البطالة، نرى جاك (رومان دوريس) شابا يفقد عمله ومفلسا يغرق في الديون في مدينة صغيرة في الغرب الفرنسي يسودها الكساد بعد غلق المصنع الذي كان يحتضن مئات العمال، ثم فجأة يظهر جاردو وهو رجل من المافيا وصاحب عدة كازينوهات قمار (ميشيل بلون) ليقول له:ـ «أريدك أن تقتل زوجتي مقابل عشرين ألف يورو وكذا أعفيك من ديوني عليك، إنها مهمة صغيرة ولا مفر لك إلا قبولها»، في البداية يرفض جاك العرض ولكن ينتهي بقبولها وتحوله إلى قاتل محترف، وهنا يأتي التحول سريعا ليزج بنا في طقوس كوميديا سوداء مع لمسة رومانسية حملتها علاقة الحب بين جاك وتانيا (أليس بلعيد) التي ظهرت في حلة جذابة وأثبتت حضورها رغم مساحة دورها الصغير.
الفيلم يحمل بصمات متعددة للممثل ميشيل بلون وأيضا كونه صاحب المعالجة السينمائية المأخوذة عن رواية أمريكية نشرت عام 2003، وهو كاتب السيناريو والحوار ومع ذلك صرح في مقابلة له موضحا أن الفيلم بالكامل لمخرجة باسكال شوميي ويحمل روحة الفنية وبصمته الخاصة، وأنه كممثل كان تحت تصرف المخرج وينفذ توجيهاته، والنتيجة كانت أكثر من رائعة، فالفيلم مجموعة من الصدمات العنيفة تم تمريرها في شكل كوميدي ناعم ومرح لكن المتفرج سيحسّ برعشة داخلية تهز روحه وفكره.
رومان دوريس ظهر في هيئة بائسة، فجاك شاب في الثلاثينيات يفقد عمله وتتركه صديقته ويبيع عفش مسكنه ويصبح متشردا ومديونا لرجل المافيا، أي أنه أصبح يعيش على هامش الحياة كغيره من ملايين العاطلين، ليس لديهم إلا خيارات محدودة جدا (فعليهم القبول بالنصيب البائس أو الإجرام أو الانتحار) وهكذا يتحول جاك إلى منفذ لمهمة صغيرة وفعلا ينفذها وتكون سهلة جدا، حيث يصف نفسه بأنه كان كالمتفرج وليس الفاعل وكل ما أزعجه صوت الرصاصة، ثم يضطر لقتل المراقب المتعجرف الذي هدد زملاءه بطردهم من العمل في محطة الوقود بسبب شكليات تافهة ولم يجدها جريمة كونها كانت خدمة لزملائه وأن الرجل كان تافها ولا يهمه أن تقريره المجحف سيورث كوارث لهؤلاء البسطاء، ثم تتكرر المهمة الصغيرة وبوسائل متعددة وبسيطة، فنرى مشهد القتل يكون في شكل كوميدي مبتعدا تماما عن الرعب والترويع وتعقبه عدة مشاهد كوميدية مرحة أو رومانسية ناعمة.
يتسم الفيلم بالخفة ويصطاد المتفرج بذكاء ولديه الكثير كي يقوله بطريقة سلسة مبتعدا عن الطرح المباشر فيغرقنا في الضحك وفي اللحظات نفسها ندرك معاني وأفكارا عديدة مهمة وضربات مزلزلة تخاطب الوجدان الإنساني لتميط اللثام عن رعب مخيف لواقع نعيشه ولا ندرك فظاعته، فالحكاية ليست قصة بوليسية معقدة ولا مشاهد لجرائم مرعبة حدثت في مدينة صغيرة، المسألة أكبر بكثير كونه عالمنا وواقعنا المرعب الذي يتحكم فيه الكبار الذين يتلذذون بقتلنا أو تحويلنا إلى قتلة، كل هذه الحروب المدمرة والخراب والموت والتشرد والجوع والفقر القاتل، هذه الحروب يرونها مجرد مهام صغيرة ومع كل بداية حرب يحثون الجنود ويشجعونهم بأن الأمر سهل والمهمة بسيطة وعادية.
القاتل لم يتدرب على السلاح في المهمة الصغيرة الأولى ولم يجد عوائق ولا عقبات وفي مهمة قتل عشيق زوجة رجل المافيا تفوح رائحة البندقية القديمة نتانة بسبب البول ونرى جاك يتعفف ومشمئز منها، لكنه لم يشمئز من المهمة ويمكن أن نفهم نقدا لاذعا للحروب القديمة مررها المخرج بشكل رمزي بعيدا عن المباشرة، يوجد الكثير من الاستعارات والرموز تم صبها في قوالب كوميدية سوداء تسير في انسياب من دون حدوث ضجيج يفصح عن هذه الجماليات، وساهم الأداء التمثيلي المدهش لكوكبة متمكنة من التمثيل جعلتنا نتعايش معها ونتقبل كل شيء وهنا لسنا مع ضحك يتسم بالسذاجة والرخص ولا مشاهد إسكتشات غبية، نحن مقبوض علينا في فرجة مدهشة خالية من كل المبالغات، فلا توجد مبالغة في الديكورات ولا الملابس ولا مشاهد أكشن، ولا نرى قطرة دم واحدة أو وجع المقتول، بل نرى الضحية الأخيرة يموت رعبا عندما يفشل جاك في تصويب عدة رصاصات ثم تتعطل البندقية بعدها يركض شاهرا سكينة البندقية ويقترب من ضحيته ويخبره أنه سيقتلة فيصاب الرجل بالهلع فيموت بذبحة صدرية، يمكننا أن نسقط هذا على واقعنا المفجع فوسائل القتل والتدمير الحديثة تتطور وتتخذ وسائل كثيرة لتجعل القتل سهلا ومنها إثارة الرعب عبر وسائل الإعلام المتنوعة التي يتحكم فيها ويملكها الكبار.
فيلم «المهمة الصغيرة» يستحق المشاهدة فرغم طابعه الكوميدي ولمسته الرومانسية إلا أنه يصرخ بقوة ضد الإمبريالية المتوحشة والمتعطشة للقتل فجعلته مهنة صغيرة تجني منها الثراء والمتعة واللذة وتوظيف بعضنا لقتلنا تغريهم بفتات المال وتمسخ أرواحهم ليتحول القتل لمهمة عادية وغير متعبة.
نهاية الفيلم تحمل دلالات متعددة فالحبيبة نائمة ونرى جاك يداعب سلاحه الجديد المتطور مع منظار وكاتم صوت فهو كان يشكوى من فظاعة دوي الرصاصة ونراه مبتسما وفرحا ويمكن أن نفهم أن الحب وهذه الفتاة الجذابة التي منحته السعادة وهؤلاء الأصدقاء حوله كل هذه المعاني التي تضج بالحياة والحب لم تفلح في تطهير روحه فقد أصبح عبدا مطيعا لرجل المافيا أي عندما تتلوث الروح فلا نجاة ولا منقذ.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى