ستيفي سميث.. شاعرة لا تشبه أحدا

نيرمين موسى

يعاود الباحث والكاتب “ويل ماي” تحرير وطبع قصائد الشاعرة الإنكليزية ستيفي سميث، بحلة جديدة، تحت عنوان “ستيفي سميث الأعمال الكاملة”، وذلك بعد أكثر من 45 عاما على رحيلها. الكتاب فرصة حقيقية لإعادة اكتشاف هذه الشاعرة، التي اخترقت عصرها بأنواع كتابة متعددة. صحيفة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” تناولت هذا الإصدار في مقالة لها بعنوان “شاعرة لا تشبه أحداً”، نقدم ترجمة لمقتطفات منه، ما يتيح لنا الاطلالة على عالم هذه الشاعرة المتفردة.

يحكم الناس – عندما يتحدثون أو يكتبون عن ستيفي سميث – بالمقارنة، وذلك خلافا لما يقومون به مع معظم الشعراء. قالوا إنها أنثى وليم بلاك وإيميلي ديكنسون الآتية من الريف الإنكليزي، مثلما هي مزيج من دوروثي باركر وأوغدن ناش والإخوة غريم. وصف أسلوب قراءتها بشعرها المقصوص وملامحها القوية وصوتها الرخيم والحزين المرتل من قبل جوناثن ميلر، بأنه تقاطع بين ماري بوبينز ولورانس أوليفييه في “ريتشارد الثالث”. من ناحية أخرى، غالبا ما كانت تُوصف بأنها فارغة وسخيفة وصبيانية وغريبة الأطوار، وقد أمتنع بعض القراء الفضوليين عن التفكير بها كشاعرة محترفة بل اعتبروها فنانة شعبية هاوية. أما بالنسبة لأصدقائها الشعراء فقد أخذوها على محمل الجدّ لأسباب عديدة، إذ وجد شيماس هَيني (الشاعر الإيرلندي) في أعمالها رقة لا وهمية، ورأت فيها آمي كلامبيت دمارا للمألوف، بينما قال دي ج اينريت إنها تشبه اليونانيين القدماء بقوتها ومتانتها. وصفها ويل ماي في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه “كلّ القصائد” – الذي يُعدّ المجموعة الكاملة لقصائد ورسومات قصائد ستيفي سميث التي لا تقدر بثمن – بأنها حازمة حزينة غاضبة فطنة مخادعة عنيدة وذات شخصية واضحة المعالم.
كل هذه الصفات تدل على شاعرة يصعب تصنيفها ولا تشبه أي شخص على الأطلاق وغالبا ما تشير إلى كاتبة كانت قد هُمشت كشاذة. اليوم وبعد مرور خمسة وأربعين عاما على وفاتها يمكننا الاحتفاء بها كشاعرة رئيسية في القرن العشرين وكاتبة ذات موهبة عالية وغريبة بشكل لا يضاهى، وبالنظر إلى شِعرها ككل في هذه المجموعة الكاملة، أصبح جليا بأن – على الرغم من أنها كاتبة “مرحة” – أعمالها لا تخلو من الحزن واليأس المليء بالرعب والألم والأسى.

شِعرٌ غامض
ما يزال شعر ستيفي إلى اليوم، شعرا غامضا بالنسبة إلى الرأي العام والأكاديمي، كما كانت حياتها عصيّة على كتّاب السيرة الذاتية. ولدت ستيفي سميث في “هول” عام 1902 وبعد تخرجها من المدرسة عملت كسكرتيرة في “دار نيونز للنشر” لمدة ثلاثين عاما كتبت خلالها ثلاث روايات وثماني مجموعات شعرية واختارت لنفسها لقبا أدبيا ثنائي الجنس هو “فلورنس” وقد ابتعدت في تلك الفترة عن الديانة المسيحية واعتنقت الشكوكية.
ذكر ويل ماي (في مقدمته للكتاب) أيضا، أنه وعلى الرغم من ظهورها في معظم مقابلاتها، على أنها شخصية منعزلة وغير متزنة، إلا أنه لديها إبداع سريع وملفت للإنتباه كشاعرة وروائية منذ منتصف الثلاثينيات إلى أواخر الأربعينيات فروايتها “رواية على صفحة صفراء” أظهرت جاذبية رائعة، وكانت إصابة موفقة بالنسبة إلى أعمالها وأصدرت بعدها مجموعة من الكتب منها مجموعات شعرية ذات عناوين هزلية نذكر منها “تمّ قضاء وقت جيد مع الكل” العام 1937 و”أمي ما هو الرجل” (1942) وبعض الروايات حول فكرة الدين والسياسة والزواج والحرب ومنها “فوق الحدود” (1938).
في خمسينيات (القرن الماضي) نحت أعمالها إلى الغموض والإهمال والكآبة النسبية مثلما ظهر ذلك في قصيدتها “هم قتلوا” ..
“قتلوا الشاعر بالإهمال
وعاملوه أسوأ من حشرة
قالوا ما يكتبه ضعيف
ويجب أن لا يقرأه الناس المهموين
الناس المهمون، الناس المهمون
عليّ التفكير أن الخطر يكمن في وجود هؤلاء الناس”.
وفي الستينيات، مع ظهور الشعر التمثيلي وازدياد الإهتمام بالكتّاب النساء، عادت ستيفي إلى الشهرة كناقدة ومذيعة لأعمالها الخاصة فأصدرت مجموعة من الأعمال المهمّة منها “الأمير الضفدع” (1966) و”العقرب وقصائد أخرى”(1972)، التي نشرت بعد وفاتها. وتجدر الإشارة إلى أن المؤلفات التي نشرت بعد وفاتها لم تكن عادلة حيث أعتادت على تغيير شيء من قصائدها عند قراءتها أو تسجيلها لهم.

أنا مرّة أخرى
حاول جايمس ماكجيبون الوصي على أعمال ستيفي سميث أن يطبع جميع مؤلفاتها، فنشر مجموعات شعرية عديدة ونشر مختارات جديدة من القصص والقصائد والمقالات والرسائل بمشاركة الأكاديميين الأميركيين جاك باربرا ووليم ميك برين و”دار نشر فيراغو”، تحت عنوان “أنا مرة أخرى” (1981)، وفي عام 1985 كتب كلّ من جاك ووليم سيرة ذاتية لستيفي إلا أنها لم تنل إعجاب ماكجيبون الذي كلّف فرانسيس سبالدينغ بكتابة سيرة أخرى ولم يحل محلها أي سيرة أخرى. هذا التاريخ المشتت في النشر عبر الدور الشهيرة “لونغ مان”، “فابر”، “فيراغو”، “هيني مان”، استغرق رحلة طويلة حتى وصولنا إلى هذه الطبعة الكاملة بقلم ويل ماي، لهذا نحتاج الآن إلى إصدارات جديدة وجيدة التحرير لجميع روايات وقصص ومقالات ورسائل ستيفي سميث.
لقد أضاف ويل ماي إلى القصائد الموجودة في كتابه هذا، ملاحظات متنوعة حول النسخ الأخيرة من مؤلفات ستيفي وهي ملاحظات مختصرة، لكنها مفيدة بالنسبة إلى المصادر الواسعة والإشارات الضمنية في القصائد، وتعطينا مفاتيح لبعض الشخصيات الموجودة فيها. ويعتبر هذا المبدأ من أفضل السياسات التحريرية على الإطلاق.
على الرغم من امتلاكها لصوت فطري يستحق الذكر إلا أنها تحب الأقنعة والتمثيل فهي لديها شخصية متلونة تظهر وتخفي نفسها تحت الألبسة التنكرية فقد تحولت في شخصياتها إلى حيوان وشبح وملاك ونهر وطفل ومخلوق خرافي وأعادت كتابة أغاني الأطفال والترانيم والنصوص الإنجيلية وحكايا الجنيّات والأساطير الكلاسيكية بالإضافة إلى ذلك استلت بوحشية وحرية وأعادت كتابة أعمال مجموعة غنيّة من الكتّاب الذكور كشكسبير وشيلي وبلاك ودانتي وراسين وبودلير وغيرهم. هذا الإستملاك للأخرين له دور كبير في جعلها، ليست فقط كاتبة إنكليزية تقليدية وإنما كاتبة أوروبية كلاسيكية رفيعة الثقافة. معظم أعمالها التي أعادت كتابتها، تدور حول فكرة المقاومة والرفض لما هو محتوم كالشخصيات الموجودة في القصص الخرافية المعروفة والموجودة في التاريخ التي لا يمكن أن يكون لها حياتها الخاصة، ومثال على ذلك هيلين في قصة تروي والضفدع الذي تحتم عليه التحول إلى أمير عندما تقبله إحدى الفتيات ولا يوجد أيّ شيء نسوي أو جنسي في هذه الأعمال، وإنما كلّ هذه الشخصيات الأسطورية أرادت أن تدير ظهرها للقصة التي كتبت عنها، الأمر عينه نراه يحصل مع الشخصيات التي قامت بابتكارها، كالفتاة التي انتقلت إلى جزيرة صحراوية بعيدة بواسطة قبعتها الكبيرة وشخصية جون الذي كان يمشي يوما كاملا بالقرب من لوحة موجودة في المعرض الوطني وأخيرا سحب إلى داخل اللوحة ليقضي بقية حياته على شاطئ مرسوم وغابة مظلمة ومناظر طبيعية خلابة.

بين الإغريق والرومان
إحدى أروع وأشهر النصوص المعاد كتابتها والأكثر حزنا، نص “أفكار عن الشخص الأتي من برولوك”. فمن خلال قراءة القصيدة يتبين أخيرا أن الشخص الأتي من برولوك هو الموت أو رسول الموت، حيث أن ستيفي سميث تميل إلى الأفكار الإغريقية والرومانية فيما يخص فكرة الموت أكثر من ميلها إلى الأفكار المسيحية، إذ أنها تعتقد أن الموت يجب أن يأتي عندما نقوم بطلبه؛ والعديد من شخصياتها – ابتداءا من “بومباي” في “رواية على صفحة صفراء” إلى “العقرب” في نهاية أعظم قصيدة لها – نجدها تقوم بمناداة الموت كي يأتي إليها، ولكنها في الوقت عينه تمتلك شخصية رزينة وترفض الأشخاص الذين يستسلمون بسهولة، ففي قصيدتها “الشخص الأتي من برولوك” توصي بالعمل والمرح كبديل عن التخاذل والإندثار:
“ابتسم ابتسم واحصل على عمل تقوم به
ستصبح بعدها عمليا بلا وعي
بدلا من مجرد الرحيل”..
ضمن مجموعة القصائد التي لم تجمع وتمّت إضافتها إلى هذه الطبعة الجديدة يوجد مثال قوي ومذهل لنقاشاتها حول فكرة الرحيل:
“نهضت ورحلت
هل ينبغي ألا تفعل؟
تفعل ماذا؟
الأستيقاظ والرحيل
نعم أظن أن عليها أن تفعل
لأنها تهرم
لأنها ماذا؟”
يبدو هذا النقاش نقاشا متعبا حيث لا يفهم المتحدث والمخاطب بعضهما البعض أو بالكاد يسمعان بعضهما. “ألا تفعل ماذا؟ لأنها ماذا؟”.. تشبه ستيفي في هذا الأسلوب القائم على أبسط لغة ممكنة وعلى تعابير عامية، أسلوب الكاتب بيكيت (صموييل) فتحت هذا الصوت العامي البسيط لديها أثر الأسلوب الشعري ومن الواضح أن المتحدث بصوته المتقطع ونقاطه وتوقفاته وتكراره يحاول قول شيء ما لا يمكن قوله فما هو هذا الشيء؟
كأنها تريد القول إنه إذا كنت تريد الموت يجب أن تقتل تفسك قبل أن تضعف وتكبر في السن وأن يعطى الشخص العجوز والمريض محاولة أخيرة للحرية ولا يجب أن يبقى تحت رحمة العناية والمراقبة، أو من الممكن أن الفكرة ليست جدلية لهذه الدرجة وإنما فقط تريد أن تشير إلى أن فكرة النهوض والرحيل هي من وجهة نظرها الخيار الأمثل…

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى