هل كُشفت هوية الروائية الإيطالية المتخفّيّة إيلينا فيرانتي؟

شكري المبخوت

قد لا تعني إيلينا فيرانتي للقارئ العربيّ شيئاً جديراً بالانتباه، على رغم أنّها روائيّة إيطاليّة تُرجمت إلى نحو أربعين لغة منها العربيّة. وقد لا نعرف من ترجمات رواياتها الستّ إلى العربيّة سوى رواية «أيّام الهجران» (دار شرق غرب، 2007). بيد أنّ أعمالها، لا سيما «رباعيّة نابولي» التي صدرت في إيطاليا، شأنها شأن أوّل عمل أدبيّ أصدرته سنة 1992، عن دار «إدزيوني إي/ أو»، وجدت لدى القرّاء في العالم حظوة كبيرة. وبلغت مبيعاتها باللغة الإيطاليّة مليون نسخة وبالإنكليزيّة مليونين ونصف مليون. أمّا آخر رواية ترجمت لها إلى الألمانيّة (صدرت الصيف الماضي) فبيع منها ربع مليون نسخة.

التخفّي والفضول
ليس في ما ذكرناه عن النجاح التجاريّ وجه الغرابة أو الطرافة. قراؤها جميعاً يعرفون أنّ اسم إلينا فيرانتي هو اسم مستعار، ولا يذكر عن صاحبه على غلاف الروايات إلاّ أنّه ولد في نابولي. وهو ما أثار فضول النقّاد والصحافيّين والقرّاء على السواء. وعلى رغم كثرة المقابلات الصحافية التي تتمّ عبر البريد الإلكتروني والكتاب الوحيد غير التخييليّ الذي وضعته بطلب من دار النشر للحديث عن حياتها فإنّ المؤلّفة (المؤلّف؟) متمسّكة بأن تظلّ مجهولة. ولها في ذلك تعليلان صريحان. أوّلهما يعود إلى طبع فيها إذ تقول في هذا الصدد: « كنت أخاف من فكرة الخروج من قوقعتي فغلب عليّ حيائي»، وثانيهما تأثير نظريّات موت المؤلّف في الستينات من القرن العشرين وتقول ملمّحة إلى ذلك: «اعتقد بأنّ الكتب ما إن تؤلّف حتّى تكون في غير حاجة إلى مؤلّفيها».
لكنّ هذه التصريحات لم تزد القرّاء والصحافيين إلاّ إصراراً على معرفة هذا الكاتب – النجم الذي يريد أن يتخفّى. وبالفعل أجرى صحافي إيطاليّ مستقلّ تحقيقاً استقصائياً جدّياً لكشف هوّيّة الكاتب. وما يدلّ على جدّيّة هذا التحقيق أنّ صاحبه نشره بصفة متزامنة في 2 تشرين الأول (أكتوبر) في موقع «ميديا بارت» الفرنسيّ وفي صحيفتين إيطاليّة وألمانيّة، علاوة على ملحق الكتب الشهير في نيويورك تايمز. والمعروف أنّ كلاوديو غاتي، صاحب التحقيق، هو صحافي استقصائيّ في أشهر صحيفة يوميّة اقتصاديّة إيطاليّة، كتب تحقيقات عن اللاّجئين والمجموعات الإرهابيّة الإسلاميّة والبنوك. وهو من الأوائل الذين كشفوا فضيحة برنامج النفط مقابل الغذاء. وهو ما يبرز في طريقته في تأكيد أنّ إلينا فيرانتي هي اسم مستعار لأنيتا رجا التي تعمل مترجمة عن الألمانيّة وتتعامل مع دار النشر التي اصدرت كلّ كتاباتها (إدزيوني إي / أو).
راجع كلاوديو غاتي الوثائق المتعلّقة بالممتلكات العقاريّة لأنيتا رجا وفي حسابات دار النشر. وجد أنّها اقتنت بيتاً يتكوّن من سبع غرف في أحد أحياء روما الباهظة الراقية وبيتاً ريفيّاً في توسكانا. بيد أنّ الحجّة الأقوى أنّ زوجها الكاتب دومينيكو ستارنوني اقتنى بيتاً في روما بمساحة 230 متراً مربّعاً ويتكوّن من إحدى عشرة غرفة يقع في واحد من أجمل أنهج مدينة روما وبناياتها المميّزة. وقد تصل قيمة البيت، وفق التقديرات، إلى مليوني يورو.
وليس من باب المصادفة أن تتزامن هذه العمليّة العقاريّة مع النجاح المالي الكبير لكتب فيرانتي – رجا بعد رواجها في ترجمتها الإنكليزيّة. أمّا فكرة تسجيل الملكيّة العقاريّة باسم الزوج فتفسيرها بسيط إذ هو طريقة للتخفيض في الرسوم على العقارات.
يؤكّد كلاوديو غاتي في تحقيقه – وبأرقام دقيقة – أنّ مداخيل دار النشر ارتفعت سنة 2014 بنسبة 65 في المئة وتضاعفت سنة 2015 بنسبة 150 في المئة. وتدلّ بطاقات خلاص أنيتا رجا من دار النشر على زيادة في مداخيلها توافق في الفترة نفسها هذه النسب التي حققتها دار النشر. ولا يمكن أن تكون هذه الأموال مقابل خدمات الترجمة التي تقوم بها أنيتا رجا. وعموماً بلغت أرباح الكاتبة سبع مرّات ما قبضته عام 2010 من دار النشر حين كان نجاح أعمالها الأدبيّة التجاري مقتصراً على إيطاليا.

سوابق
لم يكن هذا التحقيق الصحافي أوّل محاولة للوصول إلى معرفة هويّة إلينا فيرانتي. لقد انكبّ نقاد أدبٍ على المسألة منذ عقد من الزمن. فابتنوا شبكة قراءة قوامها التحليل اللّغويّ والمقارنة بين الكتّاب الروائيّين. واجتمع فريق من الرياضيّين والفيزيائيّين المنتمين إلى جامعة «لا سبيانزا» لتحليل روايات فيرانتي اعتماداً على برمجيّة صنعوها للغرض. وكانت النتيجة مذهلة وغريبة: يوجد تشابه كبير بين كتبها وكتب دومينيكو ستارنوني زوج أنيتا رجا. ولئن ذكرت أسماء أخرى على سبيل الترجيح فإنّ الاقتراب من دائرة أنيتا رجا يبدو مهمّاً جدّاً. بيد أنّ ميزة التحقيق الصحافي الأخير لغاتي تكمن في أنّه قدّم أدلّة ملموسة ولم يقم على افتراضات أدبيّة أو تخمينات نصّيّة.
وبالعودة إلى حكاية الفضول لمعرفة من يتخفّى وراء اسم إلينا فيرانتي نجد أنّ الافتراضات تراكمت وانتشرت أكثر مع وصول رواية «حكاية الطفلة المفقودة» (2015) إلى القائمة القصيرة لأشهر جائزة أدبيّة إيطاليّة وهي جائزة «ستريغا». مع الإشارة إلى أنّ مجلّة «فورين بوليسي» الأميركيّة سبق لها أن أدرجت إلينا فيرانتي في قائمة أشدّ الشخصيّات الفكريّة تأثيراً في العالم عام 2014.
وفي خضمّ الشكوك والفرضيّات ظهر اسما الناشرين ساندرو فيري وسندرا أوزولا (يملكان دار النشر»إدزيوني إي/ أو) واسم ناقد أدبيّ ومنشئ مجلاّت ثقافيّة مهمة اسمه جوفريدو فوفي، اضافة الى اسم دومينيكو ستارنوني زوج أنيتا رجا. وجازف ملحق يوم الأحد من صحيفة «كورييري ديلا سيرا» الشهيرة بذكر أستاذة في التاريخ المعاصر تدرّس في جامعة فيديريكو الثاني بنابولي اسمها مارسيلا مارمو. فهل تكون حجج غاتي الماليّة الدامغة كافية لإماطة اللّثام عن هويّة إلينا فيرانتي؟ ولكن، قبل هذا وبعده، ما القيمة الأدبيّة لمعرفة هويّة المؤلّف؟ هل يفيد ذلك في تبيّن أسلوبه أو خصائص الكتابة عنده وموضوعاتها أو العالم الذي يبنيه في روايته؟ ألا يقوم هذا الفضول الذي يبلغ درجة التلصّص على التسليم بأنّ الروائيّ- وإن تخفّى- يكتب سيرته الذاتيّة على نحو من الأنحاء؟ فهل تعني معرفة حياته «الواقعيّة» شيئاً في تذوّق حياته على النحو الذي صيغت به روائيّاً؟
وهل يجوز للنقاد والقرّاء والصحافيين أن يردّوا على الروائيّ رغبته في أن يظلّ مجهولاً؟ وهل يبرّر الإعجاب بكاتب مّا التطفّل على معطياته الشخصيّة وممتلكاته وحساباته البنكيّة على ما هو الحال في التحقيق الذي أنجزه غاتي؟ هل تعني مثل هذه التحقيقات، على طرافتها، أنّ القرّاء والصحافيين غير مقتنعين بفكرة موت المؤلّف بقطع النظر عن مبرّراتها ووجاهتها وأنّ الجمهور في حاجة إلى «نجوم للأدب» يغذّي بصورهم وبحضورهم المادّيّ مخيّلته؟

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى