كمال ميرزا.. خيبات عربية

رانية الجعبري

مَن قال إن وقت الأسئلة الكبيرة قد فات!
مهما بلغنا من الانحدار في هذه الأمة المتباكية على مجدها، فثمة مكان للأسئلة الكبيرة.. أحد هذه الأسئلة دفع ثمنه الكاتب والمفكر الأردني اليساري ناهض حتر من دمه في الشهر المنصرم، عندما قام بنشر كاريكاتير ينقد وجهة نظر المتطرفين للجنة والحور العين. أسئلة قد تفضح رابطنا بديننا الحنيف، فجّرته ساحة الحرب السورية، وسينفرط كمسبحة لنقف بمواجهة أسلوب معتقدنا ونظرتنا إلى الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
أحد هذه الأسئلة طرحها قبل سنوات الكاتب كمال ميرزا عندما كتب قصة سعد اليتيم، في مجموعته القصصية «عبودة وأربع عشرة قصة قصيرة» (*)، ولعل الحديث عن الحور العين – الذي تمّ بسبب اختزال تاريخ وحضارة من قبل الجماعات الارهابية في سورية بمعطيات مادية بحتة – كان محركاً له لأن يُنطق بطل قصته سعد اليتيم الذي كان يلجأ للمسجد ليتمكن من الدراسة هارباً من غرفته اليتيمة الضيقة، فيسأل شيخ الجامع الذي كان يحدث المصلين عن الحور العين بمنطق مادي يفيض بالشبق «طيب يا شيخ هي الجنة ما فيها غير حوريات؟ يعني مثلاً اللي ما عندو أم بالدنيا وبدوش حوريات، ربنا بعطيه أم بالجنة؟».
سؤال فيه من القوة الروحانية ما يؤهله أن يدكّ أسلوب تديُّن بأكمله، اعتدنا على الاعتقاد به في منطقتنا منذ تحالف رأس المال مع الدين الوهابي مطلع القرن الماضي، فأصبح تديننا ماديّاً جافاً. سؤال يوقظ ذلك التديُّن العذب، الذي خدّرته السياسة، تدين المحبة والخير، تدين ينظم حياتنا بتؤدة، ولا يسلط سيفه على تفاصيلها سالباً الروح منها، كما فعلت الوهابية. سؤال يهزّ أركان المادية التي سلبت الروح من تديننا على مدى عقود، سؤال لم يصدر من شاب علماني أو يساري، بل من شاب يحدث الله سرّاً في جيئته وذهابه، ويسأله «أليس للمحبين مكان هناك؟».

صدمة لغة
على هذه الشاكلة صاغ ميرزا مجموعته القصصية، التي انسرب فيها نحو المجتمع الأردني بكل تفاصيله ومستوياته الاجتماعية بسلاسة عالية، لدرجة أن أحداً لم يشعر بحضور الكاتب وهو يسترق النظر لشخوص في بيئات متباينة في المستوى الاجتماعي والثقافي والمادي. وكيف سيشعر الأبطال والشخوص بحضوره وهو منهم، وهو ابن هذا المجتمع الذي يعيشه بكل ما فيه من شقاء وسعادة وبؤس وأنس وجهل وعلم!
كيف سيشعر الشخوص بحضوره، وقد كتب القصة الأولى على شرفة مقهى شعبي في وسط البلد، شرفة تلقي التحية كل صباح ومساء على المهمّشين في جبل الجوفة، المهمّشين الساعين لالتقاط قوت أيام لا تُرحم! رغم ذلك فإن عينه الناقدة للمجتمع لم تكتف بطبقة دون أخرى، بل إن مَن يقرأ المجموعة يجد نفسه تارة في جولة بين المحافظات ربما، وتارة بين أحياء عمان المهمشة، وأحياناً يجد نفسه في مواجهة أهلها أصحاب العيش الرغيد، وأحياناً قد يجد نفسه يتناول المقلوبة مع أسرة من الطبقة الوسطى التي تلفظ أنفاسها الأخيرة في مجتمع طغى فيه الثراء على الكفاية وسحقها.
يدخل ميرزا العالم الخاص ببطل كل قصة، ثم ينسرب منه بهدوء، ويلقيه على بساط السخرية غير آبه بانتقاء كلماته، وعند الحديث معه حول عدم انتقاء كلمات لبقة في أحيان تناسب الأجواء التي يفرضها القلم والورقة، يجيب بأنه يريد أن ينقل الصدمة عبر اللغة، متسائلاً «أليس هذا الواقع صادماً بكل ما فيه؟ إذاً كيف سأعبر عنه بلغة وكلمات غير صادمة؟».
إلا أن ذلك لا يعفي ميرزا من الانتقال لمرحلة العناية بالجملة أكثر، حتى وإن لم يستأصل منها كلماته الصادمة، بلغة أدق، لا بد من العناية بالعبارة الصادمة حتى لتخرج كسهم النشاب وتصيب موضعها. ولا تكون العناية بالعبارة الأدبية القائمة على التشبيهات والاستعانة بالبديع، بمعزل عن المنحى الأدبي والفكري الذي ينتمي إليه الأديب والكاتب، بل تعتبر العبارة الأدبية هي ذلك النهر الذي يروي السهول والوديان التي ليست إلا موقف الأديب وفكره ومدرسته الأدبية التي ينتمي إليها.
ففي هذه المجموعة قصص لا يمكن إعلان براءتها من أدب السخرية، السخرية التي يعتقد الناس أنها سبب في ضحك القارئ وابتسامه، وما هي إلا غمس لحظة المرارة في ابتسامة من شأنها أن توقظ الجرح لا أن تطببه، ليكون الأدب الساخر وسيلة القارئ لاكتشاف المفارقات المؤلمة التي يعيشها المجتمع المتناقض ومواجهته بها، وليــس وسيلة لتداول النكتة أو المزاح.
لا يمكن تناول مجموعة ميرزا على بساط التحليل أو العرض هنا، لكن قصة «العاهة» هي إحدى القصص التي يظهر فيها أسلوب الكاتب بتناول المفارقة المؤلمة التي تعاني منها شعوب المنطقة بأكملها، ويقوم بغمسها بضحكة عميقة سرعان ما توقظ المرارة في نفوسنا وأهل القرية يستيقظون على سعي الدولة لخصخصة قريتــهم، عندما طبــــطب حسونة على صخرة كبيرة فانبجست منها مياه كبريتية.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى