حيدر إبراهيم علي يؤكد أن حرب الفتوى ضد الإبداع معركة حياة أو موت

محمد الحمامصي

يرى المفكر السوداني د. حيدر إبراهيم علي في كتابه “سوسيولوجيا الفتوى.. المرأة والفنون نموذجا” الصادر أخيرا عن سلسلة مكتبة الأسرة أن الفتوى فعل بشري يصنع الإنسان معانيه ومؤسساته ويخضع للتغيير والتطور أو التدهور، مؤكدا أن الفتوى في مواجهة وحوار مستمرين مع واقع يطرح مشكلات ومواقف جديدة تحتاج لمرجعية دينية تكسبها شرعية وراهنية معا.

ومن يتابع أسئلة الفتوى يلاحظ مدى اشتباكها اليومي مع الواقع، وهي تلاحق عالما شديد الحركة مما يفقدها تعاليها وقدسيتها ويربطها أكثر بالأرض.

ويهتم د. حيدر في كتابه بسوسيولوجيا الفتوى التي تراوح بين المتسامي ـ الأعلى والعادي اليومي في محاولة يراها مستمية لتجاوز التناقض والتعارض بين الحياة ـ الإنسان والسماء ـ الله، ويقول: “هذه ليست سمة جديدة للفتوى بل هي جزء من تاريخها منذ انقضاء عهد النبوة والراشدين حيث ازداد اشتباك النص مع الواقع في غياب المرجعية المباشرة المتمثلة في الوحي أو رفقة وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وتولدت الحاجة إلى الوسطاء، وهنا نبتت ظاهرة الفتوى وملحقاتها والآن يزداد الحاضر تعقيدا وتتراكم فيه المحدثات مما يفرض على الفتوى تحديات صعبة تنزع عنها القداسة والتعالي مهما توشجت بالآيات والأحاديث، وفي محاولة الدين ألا يتخلف عن التاريخ يستنجد باستمرار بالفتوى التي بدورها تلهث للحاق بعالم سريع التطور وهذا ما يفسر الحضور الطاغي والكثيف للفتوى في الآونة الأخيرة”.

ويشير إلى أن المشكلة لدى معارضي الاجتهاد والإبداع أنهم يقومون بقياس فاسد حين يقارنون التجديد في العبادات بالتجديد في المعاملات والأفكار، وهذا مما يسهل عملية التكفير والاتهام بالردة، ولكن مع ظهور الدعوة إلى تجديد الفكر الديني أو الخطاب الديني انتقل النقاش إلى مضمون المعاملات والعقيدة وكيف يمكن تطويرها أو توظيفها في عملية التجديد والحداثة والإصلاح؟ وهي المفاهيم التي فرضت نفسها على الفكر العربي الإسلامي بقوة حاملة الكثير من التحديات والإشكاليات التي لا تحتمل التأجيل أو الهروب، ففكرة الدين الشامل التي يوصف أو يتميز بها الإسلام تجعل كل مجالات الحياة خاضعة للفهم الديني.

ويضيف حيدر أن هناك تديينا جارفا للسياسة والفنون والآداب والترفيه والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.. إلخ، وكان من الطبيعي أن يصطدم الفهم الديني بالإبداع والتجديد والتحديث، لأن الحياة في حركة مستمرة وتحول وتغيير ازداد سرعة في العصر الحديث. خاصة أن التقدم ينتج مزيدا من التقدم، وقد نقول التخلف يلد تخلفا، وما يسمى صراع الحضارات قد لا يكون عمليا بل داخليا، فالمجتمعات العربية والإسلامية لم تعد قادرة على ادعاء عزلة عن العالم بل هي عرضة باستمرار وعمق إلى تأثيرات خارجية تصل إلى كل شيء، فهناك صدام وصراع داخل الثقافة الواحدة، ذلك الصراع بين الإبداع والاتباع.

ويرى أن كتابات أدونيس تستحق التوقف والتأمل كونها تمثل التأسيس لجدل الإبداع والاتباع، ويقول “أمسك أدونيس بالأسباب الحقيقية للاتباعية ووجدها في سيطرة العقلية الدينية، فالدين مرجعية فكرية بلا منازع لذا اهتم بالاتباعية في السنة والفقه، يقول: “تقوم الاتباعية على الإيمان بأولية ثابتة، كاملة ومطلقة وتتدرج الأولية بدءا من الأصل الأول: القرآن، فالأول هو الأقرب للقرآن والنبي بهذا التدرج هو الأول”.

ويؤكد د. حيدر أن معركة الإبداع هي أهم التحديات لأن الانتصار فيها يعني انتصار الحرية والاختلاف وقبول الآخر ـ المختلف أي انتصار الديمقراطية بمعناها الشامل وليس مجرد المعنى السياسي والتداول السلمي للسلطة فقط، ولكن الإيذان بمغامرة العقل بلا حدود وهذه بداية التنافس مع العالم واللحاق بالعصر الذي نعيش الفوات ضمن حركته السريعة. لذلك نجزم بأن ما يدور في الساحة الفكرية بكل مضامينها هو في جوهره صراع الإبداع والاتباع بالتسميات والتنويعات المختلفة. لذلك فإن من يرى استبدال مفهوم الاجتهاد بالابداع، لأن الأول مشدود بطريقة أو أخرى بأصول أو ثوابت. فهل يمكن أن تحدث قطيعة معرفية من خلال الاجتهاد؟ ولكن هناك من يسألون: وهل القطيعة المعرفية ضرورة في السياق العربي ـ الإسلامي؟ ألا يمكن أن يكون الاجتهاد خصوصية في الإبداع؟ هذه هي المعضلة التي يصعب حلها ذهنيا أي على مستوى البناء الفوقي.

ويوضح أن السؤال قد يكون مطروحا بقوة إذا لازم الفكر تحولات على مستوى التحولات الاجتماعية ـ الاقتصادية، فالمجتمعات العربية ـ الإسلامية مازالت راكدة وغير منتجة ولم تدخلها الصناعات ولا الزراعة المميكنة ولا اندمجت في السوق العالمية بندية ولا تعرف أخلاقيات العمل وبالتالي احترام الوقت والمؤسسية.

وهذا ما يفسر كيف يمكن أن تستيقظ فتوى نائمة من قرون لكي تحاول الإجابة عن مشكلة وليدة في القرن الحادي والعشرين، فالفتوى نموذج للحديث المستمر للماضي وللنظر إلى الحاضر ـ كما يقال ـ بعيون الموتى مع جهد أو اجتهاد أن تكون مثل عيون الأحياء، فهذه الاستمرارية هي مقابل لاستمرارية مضمون الحياة الاجتماعية والتي قد تكون تغيرت شكليا وظاهريا بسبب الاستهلاكية والتبعية، فتبدو المجتمعات العربية وكأنها تعيش حين تستخدم وسائله والتي لم تنتجها أو تصنعها، مع بقاء العقل والرؤية في عصر آخر. وهذه الازدواجية هي التي تغلب الاتباعية وسط العواصف لأنها أكثر أمانا فهي قائمة على معرفة معروفة ومنجزة تكفي شر التساؤل والشك المرهق والمفزع.

وركز د. حيدر على قضيتين مهمتين إحداهما مجتمعية وهي المرأة، والثانية إبداعية وهي الفنون الجميلة، حيث يرى أن الفقهاء اختزلوا قضايا المجتمع والدنيا كلها في المرأة باعتبارها سبب كل الشرور والهزائم التي حاقت بنا. إذ تقلص مفهوم الشرف والكرامة ليقتصر على جسد وسلوك المرأة فقط. وكأن التفريط في الأرض أهون من التفريط في العرض أو أن سرقة المال العام والرشوة والفساد عموما لا تمس الشرف ولا تمثل عيبا، لقد أصبح الانشغال بالمرأة مفزعا لأنه يلهينا عن قضايا كبرى، ويستنزف كثيرا من الوقت والجهد الفكري، أما شئون التحريم والتكفير في الابداع بالذات الفنون والآداب، فهي تستهدف روح الإنسان المسلم وتوقف تطلعه وسموه نحو آفاق غير أرضية أو دنيوية، فهي أي الفتوى تقوم بعمل خطير ضد أجمل ما في الإنسان عموما. وكأن المفتي أو الداعية يريد أن يقوم بعملية حيونة للإنسان أي جعله مهتما فقط بما يأكل ويشرب ويلبس، وهذا نفسه غير متاح بكرامة.

ويحذر حيدر من خطورة الفتوى على الابداع “إن الحرب التي تشن ضد الابداع بواسطة الفتوى هي معركة حياة أو موت الإنسان داخل الفرد المسلم، فالإنسان الذي لا تحركه الموسيقى والصوت الجميل أو لا تشبع روحه اللوحة الجيدة أو الرواية المتقنة أو القصيدة الرائعة المنعشة لا يستحق صفة إنسان لأنه بلا ذوق ولا حدس ولا خيال.

يتألف الكتاب من مقدمة، وسبعة فصول، تعرض في أولها إلى الأبعاد السوسيولوجية الاجتماعية للفتوى، وتابع مراحل تطورها ومكانتها في المجتمع عبر التاريخ الإسلامي، وتناول في الثاني، تاريخ الفتوى: المعنى والشروط والمؤسسة المناط بها إصدار الفتاوى أو الإشراف عليها، وأحياناً التحكم فيها وبها، خاصة في العهد العثماني وما بعده، وفي الفصل الثالث “الفتوى.. الأنسنة والتنوع” تعرض لنظرية المقاصد والحيل الشرعية وسد الذرائع، والاجتهاد، أسسه وطرائقه ومحدداته، مؤكدا أن فكرة الاجتهاد تتميز في السماح بالتدخل ـ ضمن شروط ـ في النص المقدس، وفي تطويره وزيادة مرونته، بل يذهب إلى أن الاجتهاد يمكن اعتباره شكلًا من أشكال علمنة الدين.

ويختص الفصل الرابع بمجالات التنوع والاختلاف والخلاف، مركزا على تغير الفتوى وفقه الحكم، حيث يرى حيدر أن المسلمين اعتمدوا أثناء حياة الرسول على الوحي لتسديد الخطى وحل المسائل المعقدة، وبعد وفاته استندوا إلى كتاب الله وسنة نبيه وإجماع الأمة.. وأنه مع اتساع الدولة الإسلامية وانتشار المسلمين، وتغير ظروف حياتهم ومتطلباتها عبر العصور أدخل بعض الفقهاء والكتاب مفهوم فقه الواقع.

وتناول الفصل الخامس إشكاليات التجديد والتنوع، حيث يشير المؤلف إلى أنه بعدما أصبح المسلمون مواجهين بأخطار خارجية وداخلية ومن ثم كان على الفقه الإسلامي أن يستجيب إلى ما درج على تسميته بالتحديات الحضارية في الأدبيات المعاصرة.

ويستعرض د. حيدر مجمل الحركات والشخصيات الإصلاحية الدينية في العصر الحديث، من محمد بن عبدالوهاب إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وجمال البنا ونظرائهما، وصولاً إلى المرحلة الراهنة حيث الدعاة الجدد خالد الجندي وعمرو خالد وعمر عبدالكافي.

ويناقش في الفصول الباقية قضايا المرأة من حيث الفتوى، ليتوقف عند قضايا الزواج العرفي والخلع والحجاب والختان والسفر وولاية القضاء وحق الافتاء، ثم أخيرا قضايا الفنون والآداب مع الفتوى مثل النحت والرسم والغناء والسماع والسينما والأدب.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى