توفيق الباشا.. صلابة الحرفية العالية

عمار مروة

مع بداية هذا العام ستكون مرّت عشرة أعوام على رحيل أحد أهم أعضاء عصبة الموسيقيين اللبنانيين الخمسة الكبار، المؤلف والمبدع الموسيقي المخضرم والأكاديمي الكبير الأستاذ توفيق الباشا. برحيله دخلت الحياة الموسيقية للتأليف الموسيقي الكبير في لبنان والعالم العربي خصوصاً مرحلة انحسار نوعي مخيف لناحية عدم وجود بدائل تعادل أهمية غياب المؤلفين الكبار خصوصاً في مصر. تكاد هذه الذكرى تمرّ بصمت ودون انتباه لها باستثناء مقطوعة صغيرة من مؤلفاته الموسيقية لعبتها الأوركسترا الوطنية السيمفونية اللبنانية كتحية عرفان صغيرة له.

ما تركه المؤلف الراحل من تراث يحفل بالثراء والعمق والتنوع ويمتد على كل أنواع التأليفات دون استثناء من الصغيرة إلى الآلاتية الكبيرة يشكل مصدر فخر واعتزاز لتراث وحاضر الموسيقى الوطنية اللبنانية والعربية والشرقية ومنارة لأجيال الموسيقيين العرب الذين يخوضون تجاربهم الموسيقية الأولى في مجال الإبداع بحثاً عن مثال ما، ونموذج يحتذى للوصول إلى الأجمل والأفضل من الأغنية إلى الموشح إلى مختلف القوالب العربية وصولاً إلى الأوركسترا السيمفونية الكبيرة، والتي تزهو بأجمل نماذج التأليف.
وبما أن أهم مؤلفاته برأيي الشخصي هي المكتوبة للأوركسترا السيمفونية وما فوق، وهما عملان رائدان خالدان ومميزان بالحكمة والموهبة وصلابة الحرفية العالية، وهما أولا سيمفونية “السلام” الذي أنتجته مؤسسة الأمل البلجيكية أثناء فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وثانياً الأوراتوريو النبوي، فإن أجمل تكريم له هو أن يتم لفت الانتباه إليهما والإضاءة على مكامن الجمال والقوة فيهما… ونتيجة للأهمية الاستثنائية التي يرتديها بحق الأوراتوريو لكونه عملا كبيرا ثوريا يستنهض تراث المنطقة العربية الإسلامية ليعالجه بحكمة وحنكة قلّما نراهما موجودتين بهذه الحساسية والمسؤولية والدراية الأكاديمية ليطوره إلى شكل ومحتوى جديد معاصر يزدهر بسمات عصرنا ليماشيها ويحتفل بها بدرجة عالية من الإبداع والتطوير المنتشر على نسيج بوليفوني موزّع على مائتي موسيقي هم تعداد كورال الأوبرا بالليبريتو والمايسترو الخاص به مضافاً إلى تعداد الأوركسترا السيمفوني الكبير بالمايسترو والمدونة الموسيقية الكبيرة المعقدة الخاصة بهذا العمل. فأنا كاتب هذه السطور أعتقد أن أجمل تكريم لهذا المؤلف الاستثنائي يكون بالإضاءة على هذا الأوراتوريو بشكل جدّي وموضوعي يتوازى مع ما فيه من سمو وخصوبة وثراء وعمق. قبل الدخول إلى عالم هذا الأوراتوريو يجب لفت النظر إلى أنه موجود في أدراج تلفزيون المستقبل بنسخته المثالية المصوّرة والتي تكاد تكون منسيّة!!
تجاهل أم غباء ولا يدري أحد من القيّمين على هذه الوسيلة الإعلامية بأهمية ما يملكون، وهو ما يدعو للأسف والحزن من جهة وللتعجب لمستوى الاستخفاف بالغالي والثمين من تراث لبنان والعرب والشرق! هل هو جهل أم تجاهل أم غباء… الله وحده يعلم!
في أواخر أربعينيات القرن الماضي وأوائل خمسينياته تضافرت عوامل عديدة (لا مكان فيها أو بينها للصدفة) لتنضج ظروف العمل الفني الكبير الذي لطالما حلمت وسعت لتحقيقه سيدة أميركية ذات شخصية استثنائية إسمها “نيلا كروم كوك”.
“المولد”: هكذا واجهت “نيلا” المؤلف الموسيقي الأستاذ توفيق الباشا الذي كان في بداية مشواره الفني والذي كانت هذه السيدة تتابعه بصمت من بعيد، وتستمع بانتباه إلى كل ما يبثّه من مؤلفات وموشحات عبر قيادته لأوركسترا إذاعة الشرق الأدنى من يافا. يومها، كانت تلقبّه بشوبان العرب.
في إحدى الأمسيات، دخلت عليه فجأة عبر مدير تلك الإذاعة ودون سابق معرفة، نظرت مباشرة إلى عينيه وقالت دون مقدمات: “أريد أن أعمل على موضوع ولادة الرسول العربي الكريم محمد تحت عنوان المولد” وبدأت تشرح له تصوراتها لمشروع يجمع بين الموسيقى والغناء والمسرح والشعر والإيماء والتصوف والرقص… وأفاضت نيلا ليظهر للباشا لاحقاً أنه أمام سيدة استثنائية متمكّنة بشكل عميق وموسوعي من روافد ومصادر التراث الحضاري المتنوع لمنطقة الشرق العربي والأوسط والأدنى حتى حدود الهند وجوارها. كانت تجيد بطلاقة إلى جانب الإنكليزية والفرنسية والإسبانية اللغات العربية والفارسية واليونانية الحديثة والقديمة. وكانت منفتحة ومطّلعة على فلسفات وديانات وتاريخ كل ما مرّ على حضارات تلك المنطقة بشكل شامل ومتنوّر دون أي تعصّب لأي منها، حتى قيل أنه لم يجرؤ أي عالم أو فيلسوف أو مؤرخ أن يدحض لها رأي أمام شمولية وعمق ودراية معارفها، حتى أن المراجع الدينية المتبحّرين الذين كانوا يقفون على رأس ديانات وطوائف تلك المنطقة كانوا يهابونها عندما تستعرض أمامهم اجتهاداتها. كما قيل إنها استشرفت جوانب فنية من بعض آيات القرآن الكريم التي لامست في تشابك أبعادها المادية والروحية امتدادات جمالية لها علاقة بالقصص والأدب وبعض الأشكال الفنية التي رافقت برأيها تطور الفنون عبر الحضارات الشرقية خلال المسيرة الإنسانية في أشكالها البسيطة التي سبقت الإسلام، ثم لامسها الخطاب الديني أثناء الإسلام وبعده مروراً بمسلمي الأندلس ونهاية بعصر النهضة وتعدد فنونه وتطورها وانعكاسها في تاريخ الفن. أما أكثر ما أرادت أن تتناوله في مشروع المولد لتربطه بما ذكرناه أعلاه، ثم بمولد الرسول، فكان ارتباطه بالعلاقة الروحية التي استنبطها الشعراء المتصوفة الكبار عبر ما أخذهم وجدانياً من الرسالة المحمدية إلى آفاق التسامح وقبول الآخر وعلاقة كل ما يربطها كلها بمتاهات وحدة الوجود. كانت تجد في “إبن عربي” قمة الصوفية، ومن خلال أفكاره وشعره وتراثه انفتحت في قلبها فضاءات لم يبدُ للباشا أنها كانت لتستقر تعبيرياً وفنياً على توازن، ما يجمع بين قلق تحياة وطمأنينة تسعى إليها، لترميزه فنياً على الواقع الديني العربي المأزوم بالقشور والطقوس السلفية المتحجّرة في ثبات لا مبرر له، مقارَنة بفهمها المتطور للإسلام الذي عبره ارادت ترميزه بالصوت والصورة والجسد والحركة المختلفة الهوى والهوية حيث لا فضل لعربي على أجنبي إلا بالإبداع (الجدير بالذكر أن هذه السيدة أعلنت إسلامها سنة ۱۹٥۱). لم يكن لعلاقات السيدة كوك وتأثيرها أي سقف، خصوصاً مع ملوك المنطقة وأميراتها والرؤساء والفنانين ومصادر التمويل! كانت من صنف النساء الذين يعرفون ما يريدون ولن يقف شيء أو سبب في طريق تحقيقه.
وجدت ضالتها الموسيقية يومها من بين جميع الموسيقيين العرب الذين قابلتهم بالموسيقي الشاب فجلبت له أهم كوريغراف من النمسا ومدربين ومؤدِّين من اليونان وإيران ولبنان (كان من بينهم أبو صبحي كركلا والد الأستاذ عبد الحليم كركلا). عندما تأكّد الباشا أنه أمام سيدة مقتدرة ذات باع طويل ولن يقف شيء أمام ما تريد تحقيقه، حدّثها بصدق عن الأسس الواقعية لإرساء التوازن الفني الذي يربط العلاقة بين الشعر والتراث الصوفي وبين واقع الجمهور العربي والإسلامي الموجود في الشرق والذي يفهم الأمور بطريقة مغايرة لمفهومها المتنوّر والسامي فنياً وروحياً وهو البعيد عن القشور والجمود خصوصاً في فهم النصوص الدينية وتفسيرها… فكيف بالشعر الصوفي… وطلب منها أن تترك له أمر اختيار تلك النصوص، فالمسألة سوسيولوجياً ليست بسهولتها الفنية لناحية تقبّل الأفكار الصوفية أفقياً بين الناس، حيث شعر محيي الدين ابن عربي وكبار المتصوفة مثل ابن الفارض والحلاج… ليس بمتناول السائد من الوعي لأنه مغرق في غموضه ودلالاته الرمزية وله مفاتيح وألغاز تلعب بذكاء على مسرح اللغة وقواعدها عبر المجاز والجناس والطباق وتعدد المرادفات ومعاني الكلمة في فردانيتها من جهة واجتماعها مع غيرها من جهة أخرى، وانعكاس كل ذلك على نكوص المعنى أو احتمالات إسقاطاته على تعدد أنواع القراءات التاريخية في ظل مستوى امتداداته على البلاغة… تقرأ مثلاً قصيدة لإبن الفارض عاطفية فتنتشي بها، ثم يبهرك لاحقاً إذا تمعّنت فيها أنها في الجوهر روحانية صرفة! لذلك، وبعد إلحاح شديد وشرح مستفيض، انتزع منها الباشا وعداً بأن تترك له أمر الشعر والنصوص ببدائل عما لديها تكون علاقته بالعامة على أقل ما يمكن من التجريد والسوريالية الفنية وأكثر ملامسة للخيال الإسلامي الشعبي الذي يلمس الناس دون تسطيح.
باليه المولد بعد كثير من العمل الدؤوب الراقي والرؤيوي، خرج المشهد الأخير لـ “باليه المولد” (كما استقرّت تسميته النهائية) ليكتمل على بانوراما فنية ثرية ومتعددة المستويات، واستمرت عروضه لسنوات تحصد النجاحات في كبريات مدن الهند إلى مدن باكستان إلى مدن إيران فبغداد فالشام فالقدس فمصر وبحضور الملوك والرؤساء والأميرات وعامة الناس والمواطنين مختلفي المشارب والأديان والانتماءات. لأن الموسيقى التي كتبت بصيغتها الأولى في بداية الخمسينيات كلوحات لباليه المولد تعرضت للضياع من أرشيف الإذاعة، لم يستطع الباشا أن يعيد تسجيلها بالمستوى المطلوب للصيغة الموسيقية الفضلى لا سيما لناحية التكلفة المادية الضخمة أولاً… وعدم توفّر الإمكانيات الموسيقية الضرورية من أوركسترا سيمفونية وكورال أوبرا عربي ثانياً، ونتيجة لتعقد نسيجها البوليفوني ثالثاً… لذلك ظلت الإنشادية حبراً على ورق حتى استطاع الباشا في تسعينيات القرن الماضي أن يقنع تلفزيون المستقبل اللبناني بإنتاجها بالتعاون مع أوركسترا القاهرة السيمفونية، وكورال أوبرا القاهرة الذي كان يبحث يومها عن أعمال رائدة وخالدة على أساس يقارب الأوراتوريو موسيقياً ويحاكي بكفاءة عالية نسيجها البوليفوني شديد التعقيد نتيجة وجود المايسترو المزدوج والمدونة الموسيقية المعقدة… وبذلك ولد أول أوراتوريو عربي إسلامي في الشرق العربي يخوض في مولد الرسول وحياته ومراحل رسالته بشكل حضاري معاصر يحاكي التقدم التقني والفكري والروحي الذي يبتعد به عن القشور البدائية والإسفاف الموسيقي الذي ظل ملازماً وملتصقاً بكل المؤلفات التي تناولت هذا الموضوع موسيقياً أو غنائياً طول الفترة التي سبقت ولادة هذا الأوراتوريو بالذات… حيث خرج هذا العمل على مستوى الرسالة التي جاء بها محمد لينقذ العرب من ظلام الجاهلية وتخلفها… بغض النظر عما يحدث اليوم.
كيف حدث هذا الإبداع الموسيقي المتطور وخرج مشرفاً دون أن يقع في مطبات الخطاب الموسيقي الغنائي السلفي الذي تقارب به الإذاعات المواضيع الدينية؟ سنحاول هنا أن نتطرق له بالتحليل الموسيقي الذي يبتعد عن ملامسة القشور وإغراءات العواطف السهلة لنسلط الضوء على التفاصيل ذات الدلالات الملموسة والمدعمة بالعمق والتحليل.
يصعب الكلام في هذا العمل التركيبي المعقد عن كل عنصر من عناصره بتوسع على حدة دون الغوص بالعناصر الأخرى (كما يكون الكلام عادة على عناصر أغنية عادية)، وذلك لأسباب عامة وأخرى خاصة سنذكرها في سياق العرض التحليلي… فالعناصر تلتقي وتفترق ضمن وحدة معقدة متشابكة تؤكّد المتانة والترابط اللذين يوحّدان العمل ككل لا يتجزّأ والذي ـ العمل ـ تجري عبره معالجة موضوع مرتبط بتاريخ وتراث وحضارة المنطقة العربية الإسلامية بهذا العمق والمحتوى الموسيقي الحضاري المتطور، حيث التقنية العالية التي عالج بها توفيق الباشا تعدد الجمل الموسيقية هارمونياً بعضها ببعض، وربطها بوليفونياً بالكتابة للأصوات الأربعة للكورال على أساس ينهل مما في حوزة الموروث الشعبي الإسلامي من ابتهالات وذكر وأناشيد ومدائح وأهازيج نبوية تم رفعها من شكلها الغنائي البسيط (الساذج موسيقياً) إلى شكل موسيقي مكثف ذي مادة دسمة “مؤركسة” (نسبة إلى الأوركسترا السيمفوني) بشكل خلّاق ولافت. كيف استطاع الباشا عملياً القيام بذلك؟
إذا نظرنا بعين النقد الموسيقي إلى العلاقة المتطورة لميلوديات الباشا على أساس خريطة هارمونية (أوركسترالية كورالية)
أصوات متعددة نجد أنه من الصعب القول (بقد التدقيق في أوراق المدونة الموسيقية) إن الميلودية كانت مسيطرة على النسيج الهارموني للبوليفونيا… كما أنه يصعب قول العكس أيضاً، أي يصعب قول إن الهارمونيا كانت مسيطرة على الميلودية. لتثبيت هذه أو تلك يجب مراعاة ميلودية الموضوع الذي يعمل عليه الباشا كون هذا الموضوع مبنيا على المادة التراثية العربية الإسلامية ( طلع البدر علينا، مدائح أسماء الله الحسنى، ولد الهدى، أهازيج وابتهالات تذكر كثيراً بالأذان والأذكار والمدائح…) حيث الغنائية والشعرية متمسكتان بأوصال ومفاصل تاريخ الموسيقى العربية الذي هو أساساً تاريخ غنائي. كان لا بد للباشا الذي لم يقع في خطورة هذا المطب من أن يمر عبر هذه الأجواء طالما اختار موضوعاً خطيراً موسيقياً من ناحية الشكل والتأليف… لماذا؟ لأن أجواء الوصف ضرورية أولاً لناحية ارتباطها بالزمان والمكان ولناحية التصاقها بذاكرة الناس ومزاجهم ولغتهم ودينهم وتاريخهم (العرب الإسلام، الصحراء، التجويد، الإسراء والمعراج، الهجرة، القيامة…). لذلك ربما نجد أجواء مقام الحجاز تسيطر على الإنشادية بشكل عام، وإذا غاب، تحضر اشتقاقاته. لذلك ما إن تحضر الميلودية في العمل بمقاماتها العربية حتى يجد المستمع لذة وإغراء كبيرين للاستغراق في حميمية اللحن لقوة سحره وجمال أصالته الميلودية، وهذا كان سيبعث حتماً على الاسترخاء لولا الجهود الكبيرة واللافتة في عمقها ونظافتها وثرائها النغمي هارمونياً والتي استفزت تلك الروح لتنتشلها من استرخائها وتجبرها على التفلّت من نزعة الاسترخاء لتأخذها إلى أجواء هارمونية متطوّرة ومبتكرة في حفاظها على الحساسية الشرقية التي عبقت بها بتشابك المقامات هارمونياً ونجحت في الحفاظ عليها من خلال بناء نسيج التوزيع البوليفوني المحكم أفقياً بالحنين الميلودي والمتطورعمودياً بالنضج البوليفوني. اللافت أن المستمع المتخصص يمكن أن يجد أن اللغة الهارمونية لم تنهل من حقبة تاريخية واحدة، بل نرى أمثلة من حقبة الباروك اولاً والكلاسيكية ثانياً والحقبة الرومانطيقية ثالثاً والحقبة النيورومانطيقية رابعاً واخيراً… وحتى هذه الحقبات الأربعة لا يمكن تحديدها على أساس الحركة الواحدة غالباً، لأنه على ما يبدو أن الباشا لا يتعامل في هذه الناحية مع النص الموسيقي أوركسترالياً على أساس تخطيط مسبق أو قرار سلف لنوع محدد من أنواع الهارمونيا… بل نراه يتعامل على أساس احترام كرامة وحساسية المقام الموسيقي الذي يعمل عليه حيث يترك لطبيعة هذا المقام وشخصيته وخواص أوزانه ودرجاته ومفاتيحه لتقرر هي نوع الجملة الهارمونية المناسبة له والموازية لروحه الشرقية… وبذلك يتم وضعه بشكل عفوي في أجواء الزمان والمكان ويحيك فوقه مقاييس الوصف والسرد البوليفوني أوركسترالياً وكورالياً. لذلك، يمكن القول بأن العلاقات التي تتحكم بنوع التراكيب الهارمونية تنبع من خصائص تتمتع بها شخصية توفيق الباشا الموسيقية التي أثبتت حنكة وقدرة كبيرتين في تقمص الحالة التعبيرية للصورة والنص الشعري ليسخّرها ويوظّفها للتأليف والنبرة الموسيقية التأليفية ( وليس العكس كما يحصل عادة في الشرق) خصوصاً ما يتعلق منه بالخشوع الديني، وهذه القدرة هي من خصائص الموسيقيين والأكاديميين الكبار في قمة خبراتهم وتجاربهم!
باختصار: يمكن القول بأن الإنشادية لم تأتِ كلياً لمصلحة الميلودية ولا كلياً لمصلحة الهارمونية وإن ظلت الخريطة البوليفونية تحافظ إلى حد كبير على لغة المقام الميلودي نظيفاً لتضعه في أجواء الزمان والمكان والوصف حتى عندما كانت البوليفونية في أشد أشكالها تشابكاً وتعقيداً، أي اثناء الكتابة الاوركسترالية والكورالية معاً على شكل عمودي، هذه الكتابة التي نهلت لغة وأحكام سردها من اربع حقبات تاريخية لعبت شخصية المؤلف وخبرته وطبيعة المقام الدور الاساسي في تحديدها وتأليفها،
ولقد أكّد الباشا مرة أخرى مراعاته الحساسية الشرقية في عناصر التأليف عندما استخدم عنصرا مهما آخر هو الإيقاعات الشرقية اللافتة التي واكبت روح المقام حتى في أقصى تآلفاته البوليفونية والهارمونية تعقيداً. كيف؟

۱- الحركة: الأولى “المولد”:
بشكل عام يبرز مقام الحجاز بقوة ولا يخفت إلا لتظهر اشتقاقاته. عند المقدمة المعروفة بالبريلود الذي تعزفه آلة الفلوت يبرز مقام الزنجران. نجد أيضاً في هذه الحركة دورا مهما لآلتَي الهارب اللتين تلعبان أربيجات جميلة ترتاح بشكل ميلودي على ميزان الكمنجات من جهة، وميلوديات آلات النفخ من جهة أخرى، (يبرز بوضوح ايقاع الموشحات الكبيرة “تسعة على أربعة”). دور كبير ومهم جداً من حيث الحجم والمدة الزمنية والكثافة البوليفونية أثناء السرد الموسيقي تعبُق وتزدهر الكتابة الكورالية، حيث يلعب الباشا لعبة لافتة وثرية في توزيعه للجملة الشعرية لقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي “ولد الهدى” على الطبقات الصوتية الأربع للمنشدين وذلك عبر توزيع دسم وعميق الدلالة في نسيج الأركسة لدعم التأليف الموسيقي على اسلوب كونترابنطي موزع على أساس التقنيات الفوجالية، وكما هو معروف ان هذه التقنية التي أرسى معالمها باخ هي أكثر ما يناسب الموسيقى العربية في إشراقها الدرامي، خصوصاً هنا كما أبدعها الباشا ليرسم ويلون بها أجواء الأوراتوريات الكبرى.

۲ – الحركة الثانية “إبلاغ الرسالة”:
على عكس الحركات الأخرى، تبدأ هذه الحركة بالإنشاد وليس بالأوركسترا. يفتتح المنشدان المنفردان هذه الحركة بأبيات من قصائد أمير الشعراء:
“سرى بشائر بالهادي ومولده…” تترافق هذه الجملة في بدايتها مع جملة هارمونية للكمنجات تؤديها بشكل كونترابنطي مؤثر. اللافت في هذه الحركة الحضور الجميل والمميز لمقام ” فرح فزا” الذي يقابله سلم “صول الصغير” واللافت أكثر هو الاستعمال الموفق لإيقاع “خبي الخيل” المناسب للمقام الموسيقي والحالة التعبيرية الشعرية حيث قد يجسد خبي الخيل بالمعنى المادي عملية السعي والحركة والنضال التي تصف الصعوبات التي واجهت النبي أثناء تبليغ رسالته.
اللافت هو دور الأوركسترا في المقطع بعد نهاية الإنشاد حيث قطعة موسيقية معبّرة وقوية جاء لذلك فيها دورٌ كبير لآلات النفخ: فلوت أوبوا كلارينيت، أما الهورن فبقي مع الوتريات في الخلفية الهارمونية لآلات النفخ، ما عدا الباصات التي وظفها الباشا في عملية ضخ مزيد من القوة الصوتية التي ساهمت في الوظيفة التعبيرية.

۳ – الحركة الثالثة “الإسراء”:
تبدأ بفكرة موسيقية قوية ذات توزيع كونترابنطي متوازن بين آلات النفخ بأنواعها والوتريات بأنواعها، لا تلبث الفكرة أن تتفاعل إلى فكرة صلب الحركة الثانية التي تتفاعل أيضاً إلى ذروتها لتصل إلى فكرة نهاية الحركة، وتبقى هذه الأفكار الثلاث خلال كل الفترة على المبدأ الكونترابنطي نفسه توزيعاً في توازنه بين النفخ والوتريات لتحاول أن تعبّر موسيقياً عن أجواء الخشوع والعظمة لفكرة “الإسراء والمعراج” ذات المغزى الروحاني الكبير، ويظهر الباشا قدرة ونجاحا كبيرين لدرجة أن بإمكان المستمع أن يبقى في عمق وقوة أجواء الخشوع لو أن الكلام الشعري تم استبداله بصوت آلة موسيقية.
الروح الشرقية تبقى دائماً طاغية على نسيج البوليفونيا خصوصاً عندما يدخل المنشد المنفرد في بداية الفكرة الثانية على شعر أمير الشعراء ليذكّر بالأذان وهو ينشد “أسرى بك الله ليلاً…” وبمقطع آخر ذي دلالة بهذا المعنى هو عند دخول الإنشاد على مقام “النكريز” لينشد بخشوع كبير أسماء الله الحسنى “يا واحد يا هاد يا باق يا غافر…”.

٤ – الحركة الرابعة “الغفران”:
ثلاث أفكار موسيقية تتفاعل على أساس درامي يمليه الخشوع الذي يرافق عملية الغفران تعبيرياً… لذلك، نسمع مقام “أصفهان” واضحاً وهو من أكثر المقامات العربية تعبيراً عن الخشوع وهو أيضاً من اشتقاقات مقام “الحجاز”. الفكرة الموسيقية الأولى ينفذها الكمان صولو ببطء ولكن بقوة ليسلّمها إلى الفكرة الثانية حيث الدور الأساسي لآلات النفخ وخلفها الوتريات هارمونياً، وتصل الفكرة إلى ذروتها لتدخل المنشدة المنفردة إلى الفكرة الثالثة لتعود الأوركسترا (نفخ + وتريات) إلى الخلفية الهارمونية التي تخدم الجملة الأساسية لأصوات الكورال. نلاحظ في هذه الحركة تنوع التراكيب الهارمونية بشكل غير مألوف.

٥ – الحركة الخامسة “الهجرة”:
تجتهد الموسيقى لتصوير ملابسات الهجرة بتفاصيلها بشكل قوي وموفق إلى أقصى الحدود، فنرى قوة التوزيع في بداية الحركة موظّفة لوصف القسوة والخطر والمرارة التي ترافق عملية قطع النبي للصحراء وما رافقه من أهوال وأخطار ومؤامرات على حياته وحياة من معه… حتى الإيقاعات كانت غربية لتوظيفها في هذا الاتجاه… وفجأة عندما تظهر المدينة المنورة وتنجلي الأجواء بالفرج بعد الظلام والخطر تتغير نبرة المقام الموسيقي إلى اجواء الفرح والاستقبال الشعبي الحافل للرسول ليدخل الكورال ويردد المنشدون نشيد أهل المدينة المعروف والعريق تاريخياً: “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع…”.
هنا تركيب لحني جديد “لطلع البدر علينا” يختلف عن اللحن القديم حيث ينوع عليه الباشا بتقنية تأليفية مبتكرة تتماشى مع جو الإنشادية، فيظهر التلوين المقامي بأصوات الكورال مختلف الطبقات بقوة ويقوم بعملية التنويع على اللحن يحدث فيه تغييرا للمقام على تقنية فارياسيون مودال، وينجح فيه بكثير من الروعة.

٦ – الحركة السادسة “حسن الثواب”:
من أجمل مقاطع الإنشادية لوصف عودة الروح الى بارئها بسلام. نرى في هذه الحركة مراجعة للفكرة الموجودة في الحركة الخامسة “الهجرة” على أساس توزيع بوليفوني شديد المتانة يتفاعل بليونة ليشكل جسرا يصل الى اللحن الأساسي فيه بالوتريات، وبدور مهم للنفخ في الخلفية الهارمونية مع مصاحبة رأسية “فيرتيكال” من آلَتَي هارب. يتفاعل نسيج هذه الألحان ببطء ليتصاعد تدريجياً ليصل الى الذروة… حيث تحدث نقلة مقامية غاية في الروعة تلعب فيها آلة الفلوت دورا مهما لتفسح المجال أمام غيرها من الآلات للفكرة الموسيقية الجديدة بعد هذه النقلة / جسر، حيث يدخل بعدها الكورال بالفكرة الجديدة على ايقاع (خمسة على أربعة) ويظهر مقام الأوغروك في إنشاد واحد من أجمل المقاطع تأثيراً، يتبادل خلالها المنشد المنفرد دوراً مهماً جداً امام بقية المنشدين وهم يصورون بالتعبير الموسيقي الراقي مشهد رقص الحور في الجنة (كانت أساساً لوحة من لوحات الباليه). فما أجمل صوت المنشد المنفرد وهو يردد مقطع “الله فوق العرش فيها وحده والناس تحت لواها… أثام…”. وما أجمل غناء الكورال، ينشد بتشويق وحب أبيات “عرش القيامة أنت تحت لوائه…”. قمة في تآلف الانسجام والتعبير!

۷ – الحركة السابعة والأخيرة “القيامة”:
قد لا يوازي قوة، غنى وكثافة الحركة الأولى “المولد” من ناحية عمق التأليف الموسيقي ومتانة النسيج البوليفوني بين آلات الأوركسترا ببعضها من جهة وبين الطبقات الصوتية الأربع للكورال من جهة ثانية، قد لا يوازيها نبوغاً من هذه النواحي إلا قوة التأليف المتطورة الموجودة في الحركة الأخيرة “القيامة”. لماذا؟ لأن عناصر المعاصرة في السرد بلغت أقصاها في قوة التعبير، من حيث الخصب وثراء الترابط من الناحيتين الموسيقية والدرامية. فمن الناحية الموسيقية نجد أن الباشا قد مرّ خلال هذه الحركة على أهم الأفكار الموسيقية الأساسية والمميزة عبر الحركات الست للإنشادية ليعيد حياكة عناصرها في صياغة أوركسترالية غاية في المعاصرة سواء في متانة ربطها ببعضها أو صياغة مفاصلها الهارمونية بشكل مختلف ولافت، حيث تتوالى المفاجآت لناحية التجديد المقامي بشكل كثيف، أولاً من ناحية ترابط الجمل الموسيقية وثانياً لناحية ربطها بعناصر الكورال لتنجح في تجسيد قوة الحدث الدرامي لفكرة “القيامة”. نرى منذ اللحظة الأولى لحركة المدونة الموسيقية حينما يرفع قائد الأوركسترا عصا القيادة أن الباشا قد فتح نسيج الأركسة بقوة على كامل الاصوات الاربعة للكورال من جهة، وكل الديابازون المفتوح لآلات “بكولو والترومبون” وديابازون آلات “الفيولينا – كونترباص” بشكل لم يترك صوت أي آلة من الأوركسترا إلا وقد استفزها لتستنفر كل الطاقة التعبيرية لمساحتها الموسيقية؛ فالنفخ يسعى جاهداً ليصوّر عظمة يوم القيامة متوازياً بذلك مع الوتريات والإيقاع، ويطلق الباشا لعمق موهبته الكبيرة للتأليف على فكرة القيامة، وتحديداً على كلمة “يا رب” على اساس “إكبوزيسيون فيوج” وبمقامات متنوعة ابرزها العمل على أسماء الله الحسنى بكتابة دسمة للكورال على مقام النكريز… ليختم بعدها مباشرة بتآلف صول الكبير يصور عبره الإشراق والانتصار. نهاية مكتنزة الثراء وجديرة بنهايات الأوراتوريات الكبرى.

الكتابة الكورالية ودورها عبر النسيج البوليفوني
الكتابة الكورالية كانت من العناصر اللافتة في الإنشادية لناحية تعاملها مع مادة غنائية تراثية قديمة قِدَم الدعوة الإسلامية. نرى الباشا قد عالجها بالتأليف الموسيقي عبر تقنية الأصوات الأربعة للكورال، فيظهر واضحاً أن للباشا باعاً طويلاً في تسخير فن الكتابة الفجالية بشكل خاص، والتي عادة ما تلعب إلى جانب الأنواع الهارمونية الأخرى دوراً أساسياً في حياكة قالب الأوراتوريا الذي لم يزعم أو يشدد الباشا على الحياكة عليه بشكل صنمي أو جامد بل قاربه من ناحية كونه نوعاً من القوالب السيمفونية التي يدخل الكورال في بنائه وصياغة عمارته بشكل فعال. الكتابة الفوجالية والهارمونية للكورال لا يضيرها إذا تراجعت في بعض الحركات إلى الغناء المفرد بصوت الجماعة “يونيسون” لأن بعض الابتهالات والأهازيج والمدائح القديمة قد لا يتحمل نسيجها الميلودي تقنيات الهارمونيا نتيجة دور المنشد المنفرد في التذكير موسيقياً بالاذكار والتجويد القرآني ومدائح أسماء الله الحسنى… لكننا نجد أن الباشا قد لعب لعبة جميلة ومبتكرة عند وقوعه في هذه الحالات، إذ لجأ عندها إلى تثوير عنصر التلوين المقامي بأصوات الكورال للتعويض عن هذا التراجع إلى “اليونيسون” ، وأجمل مثال على هذا هو ما فعله عند معالجته لنشيد “طلع البدر علينا”. اما في أماكن أخرى من الكتابة الكورالية مثل تبليغ الرسالة، والإسراء، والغفران والهجرة… نرى أن الباشا يلجأ إلى تثوير عناصر أخرى مع غناء اليونيسون مثل تأجيج دور الأوركسترا هارمونياً مثل الجملة الهارمونية للكمنجات على مطلع جملة المنشدَين المنفردَين في الحركة الثانية “تبليغ الرسالة ” وتحديداً في مطلعها عند غناء المقطع الشعري “سرت بشائر بالهادي ومولده…”، وكذلك باستعماله للايقاعات مثل إيقاع خبي الخيل. كما يلجأ كثيراً إلى تثوير عنصر التنويع على المقام والنقل المقامي عند التراجع الى اليونيسون في دور الكورال، كما يحدث في مقطع الإسراء ومقطع الغفران ومقطع القيامة. كثيرة هي عناصر الإبداع في الكتابة الكورالية حتى عندما تتراجع إلى اليونيسون… ولكن أكثر المقاطع قوة وثراء في التأليف البوليفوني كان بلا شك الحركة الأولى، وبالتأكيد الحركة الأخيرة، حيث كان يصل الإبداع فيها إلى أقصى حدوده البوليفونية إشراقاً وتعقيداً!
مع نهاية هذا العرض المتواضع للعناصر الموسيقية للإنشادية يبقى بعض الأمور المهمة التي تجدر الإشارة لها لأهميتها وعلاقتها بالعمل وهذه الأمور هي:
برغم غياب ربع الصوت بقيت الإنشادية قوية المحافظة على المقامات العربية الصميمة الأخرى (والتي لا تحمل نوتة ثلاثة على اربعة من وحدة التوقيت أربعة على أربعة أولاً واثنان على اربعة ثانياً وواحد على اثنين ثالثاً…). ان ربع الصوت حتى تاريخ تأليف الانشادية كان موجوداً في ثلاث مقامات فقط من ثلاثين مقاماً متداولاً ومنها عشرون مقاماً كانت قيد الإعداد يومها… فهناك مقامات عربية غنية جداً بالروح الشرقية لا تتضمن ربع الصوت. والجميل واللافت هو كيفية صياغة الباشا لتلك المقامات وتطويعها في اللعبة البوليفونية للنسيج السيمفوني الأوركسترالي والكورالي، وهذه النقطة تسجل للباشا لتدل على خبرته الطويلة في إدارة وتطويع عملية الأركسة ضمن قوانينها العالمية لمصلحة مشروع العقل الموسيقي العربي المتطور.
كلمة أخيرة: الإنشادية هي أول عمل عربي يقارب الأوراتوريو ويعمل على المادة التراثية التي تحاكي موضوع المولد النبوي الشريف دون أن تستسلم له من الناحية الغنائية التقليدية، بل لتستلهم هذا التراث في بناء ثري خصب ومقتصد يسعى بكل قوة وحنكة للمعاصرة والارتفاع بهذه المادة التراثية إلى شكل ولغة عالميين لتخاطب عناصر اللغة الموسيقية لمشروع العقل الموسيقي العربي في أكثر تجلياته وتقنياته وخصائصه تخصصاً، طموحاً وجرأة، وتنجح بذلك حتماً وإلى حد بعيد!!

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى