منذر مصري: وكأن وطن السوريين صار الشتات والمنافي!

سامر محمد اسماعيل

«قصائدُ طويلةٌ كهذه، تُقرأُ بشُعورٍ منَ السأم، تُقرأُ على عجَل، تُقرأُ مرَّةً واحدة، ثُمَّ لا يعودُ إليها أحد». كلماتٌ يفتتح بها منذر مصري ديوانه الجديد «لمن العالم؟ وسيَرٌ مشبوهةٌ أُخرى (دار نينوى) مسدداً كما يقول «ديونه الشعرية» ومكملاً في كتابه السابع هذا ما كان قد بدأه عام 1978 بإصداره الأول «آمال شاقة» والثاني «بشر وتواريخ وأمكنة» (وزارة الثقافة – 1979). هو الشاعر الذي بقي يكتب نثره على بحر اللاذقية، المدينة التي تسكنه ويسكنها فكتب لها «لا أستطيع مغادرة الأغنية». شاعر من مقامه لا يحتاج إلى عناء التعريف، فقد أوجد لنفسه حفيفاً لغوياً خالصاً منذ سبعينيات القرن الفائت، ماضياً بجيله إلى حساسية لا تزال حتى الآن تعلن عصيانها على كل أشكال التطبيع مع البشاعة والرضوخ للسائد.

«لمن العالم»؟ سؤال يبدو وجودياً ومختلفاً عن عناوين دواوينك السابقة التي ذهبت فيها نحو الحياتيِّ المعيشِ «الشاي ليس بطيئاً»، «من الصعب أن أبتكر صيفاً»، ثم أنك تتبع سؤالك «لمن العالم» بعبارة «وسيَر مشبوهة أُخرى». هل تطلعنا أكثر على شرعية هذا التساؤل وعن ماهية هذه السير المشبوهة؟
كدت أوافقك وأقول: نعم، إنه لا يشبه عناويني السابقة، وإن عدداً من أصدقائي أبدوا لي الاعتراض ذاته، إلاّ أنني بعد تقليب بعض هذه العناوين في رأسي: «آمال شاقة»، «بشر وتواريخ وأمكنة» و «الحب يرى الكره أعمى» وجدته ـ العنوان ـ شبيهاً بها، وأستطيع القول، من نوعها. كما لا أوافقك أيضاً بأن عناوين مثل «الشاي ليس بطيئاً» و «من الصعب أن أبتكر صيفاً» يمكن اعتبارها عناوين مأخوذة مما اصطُلح على وصفه بالحياة المعاشة. كلاهما، برأيي، ينوء بحمولة فائضة من «البديع» الشعري، الذي أنكرته على نفسي، ربما أكثر مما أنكره عليَّ الآخرون… وذلك ما يدفعني للقول، إنه منذ البداية، كان شعري، ربما أكثر مني شخصياً، يضيق بهذا التوصيف الشائع والمتكرر لتجربتي، بأنها تعبّر عن الحياة المعاشة، واليومي، والإنسان الصغير، كما ذهب (محمد جمال باروت) في كتابه «الشعر يكتب اسمه»، لأنه منذ البداية، كانت تواجه وتحاول أن تعطي ما أمكنها من إجابات على الأسئلة الكبيرة كهذا السؤال، منذ باكورتي «آمال شاقة» التي احتوت قصائد مثل «تلال بشرية مربكة وعرة» و «أديم الأرض» القريبة الشبه برؤى مدّعي النبوة. وكذلك في مجموعتي الثانية «بشر وتواريخ وأمكنة»، كقصائد «لا تحية أيها الموتى»، و «الحياة لها معنى أحياناً» و…»الحياة ليست لأحد». إذ… وهنا ما يمكن اعتباره شرعية هذا التساؤل، إن كان للشرعية أي دور في الفن، لا يمكن لأي تجربة شعرية تستحق التسمية أن تخلو من هكذا أسئلة وجودية أو كليّة، عن الحياة والموت والحب والوحدة والحرية… والوطن.

منعطف السبعينيات
تكلمت في أنطولوجيا الشعر السوري المعاصر عما أسميته وقتها بـ «منعطف السبعينيات» في حين تكلم شوقي بغدادي عن «هجمة الستينيات» في الجزء الذي حرره، يبدو الآن مدخلاً مناسباً للحديث عن تلك الأفكار التي رسمتها قصائدك عن كل من علي الجندي وممدوح عدوان، شعراء تلك المرحلة. هل نستطيع القول إن كلا من «المنعطف» و «الهجمة» ترك فجوة مع جيلي التسعينيات ومقتبل الألفية الثالثة؟
هذا سؤال، للأسف، ليست لدي إجابة جاهزة عنه، أقصد لم يكن ضمن دائرة تفكيري حين كتبت «منعطف السبعينيات في الشعر السوري» ولا حين تطرقتُ للتجارب الشعرية التي تلت هذا المنعطف. ولكن إذا قبلنا، بكلا التعبيرين «هجمة جيل الستينيات» و«منعطف جيل السبعينيات» فإنه يمكننا، شكلياً، أن نقول أيضاً «استمرارية جيل الثمانينيات» و «تشتت جيل التسعينيات» و«ضياع جيل العقد الأول من القرن الواحد والعشرين) و(انفجار جيل العقد الثاني…) إلى آخره. الفجوة الكبرى، شكلياً وجوهرياً، أعود وأؤكد، كانت بين جيلي الستينيات والسبعينيات، لا مع، أو في، الأجيال التي جاءت بعدهما… وذلك في كلا المآلين اللذين يمكن توزيع نتاج الأجيال اللاحقة بينهما؛ الأول، كون هذا النتاج استمراراً، والثاني، كونه استنفاداً، أو، ثالثاً في تثمين أعلى، كونه عبوراً، ونفاذاً… له.

(لمن العالم) تقول عنها إنها أسوأ وأطول قصيدة في الشعر العربي الحديث. وهي عن ذلك الشاب اللاذقاني فادي حداد الذي قضى في سن السادسة والعشرين من عمره بعد جولة على الأقدام استمرت ليوم كامل في شوارع اللاذقية. من يقرأ هذا النص يفاجأ بأنه يقترب أيضاً من تلك السرديات الشعرية التي يتكاثف فيها الذاتي مع الموضوعي في التفاتة ذكية وماكرة نحو ما يحدث اليوم في سوريا، برأيك هل يستطيع الشعر أن يكون وثيقة عن زمن من الأزمنة وكيف؟
تعلم، بالنسبة لي، ولزمن طويل، أعتبر أنه أقرب للمعجزة، أنني لم أمت قبل انقضائه، كان نشر قصائدي أمراً متعذراً للغاية، إلاّ أنه بالنسبة لقصيدتي هذه، وهي بالحجم الذي ذكرت، وبالأسلوب اللاشعري الذي طالما اتُهمتُ أنني أسيء به، أول ما أسيء، ليس لتجربتي الشعرية، أو للتجربة الشعرية السورية والعربية، بل للشعر برمته، كان أقرب للمستحيل. إلاّ أنه بعد انتشار الانترنت والمواقع الإلكترونية المتنوعة الأغراض، والمفتوحة للجميع، كان لي أن أنشرها على حلقات في موقع (الحوار المتمدن)، بهذا التوصيف ذاته، فما كان من أصدقاء وشعراء عديدين، إلاّ أن وافقوني عليه دون أدنى تردد، على غير عادتهم، ولا أدري بماذا أرد على وصفك بالذكاء والمكر في التفات هذه القصيدة لما يحدث اليوم في سوريا.
الأمر الذي أستطيع فهمه بكون مقدماته وأسبابه، في رأيي، ما حدث في سوريا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، السنوات التي كتبت فيها هذه القصيدة وبقية قصائد المجموعة، وكذلك معظم قصائد كتابي (داكن). وكون الشعر وثيقة تاريخية، أمرا متفقا عليه منذ (هوميروس) و(دانتي)، كما الشعر العربي (الجاهلي)، كما شعر (المتنبي)… ولكن، من المتفق عليه أيضاً، أنه وثيقة ذات خصوصية، متعلقة به كأحد أنواع الفنون، التي تبدلت وتنوعت طرقها وأغراضها عبر التاريخ، إلاّ أنها دائماً، كانت وما زالت تستخدم الأقنعة، الأمر الذي دفعني مرة لتعريف الشعر بكونه: «توثيقا دقيقا للأكاذيب».
ربقة الأسلوب

مع كل كتاب جديد تبدو أكثر تحرراً من ربقة الأسلوب الذي اشتهرت به منذ كتابك (بشر وتواريخ وأمكنة)، يبدو أنك دائم التفكير في كيفية الفكاك من أن يكون لك أسلوب شعري، لكن بالمقابل تبقى أشعاركَ خاصة وعصيّة على التقليد. برأيك هل يستطيع الشاعر أن يمارس هذا التمويه فنياً مع كل إصدار جديد؟
أظن في سؤالك، بحال تصديقي له، كل ما يطمع أي شاعر ليكونه. ولكني، في الحقيقة، لا أدري، إن كان هناك كبير فرق، فكاك، بين المجموعات الشعرية التي جاءت خلال حقبة معينة، وضمن تجربة معينة. مثل (بشر وتواريخ وأمكنة) مجموعتي الثانية و(دعوة خاصة للجميع… دعوة عامة لشخص واحد) مجموعتي الرابعة، برغم التمويه الذي ذكرت. أما بين (داكن) و(الشاي ليس بطيئاً)، أو بين (لمن العالم؟ وسير مشبوهة أخرى) و(من الصعب أن أبتكر صيفاً)، فأستطيع الادعاء، وأتمنى أن يكون ذلك صحيحاً، بأن هناك فكاكاً حاداً، قطيعة ما. غير أنني وعيت باكراً، أن مهمة الشاعر، أن يتبدل ويتجدد وأن يبقى هو ذاته في آن واحد.

مهدت لكتابك (لمن العالم) بمقدمة طويلة استعرضت فيها منع كتابك (داكن – 1989) من قبل وزارة الثقافة السورية التذي أصدرْتَهُ وصادرَتْهُ، إضافةً لاستعراضك لتلك المشكلة المزمنة مع اتحاد الكتاب العرب الذي رفض قبول عضويتك رغم استكمالك لكل الأوراق المطلوبة منكَ، ما اعتبره سعيد حورانية ومحمد عمران وشوقي بغدادي (فضيحة بجلاجل في بلد كاتم للصوت). فماذا كنت تريد من هذه المقدمة في فترة بتَّ فيها تردد كثيراً أنك في صدد كتابة قصائد – المذكرات لا سيما عن تلك الفترة من حياتك التي قضيتها في بولونيا؟
نعم، بتّ أُكثر من المقدّمات، كما أن هناك مَن نبهني لتكراري هاتين الواقعتين أكثر مما ينبغي، حدث هذا في أغلب مقابلاتي، وفي عدد الآداب عن الرقابة في سورية، وكذلك في مقدمة (ساقا الشهوة) في (داكن). وأظنهم محقّين، وعليّ أن أخرج من هذا الشعور المُمِض، بالانتقاص، وبكوني مجهولاً، وربما بالرغبة بالانتقام أيضاً… ولأنه ربما كان من مصلحتي، ولولاه، لكان لتجربتي ومسيرتي الشعرية أن تأخذ طريقاً آخر، ما كان له أن يوصلني لما أنا عليه اليوم. مهما يكن، أعمل على إصدار مجموعتين شعريتين في المستقبل القريب، كانتا في الأصل مجموعة واحدة، إلاّ أنني لضخامة حجمها، قمت بتقسيمها إلى مجموعتين، ليستا بدورهما صغيرتين على الإطلاق، كتبي كلها لا تُقرأ بجلسة واحدة في الحمّام: (بولونيزات) و(تجارب ناقصة). وهما آخر ما في جعبتي من القصائد التي كتبتُها في ثمانينيات القرن الماضي. رغم أن الاختلاف الشديد بينهما أولى بأن يجمعا معاً، فبينما (بولونيزات) قصائد سردية وواقعية، لحد السوقية أحياناً كثيرة، فإن (تجارب ناقصة) نقيضها تماماً، شعرية خيالية فنية بحتة… وأظنني سأعرض هذا على الناشر لنتخذ قراراً مشتركاً به. إلاّ أن ما يقلقني في جمعهما أو فصلهما شيء آخر ليس هنا المجال لذكره.

الحرب قدمت العديد من الكتابات والأصوات الشعرية الجديدة، هل اطلعت عليها، وكيف تعلق على طبيعة هذا النص الشعري الجديد في سوريا الحرب؟
أستطيع القول اطلعت على أغلبها، وبعضها اطلعت عليه اطلاعاً في غاية القرب. وأحسب من الصعب عليَّ أن أحدد طبيعة هذه النصوص، التي بعضها، وإن كانت الحرب، أو الثورة، أو المأساة، موضوعها، ليست نصوصاً شعرية جديدة، بالمعنى الفني الكلمة. إلاّ أن البعض الآخر منها هو كذلك حقاً، وتحضرني أسماء عديدة، ولكنك، لم تطلب مني ذكر أي منها، لأنك تعلم كم الأسماء شائكة ودبقة في الوقت نفسه. ولكن ما يصل تأثيره لحد الصدمة في داخلي هو أن أغلبها، وربما أهمها، كتبها سوريون باتوا يحيون خارج سوريا، وقد صدرت خارج وطنها ومحيطها، ولا تباع وتوزع في مكتباته ومعارض كتبه، وكأن وطن السوريين صار الشتات والمنافي والعالم الافتراضي، فأي مستقبل وأي مصير سيكون لشعرنا إذاً… إذا لم يبقَ هناك سوريا، إذا لم تبقَ سوريا وطناً لنا جميعاً.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى