سعدي يوسف… من «قَرْدِستان» إلى الجاهلية الأولى

محمد الديهاجي

إنني لا أقول بدعا، إن قلتُ اليوم، إن بعض الشعراء، ممّن ينتسبون لجيل الطليعة أضحى شغلهم الشاغل والأنكد، هو تصدّيهم للحتمية التاريخية، بعد أن نادوا، في السابق، بضرورة التغيير والتجديد وحتميتهما. ولا يغرّنك، في ذلك، تقلُّبُهم؛ إذ ليس في ذلك من الاختراع أو السَّبْق أوْ وصلهما بالرِّيادة، أيّ صلة. ربما قد يكون لهذا علاقة بمقولة «صراع الأجيال» ممكن.
فكاهةٌ سأرويها، في هذا الإطار، وسأعتبرها تمهيدا لهذا المقال. في إحدى المناسبات الشعرية، في مدينة بركان المغربية (يناير/كانون الثاني2015)، كنا نجلس كلَّ ليلة، على هامش البرنامج الرسمي، في إطار سمر ليلي، يَقرأُ فيه الشعراءُ جديدهم، أو نتداول فيه راهن الشعر المغربي؛ وإذا بشاعر معروف (لا علاقة له بسعدي يوسف)، ذات سمرٍ، لعِبتْ به الدِّنانُ كثيرا، حتى جعلته ينام ملء جفونه عن شواردها، ليُقاطع الجميع من دون إذن من مُسيِّرِ الجلسة، قائلا بوقاحة: في المغرب، خمسة أو ستة شعراء على الأكثر. وأنا أولهم. وسكت من دون إتمام باقي الأسماء، أخذا بعين الاعتبار، عزيزي القارئ، أنه لا يؤمن بقصيدة النثر، ولا يعترف بشعرائها.
وفي العلاقة بهذه الجرأة الزائدة، والثقة العمياء، لاحظت في السنوات الأخيرة، أن الشاعر العراقي الطليعي والطلائعي، الأستاذ سعدي يوسف، موضوع هذا الحيز، أضحى هو الآخر، يُتقن جيدا ممارسة هذا التمرين، غير المقبول البتة، وذلك بقصد وتَعَمُّد؛ إلى درجة أنه أصبح مهووسا بإثارة الزوابع والتوابع، بدل الاشتغال والانشغال بالشعر؛ إذ إنه ما فتئ، بسبب خرجاته الإعلامية المُستفزة والمثيرة للجدل، يُثيرُ نقاشات واسعة، في الصالونات والمحافل الأدبية، وفي صفوف المهتمين بشأن الشعر العربي وراهنه. نقاشات قد تصل أحيانا حد الازدراء. ولعله يتذكر جيدا، ما صدر مِنَ الكتّاب العراقيين، في حقه، على خلفية احتقاره للأكراد، في قصيدة شاردة، حيث نعتهم بالقرود، ونعت إقليمهم بـ«قَردستان».
فليس خاف، أن الرجلَ لا يني، عند كل مناسبة، يهجّجُ أحكامه، بشكل متسرع وجزافي، في حق شاعر، أو في حق مشهد شعري بأكمله، ويطوّحٌ بها في وجه الجميع، من دون أي اعتبار للنفوس، ولست في حاجة للتذكير بما قاله في تصريح سابق عن الشعر المغربي، وعن بعض شعرائه، علما بأنه قدم اعتذارا لاحقا.
نحن لا نشك البتة، في أن سعدي يوسف، شاعر كبير، وأنه لوحده يشكل تجربة قائمة بذاتها. تجربة لا يمكنها، بأي حال من الأحوال، على الأقل في نظرنا، أن تختزل الشعر كله. فسعدي يوسف يعرف هذا قبلي، ودافع عنه كثيرا، إلا أن هذا لا يعني أننا مقتنعون، بما يذهب إليه أحيانا، من إطلاق الرماح هنا وهناك، وعلى هذا وذاك، من دون أدنى اعتبار للمسؤولية والموضوعية المنهاجية، اللتين تقتضيهما الأمانة العلمية، في استنتاج الخلاصات وتركيبها، لا في إطلاق أحكام جاهزة، بشكل «داعشي».
لندخل في الموضوع، ونقترب من إحدى خرجاته، هذه الأيام، من خلال مقالة مثيرة، منشورة في المجلة الثقافية الإلكترونية «قاب قوسين» بتاريخ 6 سبتمبر/أيلول2016. والمقالة جاءت تحت عنوان «ديوان العرب..أمأهولٌ هو الآن؟». في بداية المقال، يُقرُّ الشاعر، بأن الشعر «على الرغم من اعتراضات عدة [….] لا يزال ديوان العرب». والحق أن هذا النقاش أصبح متجاوزا الآن، في ظل التطورات التي لحقت النظريات الأدبية، والتي فتحت الحدود، على مصراعيها، بين الأجناس الأدبية، في إطار ما بات معروفا، بالتداخل الأجناسي. وهذا ليس موضوعنا؛ وأنه، عطفا على ذلك، حكمٌ يحتاج إلى إحصاءات وبيانات وتدقيقات علمية، وهذا ما لم يحصل. أكثر من هذا، أن شاعرنا، وقع مباشرة بعد ذلك، في تناقض غريب، بين الحكم السالف، والحكم الذي يليه؛ إذ يقول «إلا أن المشهد الحالي لساحة الإبداع، وهو مشوش، غير مستقر، بل باهت، يدعوني إلى أن أكون أهدأ وأرحب نفسا». بالله عليكم، هل يعقل أن يكون مشهدُنا الشعري العربي باهتا، وتافها، ويظل رغم ذلك، يحمل صفة ديوان العرب؟ مجرد سؤال.
الملاحظة الثانية، التي نسجلها على الشاعر، هي حينما سافر في تضاريس القصيدة العربية الراهنة، وانتهى، بعيدا عن الأمانة العلمية، وما تقتضيه، من براهين وأدلة، إلى ما يلي: في أرض الجزيرة «ثمة صمتٌ أطال المكث. من بعد الثبيتي؟». وفي اليمن «ظل عبد العزيز المقالح يحرس المعبد»، بعد رحيل محمد حسين هيثم. وأما العراقُ، فقد أضحى «خامد الجذوة، بعد أن فقد استقلاله، وتداوله الأعاجم، وأمسى وزير ثقافته كرديا». في الشام «حسرةٌ على أيام خلت، ومرابدَ أقفرت». وسيستبسل شاعرنا، في إصدار أحكامه، كيفما اتفق، حينما وصل إلى لبنان، ليقول «هناك مسوخ القصيدة الفرنسية في تخلفها». ليصل بفتوحاته، التي لا علاقة لها، لا بموسى بن نصير، ولا بعقبة بن نافع، إلى بلدان المغرب العربي، لينعتها بكونها تعيش بؤسا شعريا حقيقيا، مستثنيا في ذلك تونس الخضراء، ففي ليبيا «اندثرت إرهاصات عميقة لقصيدة جديدة». وأما الجزائر، فلم تقل البتة، في تاريخها، جملة شعرية واحدة «باستثناء المكتوب باللغة الفرنسية». والمغرب الذي كان مهدا للتجديد، أصبح يفتقر إليه الآن، ذلك إن «انفصال القصيدة المغربية عن الواقع المعيش، أدخلها في متاهة يصعب الخروج منها إلا بالعودة الشجاعة إلى الميراث الحي للشعر المغربي المناضل عبد اللطيف اللعبي ورفاقه». وحدها تونس كانت جديرة بانتباه الشاعر. يقول «أعتقد أن الحركة الشعرية في تونس، الآن، هي الأعمق والأبهى، في المشهد الشعري العربي».
بعد كل هذه الفتوحات، من طرف الحكيم سعدي يوسف، التي لا أعرف صراحة، ما هي الأسس والمعايير والمعطيات والأسانيد التي اعتمد عليها، في صياغة خلاصاته هاته، قلت بعد كل هذا، دعونا نتساءل مع الشاعر بخصوص ما انتهى إليه. طبعا لن أنشغل بالشعر في كل الأوطان التي ذكرها، فالمجال لا يسمح بذلك، فقط سأكتفي بالجزائر والمغرب.
والسؤال من هو هذا الأحمق، الذي سيقتنع بأن الجزائر لم تلد شاعرا واحدا؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما قولكم سيدي في الشعراء: أبي بكر زمّال، وأحمد دلباني، ونوارة لحرش، وعلي بوزوالغ، وفاطمة بن شعلال؟ ثم هل من المعقول أن نتصور أن الشعر المغربي الراهن، بتعدد حساسياته، يمكن اختزاله في تجربة عبد اللطيف اللعبي ورفاقه، مع احترامنا الكبير لهذه التجربة؟ أليس المشهد الشعري المغربي، يعج بالتجارب والحساسيات، لدرجة أن بعض الشعراء أصبح اليوم، يجرب ما لم يكن متاحا من قبل، مما أهل النص الشعري المغربي ليكون ذا خبرة (بلغة صلاح بوسريف). وربما لهذه الأسباب، سيدي حفظك الله، لم تستوعب المشهد؟ وعلى ذكر الشاعر صلاح بوسريف، أُذكِّرُك سيدي، أنه في أحد حواراته معك، خلال هذا العام، في جريدة «المساء» المغربية، سألك السؤال نفسه، وقلت بعظْمة لسانك، وبالبنط العريض، إن مستقبل الشعر العربي، مقبل من المغرب، وأعطيت مجموعة من الأسماء، لكنك تأتي اليوم، وتقول العكس، ضاربا بعرض الحائط، كلام الليل. وبعيدا قليلا عن حوار صلاح بوسريف، وعبد اللطيف اللعبي ورفاقه. الآن سيدي، أين يمكنك أن تضع تجربة كل من الشاعر محمد السرغيني، وأحمد بلحاج آيت ورهام، ومحمد بنيس، وصلاح بوسريف، ومحمد بنطلحة، وعبد الله زريقة، ووفاء العمراني، وغيرهم من الشعراء المتميزين؛ وهي تجارب، كما سيبدو لك، لو كلفت نفسك عناء الاقتراب منها، أو على الأقل قراءتها بنوع من الحياد الفني، قلت ستبدو لك متمايزة ومتباعدة فنيا، من دون أن ينفي بعضها البعض الآخر؟
أخيرا وليس آخرا سيدي، وبعد كل هذا الكساد الفظيع الذي يخيم على القصيدة العربية، في نظركم، كيف يمكن للشعر، وفي ظل المنافسة القوية للرواية وبناتها، أن يظل يشغل منصب ديوان العرب، على الرُّغم من كل هذا التراجع؟ والأغرب في سفر العجب هذا، هو دعوة الشاعر الصريحة، في خاتمة مقاله، إلى العودة بالشعر إلى العصر الجاهلي، كحل لهذا الانحسار. تأملوا معي ماذا يقول الرجل: «لكن هل من سبيل إلى خارج النفق؟ أرى أن ثمة سبيلا، وإن كان صعب المنال. فإن سألني سائل عن هذا الدرب العجب أجبته: العودة إلى الشعر الجاهلي». ليختم فروسيته بقوله «ديوان العرب مأهول، لكن أيام الجاهلية الأولى».
إنه لمن جنون الإحساس بالكمال، أن ينصب شاعر نفسه إلها جديدا للشعر، وأن ينعم بعطفه ورحمته، على من شاء من عباده الشعراء ويدخلهم، بقدر غير يسير من الاعتباط، ضمن لائحة أوليائه الصالحين. فليس من حق أي كان، أن يجعل من نفسه شرطيا، ويشرع في إطلاق النار على الشعراء، من دون حق أو باطل، على غرار من سماهم ياكوبسون، بوليس الأدب. وإنه لمن البؤس الشديد، أن يبدو الشاعرُ في خاتمة المقال، رجعيا، بشكل غير متوقع، من خلال دعوته لبعث وإحياء الجاهلية الأولى؛ هو الذي كنا، دائما، ننصبه شاهدا في كل نقاشاتنا حول مستقبل الشعر. إن الغريب في هذا العود النكوصي، المناقض تماما للعود الأبدي (نيتشه)، ليس الدعوة في حد ذاتها، ولكن كونها كانت مسبوقة بخطاب شعري شبيهٍ بها، منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ حاول شعراء الخطاب التقليدي، البارودي وشوقي وحافظ، ومن سار في ركبهم، إحياء قيم الشعر الجاهلي، لكن من دون جدوى.
وحسبنا أنه كان من الممكن أن نقبل بهذه الدعوة، في زمن البحث عن سبب تقدم الغير، وتأخرنا نحن. أما وقد تأكد أن مصيرنا مرهون بالمستقبل، فإنه لم يعد مسموحا البتة، بمثل هذه الدعوات البئيسة. الأسف كل الأسف أن شاعرنا عاش حداثيا وتقدميا، طيلة حياته، وأراد أن يُنهيها، وما نريد له ذلك، إنسانا ارتكاسيا، بالاصطلاح النيتشوي.
جماع القول، إن ما ذهب إليه سعدي يوسف، في هذا المقال، وفي بعض خرجاته المتسرعة، كلامُ ليلٍ يمحوه النهار، لأنه يفتقر إلى سند علمي دقيق، حتى يبدو كلامُ الرجلِ معقولا، وقد نوافقه الرأي حينها، بخصوص فكرة العودة إلى الجاهلية الأولى، بل قد نتوهمه في صورة امرئ القيس لدى ملك الروم، على حد قول أحد الأصدقاء مازحا.
وددْتُ، حقا، لو أن شاعرنا، قبل صياغة هذه الفتوحات، استأنس برأي أحد الشعراء الذين شملهم بعطفه، ومنحهم حق الإقامة في جمهوريته الأفلاطونية، يتعلق الأمر بالشاعر والأكاديمي التونسي منصف الوهايبـــي، الذي يقول «كثيرٌ مما نقوله عن الشعر شعراء وقراء ونقادا، في هذا البلد العربي أو ذاك، يحتاج إلى قدر غير يسير من التوقف والتثبت وحسن التناول، وإلى شواهد وأسانيد من الأدب والفن الحديث تنهض له وتعضده. لكن لا يذهبن في الظن أن سؤال الشعر من المتعاود الثقافي، أو هو من المسائل المحسومة».(مجلة «الفيصل»- العدد الأخير الخاص بالشعر العربي).

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى