انطلاقة جديدة لمهرجان المسرح التجريبي في القاهرة

محمد الروبي

الاحتفاء بعودة مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، بعد غياب دام خمس سنوات، تجسَّد في أحضان وقبلات واحتشاد داخل المسارح وقاعات الندوات. فهو أحد أهم مهرجانات المسرح في العالم العربي، وتوقفه ارتبط بتداعيات الثورة المصرية، وفي مقدمها التخوف لدى مسؤولي المهرجان من استمرار فعالية محسوبة على من يسميهم المصريون «فلول النظام البائد».
عموماً، نحن بصدد العودة إلى مهرجان مسرحي مهم، وعودة إلى جدل لم يخفت طوال 22 عاماً هي عمر المهرجان، خصوصاً في شأن عنوانه الذي أضيفت إليه في الدورة الأخيرة مفردة «المعاصر».
الدورة الجديدة اعتبرها البعض بداية لدوران عجلة تعطلت طويلاً ومن ثم تستحق النظر إليها بعين مترفقة وقلب رحيم وعقل يعي أن العودة في حد ذاتها إنجاز يستحق معه أن يُغَض النظر عن هفوات تنظيمية (ليست بالكثيرة أو الخطيرة). وهي من جانب آخر – ووفق وجهة نظر المتفائلين – إعلان مواجه لدعاية مغرضة استهدفت تكريس الخوف من زيارة القاهرة «غير الآمنة». لذلك؛ كانت مشاركات الدول (عربية وأجنبية) قليلة جداً بالمقارنة بالدورات السابقة، واضطر مسؤولو المهرجان إلى إشراك ثلاثة عشر عرضاً مصرياً إلى جانب العروض السبعة عشر من دول مختلفة لتكتمل مظاهر الكرنفال التى اعتبرها الكثيرون بروفة جنرال لمهرجان يستعد لاستعادة قوته.
طوال سنوات إقامته، ومنذ الدورة الأولى له تعالت أصوات تصرخ كل عام أن «المسرح التجريبي» هو العنوان الخطأ، وأن الأفضل والأوفق أن يكون اسم المهرجان هو «التجريب فى المسرح». فعنوان مثل «المسرح التجريبي» يضرب هدف المهرجان في مقتل، فالتجريب هنا – وفق العنوان – يعني أنه مدرسة ذات نهج وقواعد، مثلها مثل المدرسة الكلاسيكية، والملحمية… . وهو ما يتنافى تماماً مع فكرة «التجريب»، الذي هو خروج عن كل قاعدة، وبحث دائم في أشكال عدة تستهدف الوصول الأسرع إلى المتلقي وبأدوات أقل كلفة. و»التجريب» بهذا المعنى (الصحيح) هو ما يجعل العروض الدائرة في نطاقه والتي رأيناها في هذه الدورة ومن قبلها عروضاً كثيرة رأيناها في دورات سابقة، هي أقرب إلى بروفات ما قبل نهائية، يسعى القائمون عليها عبر عرضها قياس رد الفعل والاستفادة منه في تطوير العرض والوصول به إلى صيغة نهائية يرضى عنها مبدعها. وهو الأمر الذي يحتم من ثم إلغاء فكرة التسابق، فكيف يمكن تحكيم عروض هي مازالت في مرحلة التجريب ؟ وهي الدعوة التي استجاب لها منظمو المهرجان في دورته الأخيرة بإلغائهم المسابقة، وتحويل الحدث إلى كرنفال يستفيد منه الجميع، مشاركين ومتفرجين. ما يقال عن وصف التجريبي، يصلح تماماً للتطبيق على مصطلح المعاصر. والذي يطرح السؤال حول المقصود منه. فما معنى أن نطلق على مسرح ما أنه معاصر؟ وفي المقابل ما المسرح غير المعاصر؟ أليس كل مسرح في هذا العصر هو مسرح معاصر؟ وكما سبق أن أشرنا سيظل المهرجان المصري مفتوح القوس لجدل سيستمر باستمراره. وبعيداً من الجدل حول المفهوم وآثاره، يبقى الحكم الأول والأهم على المهرجان – كأي مهرجان مسرحي – بمدى نجاحه، أو فشله، في استقطاب عروض جيدة ومتفردة من دول مختلفة. وللحق وعلى رغم البداية الحذرة، نجح مسؤولو المهرجان بقيادة سامح مهران، ولجنتي مشاهدة عروضه (مصرية وعالمية) في اختيار عدد لا بأس به من العروض الجيدة مختلفة الرؤى والتقنيات.
شهد المهرجان عبر مشاركة ست وثلاثين دولة، أحد عشر عرضاً أجنبياً، وستة عروض عربية، وثلاثة عشر عرضاً مصرياً، إلى جانب عدد من الندوات المهمة. وحرص المهرجان على تكريم عدد من رموز المسرح وهم: المصري جميل راتب، المخرجة الأميركية الإيرانية تورانج يحيا زاريان، الصيني لو أنج، الكيني مومبي كايوجا، النيجيرية فيمي أوسوفيسان والإماراتي محمد سيف الأفخم. أما العروض، فمنها الكثير ما يستحق التوقف عنده، لجهة ما زخر به من جدة ومغامرة ووعي. هناك مثلاً العرض اللبناني «بس أنا بحبِك». الجملة هذه اختارتها اللبنانية لينا الأبيض عنواناً لعرض يقوم في الأساس على «الحكي» الأقرب إلى البوح؛ عن معاناة أربع نساء يشكلن نموذجاً لحالات أكثر من نساء الوطن العربي يتعرضن في شكل يومي إلى قهر أسري يبدأ من التوبيخ ولا يقف عند الضرب حتى مشارف القتل.
ولأن العرض في مجمله هو مرثية لحيوات ضائعة، وقلوب ماتت على رغم استمرارها في الخفقان، فقد آثرت لينا الأبيض أن يكون الأسود – لون الحداد – هو اللون السائد في عرضها، بدءًا من حوائط ساحة العرض المحيطة بالممثلات والجمهور، والتي تحيل المكان إلى تابوت أسود ندخله للتعرف على أسرار حكاياته المبكية، وصولاً إلى الأسود الذي ترتديه الممثلات «النائحات» وكأنهن في جنازة جماعية، ترثي كل منهن نفسها وتتداخل حكاياتهن بوقفات مقصودة ليصبح العرض في مجمله حكاية واحدة عن كل امرأة تقف في وسط ساحة التمثيل أو تجلس مشدوهة تشاهد نفسها في أجزاء الحكاية المتناثرة. منطق الجنازة والرثاء، تؤكده ساحة التمثيل التي فرغت تماماً إلا من أربع دوائر بيضاء تصنع كل منها مجموعة من بقايا حطام صحاف، وهي الدوائر التي ستتحول بدخول النساء الأربع إلى أربعة لحود. فالنساء يدخلن المكان بحركة بطيئة تليق بجلال المكان. تنظر كل منهن إلى جمل مكتوبة بالأبيض الباهت، وكأنها تبحث عن لحدها. ثم ستختار كل منهن دائرة/ قبراً لتقف وسطه تحكي عن نفسها وعن قهرها وعن مأساتها طوال العرض الذي يمتد إلى ما يقارب الساعة من دون ملل أو نفور. فأداء الممثلات أو بالأحرى حكيهن المشفوع بكتابة آسرة؛ لفت الانتباه إلى خلو العرض من الحركة إلا في المكان.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى