لمحات ثقافية

مودي البيطار

ذلك الخواء الشهي

> بعد رواية قصيرة العام الماضي، بلغت أوتيسا مُشفِغ اللائحة النهائية لجائزة مان بوكر بروايتها الطويلة الأولى «آيلين» الصادرة عن دار جوناثان كيب. نالت الكاتبة الكرواتية الأم، الإيرانية الأب جوائز عدة عن قصصها القصيرة، وهي إحدى كاتبين أميركيين على القائمة التي تُمنح للسنة الثانية لكل الكُتّاب بالإنكليزية بعد ان اقتصرت على بريطانيا والكومنولث. تسترجع بطلتها في عقدها السابع حياتها في الستينات حين أهملت دراستها الجامعية لتعنى بوالدتها المريضة. قُلبت الأدوار في الأسرة، وتوقفت حياة آيلين التي كرّست أيامها لرعاية الوالدين المدمنين على الكحول. تتذكّر شعر أمها الشبيه بالرغوة حين ماتت في السرير قربها، والبيت في إكس- فيل الخيالية، ماساتشوستس، الذي قدّمت قذارته موضوعاً دائماً لثرثرة نساء الحي.
بدت آيلين مثل أي فتاة على الباص تقرأ عن النبات والجغرافيا في المكتبة العامة، وهي تجمع شعرها في شبكة. لكنها لم تفعل. أحبّت القراءة عن القتل والمرض والموت، واحتفظت بجثة فأر في موضع القفازات في سيارتها. كرهت كل شيء، وكانت في عامها الرابع والعشرين شديدة التعاسة طوال الوقت. عملت سكرتيرة في إصلاحية للفتيان، وألّفت استمارات لا معنى لها كان على أمهات المساجين ملأها حين يزرنهم. عانت هؤلاء من كون أطفالهن يكبرون في السجن، وأشفقت آيلين عليهم مع معرفتها أن بعضهم ذبح والده أو أغرق شقيقه أو احرق المنزل. حين تعجز أم عن البقاء أكثر من سبع دقائق مع ابنها تتظاهر آيلين بأنها لم تلاحظ.
تدور الرواية في أسبوع مثلج قبل عيد الميلاد في 1964. تدلّت حبال الثلج الحادة من المباني، وتخيلتها آيلين تخترق صدرها وكتفيها أو تقص دماغها. عاشت مع والدها، الشرطي السابق، المجنون والمخيف مثل كل المسنّين المدمنين. لكنها لم تنظّف أو تطبخ أو تغسل، بل اشترت له الكحول لتبقيه غائباً. رغبت في موته وأرادته حيّاً في آن، وحلمت بحياة جديدة في نيويورك، لكن حس الواجب شلّها. سرقت من المتاجر، وتبنّت تعبيراً جامداً دعته «قناع الموت» لتمنع الآخرين من الاقتراب منها. تصفّحت سراً المجلات الخلاعية التي اشتراها والدها، وهجست براندي، حارس السجن الوسيم الذي قادت سيارتها إلى بيته أيام الآحاد من دون أن تخرج لتقابله. اقتصر فرحها القليل على قراءة «ناشينال جيوغرافيك» وإلإحساس بجسدها فارغاً مستهلكاً خفيفاً بعد جلسة مديدة في التواليت.
لم ترَ أن جسدها ملكها، وبدا استكشافه حقاً للرجل وحده. نفرت من الرغبة، لكن رغباتها كثرت وأثارت قرفها. لم تعرف كيف تطفئها، وكرهت أن تكون عاهرة كشقيقتها جوني التي هربت في السابعة عشرة مع صديقها. آمنت أن تجربتها الأولى ستكون بالقوة، وأملت بأن تكون مع أكثر الرجال حناناً ورقة ووسامة. مع شخص أحبها سراً. جرّدت نفسها من كل شهوة وشهية، وبصقت القليل الذي أكلته أو لفظته بالمسهّلات. ارتاحت بعد ذلك، وطارت في دوائر بقلب راقص وعقل خاوٍ. رأت فمها أيضاً بشعاً، وتجنّبت الابتسام. مجرّد التنفس أحرجها لخشيتها من أن تكون رائحة فمها كريهة.
تتحرّر آيلين من سجنها حين تظهر ريبيكا الناحلة، الطويلة القامة، الحمراء الشعر، التي بدت حين دخّنت كأنها تملك المكان. تنضم المساعدة الاجتماعية الى موظفي السجن، وتقع آيلين في الحب فوراً مع أنها ليست مثلية. لكن ريبيكا أخفت سراً كشفته لزميلتها حين طلبت منها مساعدتها في ارتكاب جريمة. تنعطف القصة بحدة قاتمة، لكن القادمة الجديدة تقدّم للبطلة فرصة البداية الجديدة التي حلمت بها. تترك وتجد نفسها وصوتها وقوة تستطيع التأكيد معها حين تذكر ريبيكا أنها تستطيع قول المزيد عنها لكن «هذه قصتي في النهاية لا قصتها».

استثناء سعيد

> هنغاري الأب، كندي الأم، ويمثّل كندا والولايات المتحدة على اللائحة النهائية لمان بوكر التي سيعلن الفائز بها في الخامس والعشرين من الشهر الجاري. عاش ديفيد سالاي رضيعاً في بيروت، وغادرها الى لندن مع أسرته حين اشتعلت البلاد حرباً. اقتبس عنوان روايته «كل ما هو الإنسان» من الشاعر وليم بتلر ييتس، وجمع فيها تسع قصص تشترك بخيط رفيع. يتساءل كثر ما إذا كان الكتاب الصادر عن «جوناثان كيب» رواية حقاً، لكن للتصنيف استثناءات محظوظة قد تُتوجّ بنهاية سعيدة.
تسع قصص هاجسها الحب، المال وأوروبا الواحدة، يتقدّم أبطالها في السن تباعاً من السابعة عشرة حتى الثالثة والسبعين. أولها عن سايمن وفرديناند اللذين يوقفان الدراسة سنة قبل الجامعة ليطوفا شرق أوروبا. يقرأ سايمن عبارة «عِش قدر المستطاع» في رواية «السفراء» لهنري جيمس. لا يتبع النصيحة حين تُغويه امرأة أكبر سناً، فيحلّ فرديناند محله. يُمضي شاب فرنسي عطلة في قبرص حيث يتعرّف الى بريطانية وابنتها تُغريانه وتنجحان على رغم بدانتهما المفرطة. يقصد صحافي في مطبوعة فضائح دنماركية مالاغا في إسبانيا ليواجه وزير الدفاع في بلاده بعلاقة خارج الزواج. يعود سعيداً بالسبق، لكنه يشعر على رغم نجاحه أنه بعيد من بيته والآخرين، وأنه سيكون وحيداً حين يواجه مشكلة.
يقود عميد بلجيكي في جامعة أكسفورد سيارته عبر أوروبا ليلتقي صديقته البولندية. يعمل رجل هنغاري مرافقاً لشخص يرغم صديقته على بيع جسدها في فنادق بارك لين، لندن، ويقع في حبها. يتجه بائع عقارات إنكليزي متوسط العمر من لندن الى جنيف ليبيع شاليه. يحدّق في الخارج وهو في الطائرة، ويفكر فجأة:»هذا كل ما هناك. ليست مزحة. الحياة ليست مزحة». ضربته الفكرة مثل صاروخ. وام». في سويسرا يرفض النوم مع شابة بدافع الجمود والحس بالواجب تجاه زوجته. سكوتلندي متنمّر، مدمن على الكحول، يشرب بإفراط في بلدة كرواتية وهو يحدّق في يخت كبير سيفكر صاحبه في الانتحار في القصة التالية. بليونير روسي في ستيناته يعتبر نفسه شخصية تاريخية، وينوي كتابة مذكراته في أجزاء عدّة. حين يواجه خسارة شريكته وثروته يفكر في إنهاء حياته. موظف حكومي بريطاني يتقاعد في بلدة أرجنتا الإيطالية. ساهم في مفاوضات توسيع الاتحاد الأوروبي، وها هو الآن وحيد، مكتئب ومريض بعد انهيار زواجه ورفضه الاعتراف بانجذابه إلى الرجال. يقرأ قصيدة لحفيده سايمن، بطل القصة الأولى، وتلفته عبارة: «لحظة من الغوص في نسيج الوجود، عبور الزمن الأبدي».

رواية أدبية

> رفضت دور النشر مخطوطة «السباحة إلى الوطن» بحجة إنها أدبية جداً. أصدرتها دار ثانوية، ورُشّحت لجائزة مان بوكر فخلّصت رواية ديبرا ليفي اللاحقة من التهمة سلفاً. «حليب ساخن» الصادرة عن دار هاميش هاملتن على القائمة النهائية لمان بوكر، وتتناول الأمومة بما فيها من خليط الحب والكراهية، الذنب والخيبة، الاتكال والحرية. بطلتها صوفيا إنكليزية الأم، يونانية الأب، يحار الأطباء حيال مرض والدتها فترافقها إلى الأندلس لاستشارة الدكتور غوميز الذي يجمع أسلوبه الطب والطب النفسي والتصوف والشعوذة. روز جامحة، غريبة الأطوار، تفيض مرارة وغضباً مذ هجرها زوجها حين كانت صوفيا في الخامسة، وتعاني من شلل متقطع.
تخرّجت صوفيا في علم الآثار، لكنها تعمل نادلة في مقهى. تقول إن والدتها مجرمة سلبتها حياتها، وإن حبها لها يشبه فأساً يقطعها في العمق. يعجب الدكتور غوميز من الطاقة التي تستثمرها روز في امتناعها عن المشي، ويهتم بصوفيا بدلاً منها. يقول إنها تستخدم والدتها درعاً يحميها من البدء بحياتها، ويتساءل عن مشكلتها. ينصحها بسرقة سمكة لتكتسب جرأة، فتفعل وتزداد جرأتها حقاً. تحرّر كلباً، تكسر مزهرية، وتنام مع الشاب الذي يعالج المصابين بلسعات قناديل البحر ثم تغرم بإنغريد الألمانية الجميلة، الطويلة القامة. تفرح حين تهديها إنغريد قميصاً حريرياً طُرّزت عليه كلمة «محبوبة» ثم تكتشف لاحقاً أن الكلمة «مقطوعة الرأس».
لا توقف صــوفيا حياتــها فقط من أجل والدتها بل تتماهى معها حين تعرج متألمة مثلها مع أنها معافاة. ترفض «القصة الأساسية» أي الحب والأمومة، وتضع عربة أمها يوماً أمام شاحنة. تراها الأم شابة كسولة، ممتلئة الجسم، تعيش عالة عليها، وهي غاضبة، خائفة، قلقة تحس أنها ستعوم خارج نفسها. حين تزور والدها في اليونان ترى امرأة تشعل السيجار لزوجها، وتفكر أنها تريد أن تنفخ الدخان «مثل بركان مثل وحش»

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى