“كوميكو” .. ما تفعله السينما !

أحمد الديب

يُحكى أنه في قديم الزمان، وفي بلاد الألمان، عاش أخوان. اسمهما “جيكوب” و”فيلهيلم”، واسم العائلة كان “جريم”. وكانا يحبّان الحكايات، وخصوصًا تلك المليئة بالأميرات والساحرات، والأساطير والخرافات، والتي نعرفها اليوم باسم حكايات الجنيّات.

ويبدو أن الأخوين “جريم” قد كرَّسا كامل عمريهما لجمع وحفظ تلك القصص الشعبية الأسطورية التي كانت روايتها شفاهةً تهددها بالانقراض.
فلولا جهود الأخوين ما وصلت إلينا أساطير سندريلا وسنو وايت ورابونزل والأمير الضفدع وذات الرداء الأحمر وغيرها، ولما تركت تلك الحكايات بصمتها الخالدة في أجيال كاملة من الأطفال، غرست فيهم معاني الخير والشرّ والجمال والقبح والوفاء والخيانة والبطولة والنذالة.
أجيال عاش في خيالها أمراءٌ نبلاء وفتيات رقيقات وسط قصور شاهقة وكهوف غامضة وغابات خطرة وحيوانات عاقلة ووحوش مخيفة وأشرار متفرّغين للشر.

ولقرابة قرنين من الزمان، نشأت تلك الأجيال بعقول تفكر – ولو جزئيًا أو دون وعي – بمنطق تلك الحكايات الخرافية. ذلك المنطق البسيط الذي يلوِّن الخير بالبياض الشاهق والشر بالسواد الداهم. النوايا كلها نابعة إما من قمة النبل أو من حضيض الخبث، الدوافع جلية تمامًا لا تحتمل التأويل والجزاء دائمًا من جنس العمل.

لكن الذين يحبون حكايات الجنيات في طفولتهم يكبرون، ويكتشفون ذات ليلة حالكة السواد أن العالم لا يخضع إطلاقًا لقواعد تلك الحكايات. عندئذٍ ينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف: فمنهم مَن يكفر تمامًا بمنطق حكايات الجنيات، مثل كارمن في فيلم متاهة بان Pan’s Labyrinth التي كانت تقول للطفلة أوفيليا بطلة الفيلم: “أنت تكبرين وستكتشفين أن الحياة ليست كحكايات الجنيات التي تحبينها. هذا العالم مليء بالقسوة وستتعلمين ذلك ولو بالطريقة الصعبة”.
ومنهم من يرى أن كل تلك الليالي السوداء ليست إلا كاللحظات العسيرة التي تعانيها بطلات الحكايات قبل أن يهرع الأمراء والفرسان إلى نجدتهن، ومنهم الصنف الثالث الذي يكتشف أن الحياة ما هي إلا رقصة بين عالمين، يقودها منطق حكايات الجنيات حينًا، ومنطق شريعة الغاب أحيانًا. وأن الحكمة تكمن في تمييز العالمين والمنطقين ومراقبة التفاعل الأبدي بينهما.

الأخوان زيلنر مع بطلة الفيلم

وإلى ذلك الصنف الثالث انتمى أخوان مبدعان آخران، وهما الأخوان “كوين” Coen Brothers صاحبا فيلم “فارجو” Fargo الذي احتلّ مكانة أسطورية في تاريخ السينما، بعد أن قدَّم تجربة سينمائية فريدة غير مسبوقة، كان أبرز ما فيها التناغم العجيب بين الكوميدي والتراجيدي، وبين الواقعية والأسطورية، وبين عالم شريعة الغاب وعالم حكايات الجنيات. ولن أتعرض هنا لهذا الفيلم – لأنه يحتاج إلى مقال طويل منفصل – لكنني سأتعرض لأحد آثاره، وهو تأثيره المباشر على أخوين مبدعَيْن آخرَيْن هما الأخوان ديفيد ونيثان زيلنر، اللذَيْن كتبا وأخرجا – دون أن يكون لهما تاريخ حافل – تحفة سينمائية بعنوان “كوميكو: صيادة الكنوز” Kumiko, the Treasure Hunter.

يبدأ الفيلم بتنويه لا نعرف مدى صدقه – تمامًا كفيلم “فارجو” – بأن هذا الفيلم مبني على قصة حدثت بالفعل، ثم بلقطة لـ “كوميكو” الشابة اليابانية وهي تمشي في شاطئ مهجور وتدخل كهفًا مظلمًا لتجد شريط فيديو مدفونًا وسط الرمال! ونشاهد معها الشريط لأول مرة لنعرف أنه فيلم “فارجو”، الذي يلفت التنويه في بدايته انتباه “كوميكو” بشدة، خاصة عندما تكشف الأحداث عن حقيبة مليئة بالمال يخبئها أحد أبطال الفيلم في حفرة في الجليد.
وتشاهد “كوميكو” الفيلم أكثر من مرة، ويزداد يقينها مع كل مرة بأن القصة قد وقعت بالفعل، وبأن الكنز حقيقي تمامًا. وتقرر كوميكو أن تدرس مشهد دفن الحقيبة بمنتهى الجدية والدقة، لتصنع خريطة الكنز، وتبدأ رحلتها في البحث عنه.

تبدو قصة الفيلم كحكاية أخرى أسطورية من حكايات الجنيات، أليس كذلك؟ لكن البطلة هنا أكثر واقعية – أو ربما فقط أكثر مُعاصَرةً – من بطلات حكايات الجنيات. فكوميكو تقترب من عامها الثلاثين، لم تتزوج بعد، وتعمل كساعية بمكتب مدير شركة يابانية كبيرة، وظيفتها أن تأتي للمدير بقهوته وتقضي له المهام الصغيرة التي لا يليق طلبها من السكرتيرة. كوميكو وحيدة تمامًا وحياتها جحيم لا يُطاق بين أمها التي لا همّ لها إلا حقيقة أن ابنتها لم تتزوج، والمدير العجوز الذي يبدو أنه يحرص على عدم تفويت أي فرصة سانحة لإهانتها. حياة لم تكن كوميكو لتطيقها لولا صديقها الوحيد “بونزو” الأرنب، وهوايتها الوحيدة: تصديق السينما.
وهل يملك أحد أن يلومها لأنها تصدق السينما؟ السينما تخبرها بأن حياتها “الواقعية” تلك ليست سوى المقدمة المعتادة التي يمر بها – ولا بد – كل أبطال القصص والأفلام، قبل أن تأتي تلك اللحظة السحرية التي تتضح فيها الرؤية وتبدأ فيها الرحلة. السينما تخبرها بأن اللحظة قد حانت، وبأن رحلتها قد بدأت.

وتبدأ كوميكو رحلتها بالذهاب إلى المكتبة للبحث عن خريطة الكنز، وتجد ضالتها في كتاب يحوي خريطة لمدينة فارجو، تضطر كوميكو إلى قطعها وسرقتها. وعندما تُضبَط بفعلتها ويواجهها ضابط الأمن تقول له “أحتاج فقط إلى الصفحة رقم 95. إنه قدري!”، تقولها بإيمان لا يملك معه الرجل إلا أن يصدقها ويتركها لقدرها. القدر الذي سيحتم عليها كذلك التخلي عن “بونزو” الأرنب، صديقها الأوحد. تذهب به إلى حديقة عامة وتودعه وتتركه هناك ليواجه قدره هو الآخر.

تخبرنا السينما كثيرًا بأننا لسنا أصفارًا على يسار الكون. تخبرنا أن حيواتنا قد يكون لها معنى أكبر من ظروفنا الحالية ووظائفنا البائسة. تخبرنا بأن المعنى سيتجلى في لحظة سحرية خارج حدود المنطق المعتاد، في شريط فيديو تجده – مثلًا – مختئبًا بين حبات الرمال على شاطئ البحر. تخبرنا بأن الأسطورة حقيقة، وبأن الرحلة ممكنة، وبأن الكنز ينتظر، هناك في نهاية الرحلة. فلماذا لا نصدقها؟

تمنحنا السينما كل التفاصيل التي تجعلنا نصدق. تغوينا بالصورة وبالنغمة وبالكلمة. تعطينا أسماء أخرى وتواريخ بديلة نحفظها وننسى أسماء الواقع الممل وتاريخه. نهمل كل خرائط العالم الحقيقي المرسومة بدقة أحدث تقنيات الأقمار الاصطناعية، ونرسم خريطة يدوية لكنز أسطوري، نستوحيها من نسخة رديئة لفيلم بدأ بكلمة السر التي فاقت في سحرها “افتح يا سمسم”: هذه قصة حقيقية!

توسوس لنا السينما فنهتف – مثل كوميكو – بنشوة السكارى: “أنا مثل الفاتحين الإسبان. أبحث عن كنوز لا يتصورها بشر!”. نصدِّق غوايات السينما ووعودها، وننكر ما يرميه الواقع في وجوهنا – بكل وقاحة – من الحقائق. نصدِّق ما تأتينا به من حكايات خرافية، ونتصرف تمامًا كأبطالها.
نضع الرداء الأحمر فوق ظهورنا ونتحسس خطواتنا في الطريق الطويل الذي يخترق الغابة إلى بيت الجدة، ونتناسى أن كل شبر من الغابة يحمل لنا من الأخطار ما لا نتصوره. ننسى أن الغابة ليست موطننا نحن، وأننا غرباء تمامًا فيها، وأن الذئب الذي يترصد خطواتنا هو أهون الأخطار، لأننا – على الأقل – نعرفه.
ونمضي قدمًا مع كوميكو في غابات فارجو الجليدية، ويقابلنا أحد رجال شرطة فارجو (يقوم بدوره المخرج نفسه، ديفيد زيلنر) ليؤكد ما تصر السينما على إخبارنا به من طيبة قلوب أفراد الشرطة في فارجو، ويحاول مساعدة كوميكو بكل الطرق. وتثق به بطلتنا وتخبره بهدف رحلتها، فينصحها ويخبرها بأن قصة الكنز ما هي إلا جزء من قصة فيلم، وأن قصص الأفلام غير حقيقية. نصرخ في الشرطي الطيب مع كوميكو: “ليست غير حقيقية! ليست غير حقيقية!”. الشرطي رجل طيب، لكنه لا يعرف ما نعرفه. لم تخبره السينما بما أخبرتنا به، ولم تعده بما وعدتنا.

صدَّقت كوميكو وصدَّقنا، فهل تَصْدُقنا السينما أم أنها فقط تتسلى بسذاجتنا؟ وتراقب في خبث بالغ أعيننا التي تتسع في انبهار أمام ما تخبرنا به ونحن نجلس أمامها مصغين بالساعات والأيام والسنين؟ هل تتغذى السينما (كالوحوش في أفلام الرعب والخيال العلمي) على طاقاتنا وأحلامنا وكوابيسنا وأعمارنا وتقذف بنا في عالم بديل (كالآلات في أفلام ماتريكس) لنتوهم أننا نحيا ونحب ونحلم ونرتحل ونغامر ونكتشف ونحارب وننتصر، بينما نحن – فقط – أسرى في براثن السينما، تلتف مجساتها حول أعناقنا ونحن رُقود أمام شاشتها الفضية العملاقة؟ هل تمنحنا السينما أوقاتنا الرائعة أم تسرقها منا؟ هل تشجعنا على تحقيق أحلامنا أم تبيعها لنا جاهزة؟ هل تجيب على ما لدينا من أسئلة أم تزعزع ما وجدنا من إجابات؟ هل تمدنا بالطاقة أم نمدها نحن بالخلود؟ هل تدفعنا للحياة أم تسوقنا للهلاك؟ هل تستلهم السينما بالفعل القصص الواقعية أم أنها صارت هي التي تُلهِم الواقع بل تُمليه؟

أسئلة من السذاجة أن ننتظر إجابتها من السينما نفسها، وهي الخصم والحكم. لكننا نستطيع على الأقل أن نصحب كوميكو في رحلتها حتى النهاية. فربما أتت النهاية بهيجةً على طريقة قصص الأخوين جريم، أو قاتمة على طريقة أفلام الأخوين كوين، أو ربما انتهى الفيلم دون أن نعرف يقينًا إن كانت نهايته بهيجة أم قاتمة، وتلك – فيما يبدو – هي طريقة الأخوين زيلنر. دعونا فقط لا ننسى، ونحن نختار الزاوية التي سنرى بها النهاية، أن قصة الفيلم مبنية – كما أكد الأخوان – على قصة حقيقية.

 

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى