عن إمام التبغ والقصائد والينابيع

شوقي بزيع

رغم مرور سنتين اثنتين على رحيله، لا يبارح السيد هاني فحص وجدان وذاكرة أصدقائه وعارفيه الكثر، الذين رأوا فيه نموذجاً فريداً لرجل الدين التنويري والمتصل بأعمق ما في الإسلام من وجوه الرحابة وإعمال العقل والتحديق في جمال العالم. وقلّ أن عثر الناس على رجل دين عابر للأديان والطوائف والأعراق وخرائط الجغرافيا، كما هو الحال مع هذا الرجل الذي لم تفارقه ابتسامته حتى على سرير المرض، ولم يستطع اشتداد آلامه عليه أن ينتزع منه روح النكتة والدماثة المحببة، ولم يستطع نقص الهواء في رئتيه المعطوبتين أن يقوده إلى الضيق بأي اجتهاد مغاير أو فكرة صادمة.
والقلّة من الناس يعرفون من جهة ثانية أن علاقة السيد هاني بشتلة التبغ، بما هي رمز لصمود الجنوبيين وتشبثهم بالأرض، هي التي دفعته إلى تصدر التظاهرات التي خرجت من نادي النبطية الحسيني للمطالبة بتحسين أوضاع المزارعين والذود عن حقهم في توفير لقمة العيش والحياة الكريمة. إذ لم يكتف الجنوبيون بضبط حيواتهم على إيقاع نمو الشتلة البطيء بل حددوا في ضوء ذلك النمو علاقتهم بالأحلام والكوابيس، واختاروا لأنفسهم من العطور ما يتناسب مع روائحها النفاذة، ومن الأمراض ما يليق بدخانها المسموم الذي دفع السيد غالياً ثمن افتتانه به.
ولم يكن السيد هاني، الذي عاد مع كوكبة من مجايليه كالسيد محمد حسن الأمين والسيد كاظم إبراهيم، من النجف ليشاطر من عرفوا بشعراء الجنوب الوقوف على منبر نادي الشقيف في أوائل السبعينيات، لو لم يصُغ بنفسه عقد القِران الأجمل بين النص والتأويل، بين الدين والحداثة، وبين فقه التراب ونداء السماء. ولشدة شَبَهه بنا، نحن علمانيي ذلك الزمان، كنا نشعر أننا هو، لولا الجبة والعمامة، وأنه نحن، لولا تجرؤنا على المعاصي. وإذا كان من باب التواضع قد أعلن في أحد كتبه بأنه لا يقرض الشعر بل يقترضه، فلست لأبالغ إذا قلت بأنه كان مصنوعاً من مادة الشعر نفسها، وأنه كان يقطفه من منابته الخام ويسيِّله في نثره، كما يسيل العسل الخالص على صخور البراري.
ولم يكن السيد هاني فحص يرى الله في دور العبادة أكثر ممّا يراه في عرق الفلاحين وضفائر الينابيع وحدقات عيون الأطفال. ولم يره في حُرقة قلبِ زينب على أخيها الحسين أكثر ممّا رآه في حُرقة المجدلية، وهي تغسل بدموعها قدمي المسيح. كان يؤمن في قرارته بأن من لا أرض له لا سماء له، لذلك فقد رأى في الدين عروجاً باتجاه الأرض لا انفصالاً عنه، والتحاماً بوجع المقهورين لا التحاقاً بالبلاطات ولا تمرُّغاً وضيعاً على أبواب السلاطين. غير أنه كلما أرهقه الشعور بالغربة وصدَّعت رأسه الشكوك وعصفت به رياح المنافي، يعود إلى جبشيت متمثلاً عودة مصطفى سعيد بطل الطيب صالح إلى أرضه الأم. أو قل هو مصطفى سعيد بلا نسائه المغويات، حيث ملكت عليه (أم حسن) قلبَه ولبَّه.
أما شتلة التبغ فقد رأى فيها السيد، كما نحن، واحدة من الأساطير المؤسسة للوجدان الجنوبي الجمعي. إذ في ظلّ ارتفاعها عن الأرض كنا نحن الجنوبيين نقيس أطفالاً ما أصبناه من طول. وبالقياس إلى مذاقها المرّ كنّا نتلذذ بحلوى الأعياد. وفي ضوء خضرتها الباهرة امَّحى كلُّ ما علق في أبصارنا من ألوان، بحيث نحسب دموعنا خضراء حين نبكي، وشهواتنا خضراء حين نحب، ودماءنا خضراء حين نسقط شهداء. وهذه الشتلة التي اتخذت أوراقها شكل القلب وتعهدنا غصونها بالمهج قبل الأيدي، تحولت مع الزمن إلى طقس شبه ديني، حيث لا يكاد المؤذِّنون يفرغون من أذان الفجر حتى تنحني على جذوعها الرَّخصة قامات الرجال والنساء والأطفال، ويُسمع لأوراقها المقطوفة بالأصابع صرير متناغم الجرس، تلقَّفه الفلاحون بالأغاني والمواويل والحداءات، وتلقَّفه الشعراء بالقصائد، وهيأ لنا من الإيقاعات والأوزان، ما هيأه للخليل بن أحمد خببُ الجمال على الرمال.
لم أكن هناك في ذلك اليوم الذي احتاجت فيه الملحمة لكي تكتمل إلى ظهيرها الدموي، حيث كان السيد هاني فحص يؤمّ صلاة الخبز، ويقف مع ثلة من المناضلين ضد صيارفة الجوع ولصوص الهيكل وسدنة النهب المنظم. كنت بعدُ طالباً على مقاعد الدراسة حين اختار حسن الحايك ونعيم درويش أن يرتقا عقد الأوراق المتناثرة بخيوط من دم. وإذا كنت قد أهديت قصيدتي «في الشمس كالأنبياء» إلى حسن الحايك لا إلى رفيقه المغدور، فلم يكن ذلك انحيازاً لشهيد دون الآخر، بل لأن الصورة التي نشرتها جريدة النهار على صفحتها الأولى بدت أشبه بـ «غرنيكا» مصغرة أبطالها رجل واحد وطلقة واحدة وإصبع تضغط على زناد الجريمة. كان الرجل المصاب يضع يده الخشنة على صدره المثلوم، وكان وجهه الفلاحي يختزن في تضاعيفه كل حزن العالم وغضبه وعنفوانه، وفيما كانت مدن الجنوب وقراه ترفل بالزغاريد، كانت الجبال ترتفع قليلاً إلى الأعلى، والأشجار تتهيأ لالتقاط دمه المراق.

 

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى