فوّاز حداد: في اللاوعي السوري مقبرة ذكريات

جمال خليل صبح

رافق الروائي السوري فواز حداد الثورة التي اندلعت ضد النظام السوري والتي تحولت من ثم حرباً رهيبة فقدت صفتها الأهلية، وكتب روايات عدة من وحي المأساة، كان لها صداها ورواجها منها «السوريون الأعداء» و»جنود الله»… والآن تعيد دار رياض الريس طبع روايات سابقة له منها «موزاييك» و»تياترو»، مما يتيح الفرصة أمام القراء والنقاد ليكتشفوه عن كثب، هو الذي طالما عاش في ما يشبه العزلة الروائية. هنا حوار معه:
> في مقال لك نُشر عام 2012، استخدمت عبارة «وليمة الذّئاب» في وصف المشهد السوري. هل تغيرت الصورة؟ وهل ثمة فصل بين ما قد يراه «المواطن السوري» الكامن فينا وذلك «الروائي» الكامن فيك؟
– منذ بداية الأزمة السورية التي تعددت وجوهها وسياقاتها – من احتجاجات وتظاهرات إلى انتفاضة وحرب ثم فوضى وتدخلات دولية – ما زالت الثورة أحد وجوهها. هذا الوجه لا ينبغي تغييبه، وإلا حوّلنا ما يجري في بلدنا إلى نظام وإرهاب فقط. لم تكن حربنا السورية كلاسيكية، فقد تنوع تصنيقها إلى حرب أهلية وطائفية ومذهبية وإقليمية، خاضعة كلها للتجاذبات الدولية. هذا المشهد لم يتغير منذ أعوام، ترافقه تنويعات جزئية، بمواكبة الأمم المتحدة العاجزة كلياً، وتطمح إلى حل لا يمكن تمريره من دون الكبار الذين يساهمون في تأجيجه. عموماً أدوار الكبار كانت قذرة وبلا خجل، على الضد من غرب متحضر اعتقدنا بأنه منصف. تدخلاتهم لا علاقة لها بالعدالة والحضارة، علاقتها بهمجية المصالح أوثق. المؤسف أن الكلفة الكبرى يدفعها المدنيون من حياتهم وجناية عمرهم.
لا يمكنني الفصل بيني أنا كسوري ومهنتي ككاتب، خاضع لتأثيرات ما يجري يومياً على مدار الساعة. فأنا عاجز وأكابد الأمرين عندما أرى بلدي يدمر ويحترق بأيدي نظام سوري، يشد أزره مرتزقة يعتقدون بأنهم مأجورون لحساب الله. كانت الرواية وكتابة بعض المقالات، في جانب منها إعلاناً لموقفي، أكدت فيه على انحيازي المطلق لشعبي، اذ لا يمكنني أن أكون محايداً، فالحياد جريمة لأنه يصب في جانب الاستبداد. كانت الرواية محاولة فهم وتفسير ما بدا لي مفاجئاً ومخالفاً لتوقعاتي في الثورة، التي كانت خلافاً لتوقعاتنا معجزة سورية مشرفة، ومتفوقة اخلاقياً. شملت الاحتجاجات معظم المدن والقرى السورية في حركة شكلت شبه إجماع على الحرية والكرامة، ومن دون تراجع. ومخالفة أيضاً لتوقعاتي في أن يتصرف النظام على هذا النحو الإجرامي، بشن الحرب على الشعب، في حين كان ممكناً تجنب هذا العلاج الدموي. ولكن، السلطة هي السلطة، ولا من جديد في التركيع والتجويع والحرق والتدمير، والتعذيب حتى الموت سوى في عياراتها. كان هذا منطق النظام، لم يتح له استعماله متكاملاً من قبل، وها هو ما زال يستنفده على أسوأ وجه.
> في «السوريون الأعداء» هناك فيضٌ واضحٌ للذاكرة الجمعية، فهل تؤمن فعلاً بوجود «مقبرة ذكريات» في لاوعي السوريين، حاولت إعادتها إلى ساحة الوعي؟
– تحوي الذاكرة الجمعية انقلابات وسجوناً ومعتقلات ومفقودين وأمواتاً. أضيف إليها منذ خمس سنوات من المجازر وحرب وحشية بلا رحمة شملت سورية. أظن أن رواية «القوقعة» الشهادة التوثيقية للكاتب مصطفى خليفة، وهبطت كما الصاعقة فوق رؤوسنا، لتقطع الشك باليقين، بتأكيدها شهادات معتقلي الإخوان المسلمين وما لاقوه في سجن تدمر. شكلت أزمة ضمير ورعب. لم استطع قراءة اكثر من عشر صفحات كل يوم من كتاب «القوقعة». لا يمكن تجاهل هذه الشهادة النبيلة، الجريئة والقاسية، ونزعم بعدها أننا لا نعرف طبيعة هذا النظام. لم يكن الصمت إلا من فرط الخوف الذي زرع في نفوسنا ما يزيد عن أربعة عقود.
في «السوريون الأعداء» انتقدني موالون للنظام يزعمون انهم محايدون، وربما معارضون، انني من الإخوان المسلمين لأنني اعتمدت على مصادرهم، وكأن القاتل سيسمح لأجهزة المخابرات والجلادين في السجون بتزويدي بروايتهم «الإنسانية» عن تعذيبهم للمعتقلين؟ ترى هل اطلع أحد على وثائق سجن تدمر؟ هذا اذا كان لدى السجن وثائق على أنواع التعذيب والإعدامات ومواقع القبور الجماعية في الصحراء، ما دام تزوير الحقائق يطالعك في مدخل السجن في لافتة كتب عليها «مركز التطهير الوطني». فالكذب لا حدود له.
الذين انتقدوني كانوا مثقفين يعتبرون ان تعذيب الإخوان المسلمين وحتى قتلهم اجراءً طبيعياً، وربما عملاً وطنياً. لكنهم ينسون أن هناك دولة وقانوناً، فلا يجوز للدولة التصرف كعصابات المخدرات والمافيا. إذا كان المعتقلون من الإخوان المسلمين أليسوا بشراً؟ كانت التحقيقات ارتجالية والمحاكمات مهزلة والإعدامات ميدانية. مع أن الكثير من الاعتقالات كانت على الشبهة، ولشبهات تافهة، لا شيء يحلل ولا يبرر إذلال البشر وتعذيبهم ليلاً ونهاراً، وطوال سنوات.

«الأبوة السياسية»
> في رواية «جنود الله» جعلت «الأب» لسان الرواي بكل ما يحمله النص من مرارة. هل ترى أن ثمة علاقة بين «الأبوة السياسية» المستبدّة و«الإرهاب» الذي بات الآن فالتاً من كل عقال؟ هل فعلاً نحن في حاجة إلى «قتل الأب» اجتماعياً وسياسياً؟
-ما حفزني على كتابة هذه الرواية هو التأمل في طموحات جيلنا وانكساراته ومآلاته. لماذا أفرز الجيل اليساري الذي سيطر على المشهد السياسي طوال عقود جيلاً أصولياً؟ وكأن الوراثة أخطأت قوانينها، فبدلاً من أن يتعمق النزوع اليساري ارتد إلى ما قبل السياسة. هل كان حراك أجيال، أو محاولة «قتل الأب» على المستويين السياسي والواقعي، أم لا علاقة لها بالأب، وإنما بإخفاقاته، وإن حملت صيغة التمرد؟ بدت عملية توريث من ناحية العناوين والأساليب، بينما المضامين مختلفة، تُلاحظ بتحوير شعارات الجيل اليساري إلى ما يماثلها: أصبحت الإمبريالية هي الطاغوت، والأنظمة الرجعية العميلة، أنظمة ملحدة ومرتدة، والحزب الثوري، الجيل القرآني الشاب، والكفاح المسلح هو الجهاد، أما العنف الثوري فهو الاستشهاد.
دخلت طروحات الجيل اليساري المهزومة إلى القاموس السياسي الأصولي، وأصبحت قيد الاستعمال، بعد تخلي اليسار عنها، ما هيأ مناخاً مواتياً للاتجاهات الجهادية ووفّر لها مادة دسمة كانت معطلة فاستخدمتها. ما أخفق فيه اليساريون نجح فيه المتأسلمون. هزيمة اليسار كانت كاملة ومتكاملة باسترشادهم بأنظمة دكتاتورية منحطة وفاسدة، ادعت أنها دولة العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، بينما كانت دولة التسلط والرعب، والاسترشاد بروسيا التي كانت محجّة اليسار المريض.
> أنت من الأشخاص الذين فضّلوا البقاء في الداخل حتى وقت متأخر نوعاً ما. لكنّ اللجوء أصبح واقعاً في عالمك اليومي والمجازي. ماذا تعني تجربة «المنفى» في التاريخ السوري المعاصر؟
– في هذه الحرب، تشهد سورية موجة نزوح هائلة، يدفع إليها النظام بالقصف والتدمير والاعتقالات العشوائية، حتى أصبحت ملاحقة الشبان واقتيادهم من الشوارع وعند الحواجز إلى الجبهات من الأمور المألوفة. النزوح لا يقتصر على فئة، يضم معارضين وموالين، خائفين وبائسين ويائسين، معظمهم فقراء يغادرون هرباً من جحيم الحرب، لمجرد البقاء على قيد الحياة، وربما ماتوا غرقاً أو اختناقاً في شاحنات المهربين. هذه رواية كبرى تحفل بحياة على شفا الموت.
خرجتُ من سورية وأنا اعتقد بأنني لن أبقى خارجها أكثر من أسبوع واحد، لكن إقامتي امتدت أشهراً. حينها بدا أن الأزمة ستجد حلاً قريباً، ثم ها العمر ينطوي وأنا بعيد عن بلدي، كأنما لا نهاية لحرب فلتت من حسابات النظام والمقاتلين، ودخلت في مجاهيل مخططات الدول الإقليمية والكبرى. أما الشعب فمغيّب، لكنّ وجوده حقيقة لا يمكن تجاوزها، في صموده وجوعه وابتهالاته وأمراضه وحصاره.
ثمة حقيقة أعيشها وأرفض غيرها، هي أنني ما زلت في داخل سورية، لم أغادرها، أسكنها أو تسكنني. لا أشعر بما حولي ولا أتآلف معه. أنا ما زلت في دمشق. أما إلى متى سينجح هذا التحايل، فلم ينفد صبري بعد.
> هناك حديث يدور حول مفهوم «الرواية التوثيقية». هل هذا «ضرورة» في أزمنة الاستبداد ؟
-لا أظن أن للرواية التوثيقية علاقة بأزمة الرواية السورية التي تمر منذ عقود بتجارب متعثرة، تنجح وتخطئ، وإنما على علاقة بأزمة حرية الرأي الذي لا يمكن استبعادها من نسيج العمل الروائي الذي هو على علاقة بالواقع، ما يضطر الكاتب إلى المحاولة الدائمة لإيجاد فسحات من الحرية كانت – على رغم الترميز – مستعصية بسبب الرقابة والمنع، واتحاد للكتاب عاجز عن أي شيء سوى مسايرة المنع، بتحظير مسبق، ما أنتج أدباً باهتاً.
في سورية لا يوجد ما يدعى «الرواية التوثيقية»، وأعتقد بأن ثمة محاولات في العالم لكتابة رواية توثيقية، لم تأخذ مداها. قرأت قبل فترة «حكاية أوزوالد» للروائي الأميركي نورمان ميلر، عن اغتيال الرئيس كنيدي، وهي رواية ضخمة تفوق الألف صفحة، استطاعت تغطية هذه الجريمة. ولكن قبل أيام ظهرت حقائق جديدة، فكأن شيئاً ما انتفى فيها، التوثيق هنا تعرّض للعطب.
> واضح أنّك تراعي في رواياتك دائماً شوارع دمشق العاصمة وزواياها. هل في «جغرافيا الذاكرة» هذه لفحة حنوّ على المكان الأول أم أنها تفصيلة أساسية في تقنيّات العمل الروائي في شكل عام؟
-المكان تفصيل مهم في العمل الروائي، فالبشر في الرواية يتحركون فوق الأرض، يدخلون إلى حارة، ويخرجون من زقاق، ويتمشون في الشوارع، ويرتادون المقاهي … تفاصيل لا توضع اعتباطاً، تمس شيئاً في روح الكاتب ومسار الرواية، وتلامس دلالات كثيرة… هناك جزء منا يصنعه المكان، لا ذكرى تخلو من حارة أو شارع، وربما نافورة أو طلعة أو نزلة، علامات في مشوار الحياة. إذا أضعنا المكان، فسوف يضيع شيء منا، ونسير في ظلام لا تنيره مسالك الطفولة والمراهقة والشباب والأصدقاء … ليست لعبة رومنطيقية، إنها حياة. نحن في البداية والنهاية بشر.
وإذا كنت أكتب عن أمكنتي الدمشقية بما يزيد عن غيرها، فلأنها شكلت لوحة لا تتعدى دائرة قطرها كيلومترات قليلة، كانت رئة دمشق الثقافية والفنية، فيها تتجمع دور السينما والمسرح والمكتبات والمدارس والمراكز الثقافية، والبرلمان والمطاعم ومواقف الباصات وساحة التظاهرات، وشوارع مرّ فيها الترام… هذه البقعة لم تعرف أجهزة مخابرات، كانت شرطة المرور المظهر المتحضر للسلطة. استعادتها تؤنسني. ولكن، مهما كانت درجة فقداني لها، فأنا افتقدها.

الشأن العام
> أنت مقل في الظهور، لا تهتم بعوالم التواصل الاجتماعي الحديث، لا تشارك في معارك وشجارات وأزمات الفايسبوك كغيرك من المثقفين والكتاب السوريين عموماً. هل هذه مساحة آمنة أم «انسحاباً تكتيّاً» بمفاهيم الثورة السورية؟ وكيف يمكن للمثقفين السوريين المساهمة أكثر في مجالات الشأن العام بعيداً من الأدب وصالوناته؟
– نعم، مقل في الظهور، وهذا عائد إلى طبييعتي، أحاول قدر الإمكان عدم المشاركة في العمل الجماعي من ندوات وغيره، لا أجيد هذه النشاطات، وطبعاً لست ضدها. أعتقد بأن لدى كل كاتب أفكاره وطريقة عيشه، يختار الأسلوب الأكثر انسجاماً معه، ربما كان الأكثر عطاء، ولو كان الأشد عناء. أنا على رغم ابتعادي عن أوساط السياسة والأدب في حالة تواصل ثقافي مستمر مع الجميع من خلال كتاباتهم، فأنا في شبه عزلتي منفتح على ما يجري على الأرض، وما يطرح من تساؤلات، مع المتابعة المستمرة لحركة الفكر والرواية والسينما والفن التشكيلي. طبعاً الكتابة تأخذ جل انشغالاتي. عموماً، في هذا الخراب لا مساحة آمنة. أخوض في رواياتي ما يجب برأيي التصدي له فعلاً، وأمارس طرائق عيش تمنحني حياة قلقة وليست سهلة، وهذا مايستهلكني تماماً.
> كيف ترى إلى ما تنتجه اليوم الرواية السورية؟
-أنا متفاءل مما يكتب اليوم، الرواية السورية تحقق تقدماً في الطريق الصحيح؛ لا مواربة أو مراوغة، لا غمغمة ولا مناطق مخاتلة ومخايلة. أدب يواجه الحقيقة مهما كانت مؤذية، وإذا كنت تعرضت إلى الطائفية، فعلى الأرض هناك من يفرز السوريين إلى سني وعلوي، ووفق المصادفة أما أن يعدم هؤلاء أو هؤلاء. لذلك من الحماقة والسخف ألا نسمي الأشياء بأسمائها، إلى متى نتوارى وراء وطنيات زائفة وكاذبة، ويتهم من يشير إلى هذا الإجرام. في روايتي «السوريون الأعداء»، اتهمت بأنني روائي طائفي انعزالوي (انظر الى هذا المصطلح المبتكر، لا تنقصه الفخفخة ولا التقعر!!). إذا لم يؤخذ هذا الشرخ الاجتماعي والوطني المميت في سورية بمبدئية وعقلانية، وجرأة وجدية، فما يكتب هراء، ودخول في دورة أخرى من العبث اللامجدي إلا في تأبيد إشكالاتنا.
نعم، نريد بلداً علمانياً ديموقراطياً، لا تستغل فيه الطوائف، يحكمه قانون لا يستثني اللصوص والمجرمين، يضع حداً لقتل الناس بأكذوبة المؤامرة الكونية، وذرائع فبركت لاستمرار الدكتاتورية ووطن سجين.
> ماذا يحتاج السوريون اليوم؟
طوال أكثر من أربعين عاماً، كان السوريون محجوبين عن العالم، فجأة ظهروا من باطن الأرض وطيات الظلام، وتعرضوا للشمس. يحملون أفكاراً مسبقة عن طيبة المجتمع الدولي، نتيجة اعتقادات ساذجة، فعوّلوا عليه، لكنهم فوجئوا بتخليه عنهم في شكل غير مفهوم. لم يدركوا أن العالم لم يأخذهم على عاتقه إلا في حالة واحدة، وهي في تسخيرهم لمصالحه. نعم، الغرب ليس جمعية خيرية، لكن يجب ألا يكون جمعية شريرة.
الحل الأقرب إلى الصحة، ألا نأمل شيئاً من الخارج، إنقاذ بلدنا يقع على عاتقنا.
يحتاج السوريون إلى الإيمان بالوطن السوري، لا يجمعنا غيره ولا بديل عنه، وإذا كان له أن يتحقق ويزدهر، فلا نظام شمولياً، مهما كانت صفته متعلمنة أو متأسلمة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى