لونا معلوف.. المدينة في تجلّيات حنينها

محمد شرف

قد تكون العلاقة بين الإنسان والمدينة من أكثر العلاقات رواجاً كموضوع قابل للمعالجة في وسائل التعبير وطرقه، المتنوّعة في إنتمائها إلى مجالات الأدب والشعر والفنون في شكل عام. «أطوي المدينة كما أطوي الكتاب»، يقول محمود درويش في «قصيدة بيروت»، في حين لا يتوانى مظفّر النواب عن القول: «قتلتني المدينة»، مع ما يحمله هذا الكلام من إشارات رمزية لامكانية. رسم الانطباعيون المدينة، أواخر القرن الماضي، على أساس كونها مرآة للتحوّل الاجتماعي، واكتشفوا فيها منظراً طبيعياً مغايراً، فقال هارولد هاوزر إن الانطباعية، في بعض تجلياتها، «هي رؤية الإنسان المديني الحديث، الشديد الرهافة والإرهاق». إلى ذلك تُضاف أمثلة كثيرة، من مساهمات مارك شاغال إلى نيكولا دي ستيل وسواهم.
ترى لونا معلوف، هذه المسألة من زاويتها الخاصة. المدينة هي بيروت في طبيعة الحال، التي عولجت مراراً كمكان من شأنه أن يُوفّر جملة من الإيحاءات والتواردات، تبعاً لطبيعة الموضوع المُراد العمل عليه، ونظراً لخلفية الرائي واهتماماته، وعلاقته بهذا الفرع الفني أو ذاك. هذه الاهتمامات تتوزّع لدى الفنانة، التي هي ابنة الفنّان والمنظّر ألفرد معلوف، والتي تدرّس في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا)، بين التصوير والفن والمعماري والسينما والطباعة على القماش. هذه المروحة من الاهتمامات تركت أثرها، من دون شك، على طبيعة الأعمال التي نراها أمامنا في المعرض الذي نحن في صدده.
المنحى التشخيصي
«حنين الغد» هي التسمية التي اختارتها لونا معلوف عنواناً لمعرضها. التسمية موحية في حد ذاتها، وإذا أضفنا إليها التسميات المُطلقة على الأعمال نفسها كـ «البارحة كانت اليوم»، أو «مدينة.. موقف.. إغواء»، إلى ما هنالك من عناوين أخرى، سنلمس حينها سعياً إلى إلغاء الفوارق الزمنية، والخلط المقصود ما بين الماضي والحاضر، وحتى المستقبل، مع ما يحمله ذلك من رؤية إلى المدينة تمتزج فيها المظاهر والأزمنة المختلفة ضمن الحالة الوجودية. هذا الأمر لا يغيب أيضاً، كما استوجبت المقاربة العامة، عن العمل التشكيلي. إذ تحاول الفنانة، من خلال هذا العمل، أو الأعمال، الجمع ما بين العنصر البشري، وما يرتسم عادة في أذهاننا من صور مادية تمثّل المدينة. الأبنية حاضرة في الأعمال كافة تقريباً، وإن كانت رسوم الأبنية لا تعكس بالضرورة واقعاً مادياً تمثيلياً، بقدر السعي إلى تصوير المدينة في شكل مختصر حيناً، من خلال إيراد بعض عناصرها المقتطعة من المشهد العام، أم عبر إخفاء معالمها وراء غشاء ضبابي، لا تغيب عنه محاولات التحوير وتبديل المعايير، خدمة للهدف التعبيري.
قلنا إن عناصر المدينة المادية حاضرة. وهذا الأمر ينسحب على العنصر البشري الذي يتجلّى حضوره في شكل إفرادي غالب الأحيان، كما تغلب عليه الصفة الأنثوية. في هذا المجال، لن نلمس، أيضاً، سعياً إلى حالات تشخيصية خالصة، وإن كانت أعمال تشي بمعرفة بأصول الرسم والتشريح. لكن المنحى التشخيصي لم تعتبره الفنانة هدفاً في حد ذاته، بل إن ارتقاءاته تأتي ضمن السياق العام، الهادف إلى تكوين علاقة عضوية بين الإنسان والمحيط المديني، وحتى في هذه الحالة لا تتوانى لونا معلوف عن رسم شخصيات تفتقد إلى عضو من أعضائها، أو ذات عيون مغمضة. وإذا شئنا الاعتماد على بعض مسارات التأويل لتفسير هذه المقاربة، لقلنا إن العلاقة المقصودة بين الإنسان والجماد (إذا ما نسبنا المدينة، مجازياً، إلى حالة الجماد) هي علاقة معقّدة، ورغم أن الجماد المُشار إليه لا يتحرّك إلا في حالات البناء أو الدمار، فإن تأثيراته النفسية، بما يضمّه من حيوات، وبما تختزن جدرانه من ذكريات وخيالات وصور وأحداث، تمتلك القدرة الكافية على التأثير في البشر، وتبديل معالمهم ذات الصفة المتبدّلة في جميع الأحوال.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى