‘فرانتز’ .. ميلودراما رومانسية تاريخية تعيد ثقتنا بالسينما الفرنسية

حميد عقبي

لمخرج الفرنسي الكبير فرانسوا أوزون، يعود بفيلم أبيض وأسود، باللغة الألمانية تتخلله أحيانا حوارات فرنسية عنوانه “فرانتز”، من بطولة الممثلة الألمانية بولا بيير ويشاركها البطولة بيير نينيه، وهذا الفيلم يختلف كثيرا عما قدمه من قبل، لكنه يحمل بصمات أوزون في نظرته إلى النساء ويعطي البطولة لفتاة ألمانية، كما أنه يطرح قضية العشق المستحيل والحرب التي تهدد توازننا العاطفي والروحي وتظل بشاعتها تقلقنا.

ويرى أوزون أنه رغم مرور ما يقرب من سبعة عقود على نهاية الحرب فإن تأثيراتها لا تزال تشكل الكثير من الحواجز العاطفية بين الشعوب الأوروبية، ولا يمكن تجاوزها إلا بمناقشتها فكريا وفنيا وأدبيا وتغليب عاطفة العفو والتسامح ومعنى ذلك أيضا عدم الدخول إلى حروب جديدة، فالإنسان لن ينعم بالسعادة في ظل وجود حروب بشعة فجميع الحروب غير أخلاقية وتخلق البؤس والكراهية وتقتل المعاني الإنسانية السامية.

البعض صنفه أنه ميلودراما تاريخية، تبين وجهة نظر ألمانيا وفرنسا حول الحرب العالمية الأولى، وتطرح وجهة نظر المخرج التى ترى أن الحرب قذرة وتستمر جراحها لسنوات طويلة فلا يوجد منتصر في أي حرب، وتترك الألم والحقد والكراهية، لذلك يجب أن تتصالح الأمم والشعوب وتتقارب على جسر المغفرة والمحبة.

تنطلق بداية الفيلم من قرية ألمانية صغيرة حيث نرى آنا (بولا بيير) شابة ألمانية جميلة، وتحمل باقة من الزهور، وتأتي كعادتها كل يوم لتهتم بقبر خطيبها فرانتز، الذي تحبه وفقدته بموته في الحرب، تندهش وهنا تلاحظ شخصا غريبا بجانب القبر ويضع الزهور على قبر خطيبها ويظل ينظر للقبر ويبكي، ثم يترك المقبرة ويغادر، بعد عودتها لمنزل الدكتور هوفمايستر وزوجته ماغدا، وهما والدا فرانتز تحكي لهما ماشاهدته وهكذا يمسكنا أوزون لنتعرف على ادريان (بيير نينيه) هذا الجندي الفرنسي قاتل فرانتز ويزور القرية ليعتذر عن فعلته ويطلب المغفرة لكنه يدعي أنه كان صديق فرانتز عندما كان مقيما في باريس قبل الحرب.

بعد محاولات عديدة ينجح ادريان في كسب ثقة عائلة فرانتز وتنبت علاقة صداقة تتحول إلى عشق مع آنا، لكنه يعترف لها بالسر ويطلب مغفرتها، ثم يغادر ويستمر ببعث رسائل الإعتذار وهنا نجد أن السر الخطير يهدم سعادة الفتاة التي تستمر بالكذب وتخفي الحقيقة عن الدكتور هوفمايستر وزوجته، بل تحاول الانتحار فقد وقعت في حب قاتل خطيبها.

يذكر فرانسو أوزون أن فيلمه استوحاه من نص مسرحي ثم شاهد فيلم المخرج الألماني إرنست لوبيتش “تهليلة مكسورة”، وكاد يترك الفكرة ولكنه أحبها أكثر وهو هنا يعرض وجهة نظر الفتاة الألمانية وليس وجهة نظر فرنسية، كما أن هنا تختلف عن نهاية فيلم لوبيتش، وقد أعاد كتابة القصة مخصصا مساحة كبرى للحب والحب المستحيل، العشق الذي يأتي في الزمن والمكان غير المناسب.

وهنا نرى فيلما عن الكذب والزيف التي لا يخلو منهما مجتمع أو عصر، ولكن نرى كذب آنا وإخفائها سر ادريان عن والد وأم فرنتز مخافة جرحهما وإحياء الجروح القديمة كون ما حكاه ادريان عن صداقته بفرنتز خلقت البهجة في هذه العائلة المنكوبة بفقدان عزيزها وشاهدنا حظ أم فرنتز للفتاة آنا على الخروج مع الشاب الفرنسي والتمتع بالحياة ثم تشجيعها لها بالسفر إلى باريس والبحث عنه، لقد واجهت هذه الفتاة قدر عشقها لشخص يحتم عليها حبها الأول أن تكرهه، ولكن العشق تمكن من قلبها وحتى أنها فشلت في الانتحار فربما كان الموت سيهون عليها هذه العذابات المؤلمة.

كشف أزون في إحدى مقابلاته أن الفيلم كان سيصور ملونا، ولكن قبل شهر من التصوير مع التجهيز وجمع الديكور والإكسسوارات القديمة أحسّ أن الألوان ستشبه أفلام ديزني، وجرب تصويرها أبيض وأسود فكانت النتيجة مدهشة وواقعية وظهر الديكور معبرا وجميلا لذلك أخذ هذا الخيار.

وهناك مشاهد قليلة تبدو ملونة لغرض درامي، كما كشف أنه لم يكن يعرف الممثلة بولا وعمل كاستينج في ألمانيا بمساعدة مكتب متخصص ولما شاهد بولا وجدها فتاة ذكية ومتفهمة وتتحدث قليلا الفرنسية ويعترف أنها ساعدته كثيرا وخصوصا في حوار الشخصيات باللغة الألمانية، بولا تبدو كشخصية نسائية من أحد أفلام هتشكوك وتمتاز بجديتها ووجهها ذي الملامح والتعابير الساحرة، وقد فازت بجائزة أفضل ممثلة بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثالث والسبعين عن دورها في هذا الفيلم.

وبخصوص اختيار بيير نينيه فيقول أوزون: “بيير نينيه يمتلك رأس ووجه شاب من حقبة العشرينيات، وهذا الوصف يغضبه لكن بمجرد أن وضعنا له ذلك الشارب الرقيق ولبس تلك الملابس ثم صورناه بالأبيض والأسود بعدها وجدت النتيجة مذهلة وقد بذل جهدا جيدا.”

أوزون يتعامل مع ممثليه بطريقة مختلفة تشبه تعامل المخرج المسرحي كونه يظل قريبا منهم، وأي مشهد يتم التمرن عليه ويستمع للممثل وقد يقبل بعض الاقتراحات وتعديل عبارة أو كلمة في الحوار، وهو لا يميل للخدع، فمثلا في هذا الفيلم اضطر بيير نينيه لتعلم اللغة الألمانية والعزف على آلة الكمان، فالمخرج يعتني بجميع التفاصيل الدقيقة في الديكور والملابس والأشياء الصغيرة ويحسب لكل لقطة حساباتها فيعطيها ما تستحقه من جهد ووقت كونها كائن حي له كينونته وجمالياته.

تمتاز سينما أوزون أنها كماركة مسجلة تنتمي إليه ولا تشبه أو تقلد غيره، وكل فيلم هو تجربة فنية جديدة يقدم فيها شخصية أو شخصيات نسائية تظل في ذاكرتنا مثلا فيلم “ثمان نساء”، و”فيلم شابة وجميلة” وفيلم “صديقة جديدة”، ويأتي هذا الفيلم الثامن عشر يحمل عنوان “فرانتز” أي اسم رجل لكن البطولة للفتاة آنا.

الفيلم يغوص في عالم هذه الفتاة وهو ليس قصة هذا الجندي الفرنسي الذي قتل جنديا ألمانيا ثم يطلب المغفرة، ما فعله ادريان بالفتاة يفوق في قسوته فعل القتل، أن تتقرب من فتاة ثم تعشقك هذه الفتاة وتمنحك قلبها بعد ذلك تهدم كل هذا وتكشف حقيقة قاسية ثم تنال المغفرة وتأتي الفتاة إليك ولكنها تصطدم أن عشقها مستحيل ولن تكون لها، هذه الفتاة يصعب وصف بؤسها ونشفق عليها من القدر القاسي.

المخرج فرنسو أوزون يمتلك أساليب متنوعة مدهشة في السرد السينمائي ولا يقدم الحكاية مباشرة للتسلية أو الضحك الرخيص، ودائما ما نجد استكشافات مرعبة ويدعونا للمشاركة والتفاعل ويترك الكثير من الأفكار والقضايا للنقاش والجدل وقد لا تكون أفلامه متابعة بشكل جيدا لدى شريحة الشباب الذي يبحث عن كوميديا هشة لكن لها محبوها كونها سينما فرنسية صافية ولها حظوة كبيرة عالميا ومرَّحبا بها في عشرات المهرجانات الدولية.

فيلم “فرانتز” للمخرج الفرنسي فرانسو أوزون، ميلودراما رومانسية تاريخية تعيد ثقتنا بالسينما الفرنسية وقدرتها على مقاومة موجات ومتغيرات كثيرة تدفع البعض إلى التهاون والتساهل والتقليد الأعمى لموجة ونوعية من أفلام هوليود السطحية، العامل الإنتاجي والمادي أصبح يقف عائقا ضد السينما الجادة التي تحمل نكهة فرنسية خالصة وكذا التي تطرح قضايا فكرية وفلسفية واجتماعية.

هنالك أخطار حقيقية تهدد سمعة السينما الفرنسية والتي لها سماتها الخاصة كانت ملهمة لموجات وتيارات سينمائية أوروبية ووصل تأثيرها إلى العالم كله، وتفاعلت هي أيضا مع غيرها، كل هذا الإرث الفني مهدد بالضياع، ولكن لحسن الحظ شاهدنا هذا العام مجموعة من الأفلام تفوح مسكا فنيا فرنسيا خالصا، وهذا الفيلم نموذج يبعث فينا الأمل والتفاؤل ويشعل شمعة تضيء جمالا وفكرا وبهجة.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى