هربرت ماكوزه يختلف مع الماركسيين ويتفق معهم

في كتابها “فلسفة الفن عند هربرت ماكوزه”، تعتبر مؤلفة الكتاب د. حنان مصطفى أن فلسفة الفن عند هربرت ماكوزه طرح جديد ورؤية جديدة للفن، وتشير إلى أن العمل الفني عند هربرت وإن كان مرتبطا بالواقع إلا أنه في نفس الوقت يمثل خروجا على هذا الواقع.

الفن بفضل حساسيته الشديدة للواقع، وهي حساسية تمثل انعكاسا لحساسية الفنان والمبدع، يمثل تمردا للذات الإنسانية على الواقع، إلا أن هذا التمرد أو هذا الخروج عند هربرت يأتي على خلاف الرؤية الماركسية للفن التي أهملت بعده الجمالي مثلما أهملت طابعه الذاتي.

فالرؤية الخاصة للفن وفقا لما حدده هربرت تنظر للفن على أنه انعكاس أمين للواقع، فالحساسية الجديدة التي تسعى إلى تحقيق ثورية الفن، وفي نفس الوقت تسعى أيضا إلى أن تتحقق هذه الثورية من خلال لغة خاصة بها، ومن خلال شكل جمالي مميز للعمل الفني.

• قوى مادية

وتشير أيضا إلى أن رؤية هربرت جاءت مخالفة للرؤية الماركسية للفن بشكل كبير، معتبرة أنه إذا كانت الرؤية الماركسية للفن قد أهملت بعده الجمالي فإنها أيضا أهملت طابعه الذاتي، ونظرت للفن على أنه مجرد انعكاس للواقع وتعبير مباشر عنه، وأن الفن مجرد بناء فوقي ويأتي تحته البناء التحتي المتمثل في القوى المادية للمجتمع، وهي رؤية لم يتفق معها هربرت ماكوزه.

لكن يمكن القول إنه اذا كان هربرت ماكوزه قد اتفق مع الماركسيين على أن الفن يمثل نوعا من الثورة على الواقع، فإن هربرت اختلف مع الماركسيين في نفس الوقت في أن الثورية لا تتحقق بطريقة مباشرة، لذلك فإن هربرت يعتبر أن الفن التجريدي هو أكثر الفنون تحررا وتحقيقا لرؤيته الفنية.

هربرت ماكوزه يعتبر أنه من الضروري أن يتميز العمل الفني بنوع من الحساسية، وأن هذه الحساسية ينبغي أن تنبع من خلال التمرد للذات على الواقع، كما يجب أن تتميز هذه الحساسية بأن يكون لها لغة خاصة تعمل على تكريس دور الفن للتعامل مع الشكل الجمالي، وفي نفس الوقت أن تكون لغة الفن في قطيعة تامة مع مفردات لغة السيطرة التي يحتكرها المجتمع.

وفي هذا الصدد أيضا، فإن هربرت أكد على ضرورة فصل الفن عن صيرورة الإنتاج المادي، معتبرا أن مثل هذا الفصل هو الذي يؤدي إلى تمكين الفنانين من التعبير عن رؤيتهم الجمالية للواقع، لأن الفن كلما تحرر من قيود الواقع كان أكثر قدرة على التعبير عن رؤية فنية أكثر إبداعا، وهو ما يؤدي لتغيير الواقع بشكل حقيقي من خلال الفن، وليس عن طريق نقل هذا الواقع كصورة وانعكاس مباشر، وترك مهمة التغيير للصراع الطبقي في المجتمع.

• واقع حالم

لكن ينبغي الإشارة مع ذلك إلى أن هربرت قد تجاهل فكرة التمييز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون كشرط أساسي من شروط المعالجة للواقع، واعتبر هربرت في هذا الصدد أن المعالجة الحقيقية للواقع تقوم على فكرة معالجة ما هو قائم بالفعل، وليس استبداله بوجود حالم.

وفي هذا الصدد، يعتبر المؤلف أن فلسفة هربرت ظلت على الدوام فلسفة انتقائية، وأن الشهرة التي حاز عليها وخاصة بين الشباب في فترة الستينيات من القرن الماضي تعود بصفة خاصة إلى قدرته على تقديم معالجات وطرح للمشكلات الحية بنوع من التحليل العقلي الاجتماعي، وذلك ضمن رؤية شاملة للجانب الثقافي في الواقع الاجتماعي العام.

ويشير المؤلف في هذا الصدد إلى أن هربرت وُلد في برلين عام 1898، وتتلمذ على يد مارتن هيدجر، وحصل على درجة الدكتوراه في عام 1922 عن موضوع “فنان الرواية الألماني”، لكن هربرت تأثر بشكل أكبر بهيجل، حيث مال إلى الطابع الفلسفي، وأخذ عنه أهمية التفكير السلبي، كما أخذ عنه رؤية التحليل المتصل للواقع، فخلص في النهاية إلى تقديم رؤيته المستقبلية الخاصة بتحويل الإنسان إلى ذي البعد الواحد، وإن كان أكثر تحررا وجمالا.

لكن في حقيقة الأمر، إن هربرت اكتسب صيتا كبيرا على الصعيد الأكاديمي بسبب تبنيه لأصول هيدجر، فقام بتطوير فلسفة هيدجر على أنها فلسفة مزدوجة للتاريخ تفصل بين (علم الوجود) و(الوجود الحقيقي).

كما يشير المؤلف في هذا الصدد إلى أن هربرت عبر عن مخاوف مبكرة من أن يشهد العصر الراهن هيمنة كاملة للحواسب الآلية على مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية العامة، وهي مخاوف يبدو أنها تحققت فعلا، وحيث انتبه هربرت في تاريخ مبكر لما يمكن أن تقوم به الحواسب الآلية من سيطرة كاملة على الوجود الإنساني

• الماركسية الأوروبية

ويشير الكتاب إلى أنه بالرغم من رفض هربرت للرؤية الماركسية للفن إلا أنه كان شيوعيا ثم انضم للمعارضة اليسارية في بلاده وصار الشخصية الرائدة لما عرف فيما بعد باسم الماركسية الأوروبية.

لكن على الرغم من ذلك، فإن هربرت ماكوزه لم يتردد في أن يقدم دراسة بعنوان “انهيار الماركسية”، قدم من خلالها رؤيته الناضجة التي اعتبر فيها أن الطبيعة المتغيرة للوجود المباشر للبروليتاريا في الرأسمالية الاحتكارية تتطلب تطويرا لعلم الاجتماع الماركسي، نظرا لأن رؤية كارل ماركس مؤسس النظرية الماركسية التي تتعلق بالطبيعة الثورية لطبقة البروليتاريا لم يثبتها التاريخ، كما أن الطبقات العاملة في المجتمعات الرأسمالية لا تمثل بالضرورة طاقة ثورية كامنة.

يشار إلى أن كتاب “فلسفة الفن عند هربرت ماكوزه” للدكتورة حنان مصطفى، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، ويقع في نحو 304 صفحات من القطع المتوسط.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى