«يوم للستات» لكاملة أبو ذكري.. حريات منقوصة

زياد الخزاعي

أن تصل 9 أفلام روائية عربية دفعة واحدة، من أصل 16 فيلماً، الى شاشات الدورة الـ60 (5 ـ 16 تشرين الثاني 2016) لـ «مهرجان لندن السينمائي» هو اختراق مشهود لسوق عروض ديناميكي، واستهداف إعلامي لمشهدية عرقية واسعة الأطياف يتوجّب المحافظة على اختراقها بذكاء وحرفية. ذلك، أن هذا المهرجان العريق ليس سلة عروض عابرة بل كينونة ثقافية لها تقاطعاتها واشتراطاتها وقواها التسويقية ضمن اقتصاد شرس لا يخفي «أمبرياليته» المتباهية بدهاء مصارفه وشركاته وسطوة عملته وكثرة مضاربيه.
السينما جزء من لعبة اقتصاد وتجارة، بيد أن النافذين على مصائر السينما العربية لم يفلحوا إلا في العشرية الأخيرة في توسيع خرائط مشاركاتهم وعروض أشرطتهم على فضوليّ أوروبا بسبب سياسات الانفتاح المتبادل. خلال حقبتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كان يصعب علينا ـ نحن ممَنْ تابعوا فعاليات هذا المهرجان المؤسس منذ العام 1953 للجرائد العربية التي «زُرعت» في العاصمة البريطانية آنذاك ـ التغييب غير المبرر للسينمات العربية كي تتوازى مع حضور آسيوي ضاغط، استهدفه المهرجان بسبب وسع عرقيته وثرائها ووطنيتها في الجزيرة المرفَّهة.

تحريضات الربيع
اليوم، يمكن اعتبار حضور هذه الأفلام التسعة (أحدها استعادة لشريط «وداعاً يا بونابرت» للمعلّم الراحل يوسف شاهين)، والمتصدّية للحظة عربية راهنة وعصيّة على التصنيف، انتصاراً لصوت إبداعي شبابي وتجديدي تقف خلفه قيادات إنتاجية وتوزيعية، وعت أن اللعبة السينمائية والنفاذ داخل تشعباتها واعتباراتها لن تنجح إلا بجعل العلاقات العامة رأس حربة تواصل وتعريف وتحريض وإقناع. سلعتها هذا العام اثنتان. الأولى، تحريضات ما سميّ بـ «الربيع العربي» المتجلّية في شريطيْ المصري محمد دياب «اشتباك» («السفير» 15 أيار 2016) ومواطنه تامر السعيد «آخر أيام المدينة»، والنصّ المميز للتونسي محمد بن عطية «نحبك هادي». والآخر، ما تعلّق بنسويّة عربية تغامر في رفع يافطات حرياتها بوجه إما إقدار شخصية منكوبة، حاكمتها باكورة المغربية هدى بن يمينة «إلهيات» («السفير»، 23 أيار 2016) بمشاكسة سينمائية باهر، أو سطوات رجعية اجتماعية وفاشيات دينية، كما بدتا في كوميديا السعودي محمود صبّاغ «بركة يقابل بركة»، وجديد المصرية كاملة أبو ذكري «يوم للستات» الذي يمكن اعتباره «غمزة» سينمائية غير متكاملة الحجج لإكراهات اجتماعية تتخفّى تحت أردية الفهلوة والشكائم الناقصة والتهكم الشعبي والإشارات المسيّسة والخيبات الفردية التي تعلنها إحدى البطلات اعترافاً بهزيمة ملتبِسة: «كلنا مجروحين»، ليصبح شعار أبو ذكري وكاتبة سيناريو شريطها هناء عطية في محاكمة «يوتوبيا» ضائعاً بين عناصر حكايات حب غير عادلة وعواطف مكسورة وأطياف سلطة لن نراها، أو على الأقل لن يتم التجاسر على كشف مخالبها ورموز عسفها وفسادها. الحجة، أن الأحداث تجري العام 2009، أي ضمن حقبة سياسية دارسة ومنتهية للرئيس المخلوع حسني مبارك، حيث تصبح صوره المطبوعة على ملصقات انتخابية والمعلقة على حيطان حارة سينمائية منمقة ومعزولة ومزدحمة ببشر يأكلون ويمرحون ويتسامرون ويتخاصمون بهمّة كائنات مؤمنة بأقدارها، ولا تخشى عواقب فقرها أو حظوظها العاثرة، وكأنها تذكير بقوّة «الدولة العميقة» التي كادت أن تقع فريسة سهلة لانقلابيي التكفير.

رغيف عيش
من هنا، فإن تلميح البطلة شامية (منتجة الفيلم النجمة إلهام شاهين)، المتولّهة بعبد الحليم حافظ والمتفاخرة بمنديل يحمل تطريز اسمه، بوصف «مصر التانية» وأهلها «القادرين على كل حاجة!»، إشارة مموّهة لـ «أخ أكبر»، والحاجة الى أمانه الشامل لأهل الحارة حتى وإن غابت رموزه بخبث. تتكشف مناورة الثنائي أبو ذكري/ عطية حول فكرة مفادها ان هؤلاء المواطنين قادرون بفطنتهم الشعبية على مواجهة صداماتهم وحل معضلاتها بإرادة ذاتية. فمَنْ الذي يسرق من الشهامة المصرية بادرتها الجماعية؟ هكذا، سنتابع ميلودراما مؤفلمة بطريقة محسوبة، وكأنها قفشات ثنائية لا عنف حقيقي فيها، وإنما مناوشات «بطولية» مبالغ فيها، تنتهي في الغالب الى مراضاة الدّم الواحد. نرى شامية المتحرّرة، وهي موديل سابق للرسامين أصابتها اليوم البدانة، تصارع أعرافاً عامة تجبرها على إخفاء (أو مداراة) حبّها لعمر (محمود حميدة) الخائب إثر فقدانه عمله في دولة غنية. فيما تصارع ليلى (نيللي كريم) على جبهتين، فاجعتها بغرق زوجها وابنها في حادثة العبارة الشهير، ومناكفات شقيقها الأصولي (أحمد الفيشاوي) الشاتم للجميع بأنهم «ما يعرفوش يصنعوا رغيف عيش!»، قبل أن يتكشّف لها حب الكابتن بهجت (أياد نصار) المشرف على مركز الشباب. وحدها، تقف الشابة عزة (ناهد السباعي) عند حافة نزاع مع الجميع، فهذه اليافعة المعوزة والأمية وشبه المعتوهة تمثل روحاً شبابية شعبية وجريئة ومتسامحة، وهي الأكثر هياجاً في ما يخص إعلان «رجل المايكرفون» بالقرار الثوري في تخصيص حوض السباحة التابع لمركز الشباب كل يوم أحد للنساء فقط. تستعيد عزة إنوثتها وهي تغني «ها أشتري مايوه. أنا ح أروح بالمايوه!»، فتكون الأولى في ارتياد المسبح حيث تتحوّل مياهه الى «حاضنة رحمية» رمزية حول جسدها، وحامية لحرية نسوية عارمة تمارس شعائر جماعية، لعل أكثرها تهريجاً ما جرى في مشهد أكلة «قدر المحشي»!، وما تبعها من سرقة ملابسهنّ على يد مجموعة زعران عقاباً على حريتهن المبالغ فيها، وانتقامهن تالياً بنشل ملابس الرجال وإهانتهم عند عودتهم الى بيوت الحارة.

فورة جماهيرية
هذه الانتفاضة التنميطية، تبعتها أخرى ضد الشاب الأصولي الذي يُطرد من الحارة نهائياً، وهي هبّة مسيّسة، كان يجب على الثنائي أبو ذكري/ عطية معالجتها بحصافة أكبر لخطورة نموذجها الإيديولوجي، وضرورة مقاربتها مع انتقاص سلطوي لحريات نسوية تكرست تشريعياً في مصر منذ العام 1956. عليه، فما قُدر له أن يكون تمدداً درامياً لأسبوعهن الوحيد وترميزاً عقلانياً افترض خروج «ثورتهن» لاحقاً من المسبح/ البيت العام الى شوارع القاهرة الكبرى لن يتحقق! وكما كانت عليه الفورة الجماهيرية الباهرة التي شعّت في فيلم أبو ذكري السابق «واحد صفر»، واختزلت فيها بحصافة سيرورة مصرية ضد إخفاقات شخصيات عشر مكروبة، يحتفي «يوم الستات» (فيلم الافتتاح لـ «مهرجان القاهرة السينمائي»، 2016) بظنون درامية تمرّر يافطات انعتاق بطلاته الثلاث من تعاستهن وتوطّدهن لمبادراتهن. نرى شامية في فراش حبيبها، وليلى في أحضان رجل مستقبلها، فيما ترفع عزة شالها وهي جالسة على المقعد الخلفي لدراجة نارية يقودها صديقها الميكانيكي داود صارخة في شوارع العاصمة الليلية إيذاناً بفجر جديد وأكثر أملاً… ربما!

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى