دفورجاك.. فتى بوهيميا الذي أبهر بالعالم الجديد فأبهَره

مصطفى القرة داغي

في نهايات القرن التاسع عشر، وبَعد أن عَمّت شهرة دفورجاك أرجاء أوروبا على أنه موسيقار التشيـك الأبرز، وصلت أصداء هذه الشهرة الى الولايات المتحدة الاميركية ومؤسساتها الفنية التي كانت تستقطب كل ما هـو جديد ومتميز من الأفكار والمواهب، وقررت إحداها دَعوته لإحيـاء مجموعة حفلات موسيقية بقيادته ويعزف خلالها بَعضاً مِن مؤلفاته التي أبهرهم سماعها وذيوع صيت مؤلفها.

رَحّب دفورجاك بالفكرة واستجاب لها وقرر السفر الى أميركا ليكتشف هذا العالم الجديد الذي لطالما سَمِع عنه لكنه لم يره، ومِن هنا بدأت قصة سمفونيته التاسعة والتي أسماها “العالم الجديد” التي تعَد اليوم واحدة من أروع وأشهر السمفونيات في تاريخ الموسيقى العالمية.

ولأن أعمال دفورجاك وحياته لا يمكن اختزالها بمقالة واحدة، لذا إرتأيت أن تكون هذا المقـالة عن جوهَرته الأبرز وقطعته الفنيـة الأغلى وهي “سيمفونية العالم الجديد”، والتي خطرت له فكرة تأليفها أثناء وجوده هناك مُخلداً بها هذا الزيارة وهذا العالم بعد أن بَهَره وأذهَله بكل صوره وتناقضاته وإيجابياته وسلبياته.

تبدأ الحَركة الأولى بجُملة هادِئة حَزينة قاتمة نوعاً ما تعزفها الوَتريات ثم الهَوائيات، ربما أراد دفورجاك مِن خِلالها أن يَصِف مَشاعِر الحُزن التي كانت تخالِجه في بداية رحلته بسَبب فراق الأهل والوطن.

ولكن فجأة يتفجر اللحن يُرافقه قرع الطبول تمهيداً لدخول لحن الحركة الرئيسي، والذي تؤديه الهوائيات بمرافقة موسيقى مرتعشة من الوتريات، ومن ثم تشارك الأوركسترا بأكمَلها في عزفه، وهو لحن يمتاز بالسُرعة والإندفاع كأنه يُخاطب العالم الجديد قائلِاً “أنا قادم إليك ومبحر باتجاهك” لأكتشفك وأسبُر أغوارَك وأؤلف عَنك سيمفونية سَتتحَدّث عَنها البشرية جيلاً بَعد جيل.

ثم فجأة يظهر لحن تشيكي ريفي الطابع يعزفه الفلوت بمصاحبة الوتريات يستمر سريعاً مندفعاً ثم يهدأ فجأة كما بدأ، حيث يعود اللحن الرئيسي ويبدأ بالصعود وصولاً الى نهاية الحركة، ليخبرنا بوصول دفورجاك الى أرض العالم الجديد.

الحركة الثانية؛ وصفها دفورجاك نفسه بالأسطورة، وتبدأ بلحن أداجيو هاديء كان سَبب شُهرة السيمفونية، وبات اليوم أسطوريا بالفعل لذيوع صيته، لحِن فيه الكثير مِن الشَجَن ويُعبر عَن مَشاعر الشوق والحَنين لوطنه بوهيميا، وقد إختار الهوائيات والهورن تحديداً لكونه آلة التشيك الفلكلورية الشهيرة لتبدأ عزفه مع مشاركة لاحِقة للوتريات، ولم يَنسى أن يَستحضر أجواء ريف بوهيميا وطبيعته الخلابة عِبر لحن شعبي فلكلوري تشيكي زيّن به وسَط الحَركة، ليَعود بَعدها لتكرار جملة الحركة الاولى الرئيسية، ربما كي يذكر نفسه بأن لا يَنجَرف كثيراً في مَشاعر الحَنين، ثم ليُنهي الحَركة بلحن الأداجيو سالف الذكر عَن طريق الهوائيات طبعاً، والتي كان لها القدَح المُعَلى في هذه الحَركة.

أما الحَركة الثالثة فتبدأ بتنويعات نغمية شبيهة بالسيمفونية التاسعة لبتهوفن، ولها قصة تحتاج وحدها لمَقالة مُطولة للحَديث عَنها، فقد استلهم دفورجاك موسيقاها مِن الموسيقى الشعبية الأميركية، وأرادها معبرة عن أميركا من خلال موسيقى سكانها الأصليين مِن الهنود الحُمر والمُهاجرين السود الأوائل الذي تم إستقدامهم للعَمل في أميركا، والذين تأسّسَت أميركا وبنيَت على أكتافهم.

إذ يَقول دفورجاك بأن هذه الموسيقى جَذبته ولفتت إنتباهَه فور وصوله الى أميركا، وقرر أن يَسبر أغوارها ويتعَلم عَنها قدر استطاعته، وفعلاً حاول خلال وجوده هناك التواصُل مَع السُكان الأصليين والسود، وزار مَناطقهم وتجَمّعاتهم وحَضَر احتفالاتهم واستمَع لموسيقاهم، ثم خرَج مِنها بالحان أعاد صياغتها وتوزيعها أوركسترالياً بجُمل موسيقية جَميلة قام بضمها في هذه الحَركة، أبرزها ذلك المقطع الذي استلهمه مِن لحن أغنية زنجية هي “ترفقي أيتها العربة”.

الحركة بشكل عام سَردية، وتعطي انطباعاً بأجواء مفرحة، كأنها تصف احتفالات السكان الأصليين من الهنود في غاباتهم، والسود في قراهم، وهم يرقصون ويغنون، وقبل الختام نعود لنستمع الى لحن الحركة الأولى الرئيسي الذي تنتهي به الحركة على غرار سابقاتها.

عام 1893 أراد دفورجاك العودة الى بلاده لتمضية عطلة الصيف مع عائلته، إلا أن ظروف عمله وعدم اكتمال سمفونيته التاسعة، بالإضافة لإصرار أصدقائه وهم أميركان من أصول تشيكية على بقائه لزيارتهم حيث يعيشون بأحضان الطبيعة الريفية بمنطقة إيوفا ذات الغالبية من ذوي الأصول التشيكية، كلها أمور شجعته على البقاء لزيارة المنطقة والإستمتاع بأجوائها التي ذكرته بالأجواء التي نشأ فيها بالتشيك، ودفعته لاستدعاء عائلته من التشيك الى نيويورك، ثم استقل معهم القطار الذي تخترق سكته الحديدية مدن أميركا وحقولها التي أثارت إعجابه وبهرته بطبيعتها وتطورها، وفوجيء عند وصوله بأهالي المنطقة وقد تهيأوا لاستقباله بتجهيز بيانو وأورغن وهورن، وهو ما ألهمه تأليف الحركة الرابعة للسيمفونية وإنجازها لترى النور ولتشع بطيف أنغامها ليس فقط على العالم الجديد الذي وصفته وخلدته، حيث عزفت أول مرة في 16 ديسمبر/كانون الأول 1893، بل وعلى كل العالم الى يومنا هذا.

في هذه الحركة سعى دفورجاك لتجسيد انطباعاته وأحاسيسه التي عاشها خلال رحلته الى هذه المنطقة ورحلته الى أميركا وعالمها الجديد عموماً واختزالها فيها. هي الأشهر من حركات سمفونياته الأربع، ويبدؤها بلحن هادر قوي يسيطر على جميع أجزائها مفعم بالطاقة والحيوية، ربما أراد أن يعبر من خلاله عن اندفاع القطار الذي جال به مدن أميركا المختلفة واطلع على تطورها وعمرانها.

تبدأ الوتريات بعزف اللحن بقوة ممهدة دخول أقوى للهوائيات والإيقاع، ثم يختفي اللحن ليحل محله لحن هاديء جميل يعزفه الكلارينيت المنفرد بمصاحبة الوتريات، يتبعه مقطع من ثلاث نغمات متنوعة، ليعيدنا دفورجاك بعدها شيئاً فشيئاً الى لحن البداية، ويتبعه بمقاطع قصيرة من الحركات الثلاث الاولى فيما يشبه الشريط السينمائي القصير، يستذكر فيه محطات رحلته الى العالم الجديد، لكنه هنا موسيقي ويختزل حركات السيمفونية الأربع بلحظات، ولينهي الحركة والسيمفونية بلحن حماسي إنتصاري يليق بقصتها وببنائها الموسيقي الدرامي.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى