يوسف العاني في ضحكه وبكائه

فاروق يوسف

لم يفقد المسرح العراقي برحيل يوسف العاني (1927 – 2016) ممثلاً كبيراً ومخرجاً ومؤلفاً فحسب بل وأيضاً شاهده الأهم من بين رواده. فالعاني لم يمارس النقد الفني حكماً على ما يقدمه الآخرون من أعمال مسرحية، بل كانت كتاباته في ذلك المجال بمثابة محاولة لتصحيح المسار التاريخي بما تمليه عليه حساسية بوصلته. وهي حساسية وهبت المسرح نوعاً من الحياة المترفة، التي يمتزج فيها ما هو نخبوي بما هو شعبي. كانت الرفعة هدفه من تبنيه تيار الواقعية النقدية فكان في كل ما فعل لا يخرج عن نطاق الفن الهادف، من غير أن يينزلق إلى الإرشاد المباشر. حين كان العاني يعتلي خشية المسرح يفرض نوعاً من الخشوع على الجمهور وهو ما تعلمه منه الكثير من تلامذته وزملائه في فرقة مسرح الفن الحديث التي أسسها عام 1952. تلك الفرقة الطليعية التي قدمت عبر تاريخها إضافة إلى المسرحيات التي كتبها أو استلهمها أعضاء الفرقة من الروايات المحلية مثل «النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان أعظم الأعمال المسرحية العالمية وفي مقدمها مآسي شكسبير التي تمت إعادة صياغتها بما يهبها طابعاً معاصراً ويومياً كما حدث في مسرحية «هاملت عربياً». كان العاني هو ذلك المعلم الصارم، القوي الحضور، الذي لا يقبل الحلول الوسطية في ما يتعلق بالدقة والإخلاص والالتزام بما تتطلبه الحياة على خشبة المسرح، باعتبارها مقدمة لتهذيب النفس البشرية. كان الأمر بالنسبة إليه يبدأ بالالتزام الأخلاقي والمهني والتقني لدى العاملين في المسرح قبل كل شيء.
غزارته وتنوع نتاجه في مجالي التأليف والإخراج المسرحي وإن صنعتا تاريخاً مجيداً، غير أنهما لم تلغيا شخصية الممثل الذي كان حضوره على خشبة المسرح ساحراً وأخاذاً ومهيمناً، بما يحرج الممثلين من زملائه الذين كان البعض منهم يفضل أن لا يقف أمامه على المسرح. في «عبود يغني» وهي تمثيلية تلفزيونية أخرجها المصري إبراهيم عبد الجليل كان العاني هو الممثل الوحيد. ولقد استطاع أن يكون جمعاً من الشخصيات لا فرداً وحيداً فكان وجهه حقلاً من الأقنعة التي كانت تظهر وتختفي بخفة، من غير أن تربك أحداً. كان ذلك العمل واحداً من أعظم دروسه لا في عمل الممثل وحده، بل وأيضاً في مجال تعزيز مفهومي التنوع والسعة اللذين تنطوي عليها الذات وهي تتنقل بين مختلف حالاتها.
ما وهبه العاني للمسرح قبل جمهوره لم يهبه أحد سواه، على رغم أن تلاميذه في فرقته كانوا يقفون دائماً عند خط الشروع الطليعي. لقد أخلص الرجل إلى شعار «المسرح مدرسة». فكان الجمهور يذهب إلى مسرح بغداد، المكان الذي قدم العاني على خشيته غالبية مسرحياته بلهفة طالب العلم الذي يدرك أنه لضحكه وبكائه أكبر الأثر في بناء شخصيته وتهذيب أخلاقه والعلو بقيمه الإنسانية. في «البيك والسائق» المقتبسة من احدى مسرحيات الألماني بريخت مزج العاني من خلال تمثيله الراقي الضحك بالبكاء بطريقة وضع من خلالها الحياة كلها على المائدة مثل فاكهة نضرة. كانت هناك لحظات فقد الجمهور فيها المسافة التي تفصل بين عالمين، بدا كل واحد منهما يعيش جنونه الخاص. فالعاني الذي كان يقف على المسرح باسترخاء لا مثيل له كان قادراً على أن يهدم الجدار الذي يفصل بين الأشياء ومعانيها بسرعة وخفة الساحر. كان التمثيل بالنسبة إليه نوعاً من أعمال الخفة النبيلة.
وإذا ما كان العاني رائداً في كل ما فعله، فإن ريادته تلك لا تنحصر في المجال التاريخي، بل تجاوزته إلى مجال تحديث الرؤية المسرحية، لدى الفنانين كما لدى الجمهور. فالمسرح في العراق بالنسبة إلى كثيرين هو يوسف العاني.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى