“هيباتيا” .. إعادة رواية التاريخ

إسراء إمام

“ماذا لو امتلك الكون شكلا مغايرا، لم نعتد أن نراه من خلاله. ماذا إن كانت تعمينا رؤيتنا له بالعين ذاتها عن طبيعته الحقيقية، كما تحجب عنا الشمس انعكاسات النجوم. لابد وأن أتجرد من حكمى السابق عليه لكى أراه حقا، لابد وأن أعيد النظر فى كل شىء، لابد أن أعيد النظر فى كل شىء” ..

هكذا قالت هيباتيا على لسان مؤديتها “Rachel Weisz” فى فيلم “Agora” إنتاج 2009. تفوهت هيباتيا بهذه العبارة، حينما كانت تبحث فى مسألة دوران الأرض من عدمها، هل الأرض حقا تتحرك بنا دون أن نعي، تلف بنا حول الشمس، بغير أى دراية منا؟! “هيباتيا” كانت فى هذا المشهد من الفيلم تقف لمعتقداتها بالمرصاد، يسعها وبكل رحابة صدر أن تقلبها رأسا على عقب، وتعيد تدويرها من جديد طالما ستفتح بهذا طاقة نور وبصيرة جديدة. تخلع عن نفسها أفكارا مُمَنطَقَة وضعها السلف، وتستعيض عنها باجتهادات تشعر أنها قابلة للمناقشة، وقريبة أكثر من الصواب. “هيباتيا” كانت تجدد دماء فكرها، لتواكب حركة الكون. تلفظ نظام بطليموس الذى يفيد بأن الأرض مركز الكون بينما تدور الشمس والكواكب حولها، فى داوائر متعددة إحداهما واسعة رئيسية، والأخريات صغيرات خاصة برحلة كل كوكب حول نفسه. ما كل هذا التعقيد؟ أهذه معجزة الكون؟ أن يكون معقدا لهذه الدرجة؟ ومن هنا تساءلت “هيباتيا” “ماذا لو كانت معجزة الكون تكمن فى بساطته المتناهية”.

“هيباتيا” كانت تبحث عن البساطة، بينما يلهث كل من حولها خلف الصراعات. كانت تزيح عن عينيها غمامات المعتقدات التى كونتها سابقا لكى تصفو لها الرؤية، بينما يتمادى الجمع المحيط بها فى تمريغ عقله بالضلالات والتعصبات. ولهذا كان لابد وأن يموت جسد “هيباتيا” المنقوع فى مثل العالم الملىء بالوساخات، حتى وإن بقيت روحها حية منتعشة داخل فكرها الذى تناقله البعض من قرن لآخر. “هيباتيا” التى رقدت فى قبرها كامرأة سعيدة، لأن مثلها يمتلك حكاية حقيقية لتُروَى، حكاية أنثى تسيدت واقع حياتها السخية فلسفيا، وواقعة موتها المفجعة.
هيباتيا الحدوتة

“هيباتيا” هى ابنة “ثيون” آخر زملاء مكتبة الإسكندرية، عاشت فى مصر الرومانية، ونذرت نفسها لتدريس الفلك والرياضيات، لم تلتفت أبدا لحياتها كامرأة، وتملصت دوما من مغازلات الرجال، لدرجة أنها فى مرة من المرات التى صارحها فيها أحد طلابها بمشاعره تجاهها، أهدته فى المقابل منديلا مقطرا بدماء دورتها الشهرية، لتخبره بحذق أنها لا تجد أى جمال فى الرغبات الجسدية. “هيباتيا” رفضت فكرة الإيمان المطلق، ولهذا لم تكن على ذمة أى دين، وتوجهت بولائها كله للفلسفة والتساؤل، فى الوقت الذى كانت تضطرم فيه الإسكندرية بنيران الحرب بين المسيحيين والوثنيين ومن بعدهم اليهود. وبينما كانت الصراعات متقدة، حرصت “هيباتيا” على تعليم تلاميذها المحبة وأخلاق الأخوة، على الرغم من اختلافات المعتقد مهما بلغت ..وحينما صعد أكثر من تلميذ لهيباتيا، متقلدا منصبا مهما فى الدولة، منهم “أوريستوس” الوالى الذى كان دوما يلجأ لمشورتها فى أمور الحكم، وبينما كانت “هيباتيا” منشغلة بنظرية دوران الأرض حول الشمس. حرّض الأسقف “كيرلس” جماعته المسيحية المتطرفة ضد “هيباتيا”، باعتبارها امرأة مشعوذة تتحكم فى مصير الوالى وتقوده إلى الكفر. وفى وقت كانت تسير فيه عربة “هيباتيا” فى شوارع الإسكندرية، هجم عليها أفراد من هذه الجماعة، وجردوها من ملابسها ومن ثم قاموا بسحلها عارية حتى سُلِخ جلدها وهى حية، ومن ثم وإمعانا فى الإهانة تجمعوا حول جسدها وأزالوا البقية الباقية من جلدها بالأصداف، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، قبل أن يحرقوا جثتها.

هيباتيا أجورا

فيلم “Agora” للمخرج “Alejandro Amenabar” قدم ملحمة حياة “هيباتيا” فى أفضل صورة يمكن أن نراها. ففى سيناريو “أجورا” نلمس الحرص على توثيق الظروف التاريخية التى عاصرتها “هيباتيا”، وفى الوقت ذاته لم تخلُ هذه الواقعية من ابتكار خط درامى إضافى، أخرج الفيلم من فخ الأصمية الفكرية والتسجيلية، وأكسبه بعض الحميمية. فهذه العلاقة الخاصة بين “هيباتيا” وعبدها “ديفوس”، فتاها الخاص وذراعها الأيمن، الذى اعتنق المسيحية وهو مازال فى خدمتها، وقلبه متعلق بها، يدعو الله ألا تكون لغيره أبدا، ضخت حياة للمشاعر الموجودة بالفيلم، ومن جهة أخرى جعلت لنا عينا قريبة من معسكر جماعة المسيحيين المتطرفة، التى انضم لها “ديفوس” بعد تطور الأحداث، وتراجُع الوثنيين لحساب المسيحيين الذين دخلوا إلى مكتبة الإسكندرية وحطموا كل شىء. مهد السيناريو لتعلق قلب “ديفوس” بالديانة المسيحية، فعلى الرغم من حب “ديفوس” لـ”هيباتيا”، إلا أنه لم ينس أنه كان عندها فى منزلة العبد، تتناسى دوما وتوبخه، أو تذكر أمامه وهى تنصح تلاميذها “لا تتقاتلوا، القتال سمة الرعاع والعبيد”. فى المقابل وضع السيناريو فى طريق “ديفوس” شخصية “أمينيوس” المسيحى شديد التعصب، الذى يضم عليه جناحه، ويعامله برفق المؤمنين على اعتباره من نفس ملته. فيستميله إلى الرب، يعلمه الصلاة، ويدفعه لكى يفنى نفسه وأمواله فى المَنّ على الفقير. لا عبودية، لا سيادة، الكل سواء.
“أمينيوس” الرجل الملطخ وجهه بالدماء، يمتلك قلبا هشا طيعا يضم به على “ديفوس” ويَكُن له ملاذا، وطمأنينة. هذه الشخصية التى قدمها السيناريو ببراعة لتجسد مأساة ضحايا التطرف الدينى، المخلصين فى ولائهم لدرجة التوحش والتدنى، على الرغم من أنهم يملكون وجها حقيقيا للإنسانية. شخصية “أمينيوس” شخصية صنعت معادلا مهما لدراما الفيلم، جعلتنا على حواف النبذ والشفقة لهؤلاء الجماعة الملتفة حول الأسقف “كيرلس”، وفى الوقت ذاته مثلت وازعا مهما لشخصية “ديفوس” صانعة منه ثائرا حقيقيا على العبودية، ونصف متمرد على حبه لهيباتيا وانصياعه لها.

ثلاثية الإيمان والتعصب والتبعية

بتحديد السيناريو لإطار كل من شخصية “هيباتيا” ،”أمينيوس” و”ديفوس” وبوضعه للخط الدرامى العام للعلاقات القريبة أو البعيدة التى تربط كلا منهم، وتقود أحداث الفيلم فى مسارها الصحيح يمكننا القول إنه قد أتقن رسم خريطة شفافة ووافية لشكل الحياة الإنسانية فى الإسكندرية بهذه الأوقات التاريخية الملتبسة. فبالاعتماد على واقع حياة شخصية حقيقية مثل “هيباتيا” والتى تعبر عن المعنى الفعلى للإيمان بالفكرة، وبالاستناد على مواقف تعصب سُجِلَت فى هذه الفترة وتوظيفها داخل قالب شخصية “أمينيوس” المُتخَيلة التى تشير إلى قلب الجهل والتشدد، مع تضفير كل ما سبق بحيادية شخصية “ديفوس” التى صنعها السيناريو لتَكوُن نموذجا للأشخاص التابعين، الذين فرغت قلوبهم من الانتماء صوب فكر وشعور معين بذاته، باتت مادة السيناريو المعلوماتية حول الحياة فى هذه الفترة العصيبة من تاريخ الإسكندرية، ثرية وغنية على كل من المستويين الدرامى والإخبارى. فثمة قماشة نادرة للكتابة اعتمد عليها هذا السيناريو، ما بين الروائية والإصرار بنزاهة على تزويد المشاهد بحالة صحيحة وشفافة حدثيا، من دون أى مغالطات فادحة حتى وإن كانت فى صالح الدراما.
بعض ملاحظات على الصورة

بعد واقعة انتقم فيها يهود الإسكندرية من جماعة المسيحيين المتطرفة، التى كانت لا تنفك تضايقهم، توعد المسيحيون لهم بالمقابل فى مشهد من المشاهد المقبضة، التى وقف فيها “كيرلس” يهدد وينذر ويخطب فى قومه مغتلا، وشرور العالم تسيل من عينيه بينما يلوك فمه كلام الله، تعمد المخرج “Alejandro Amenabar” أن ينهى هذا المشهد بطريقة القطع الحاد، تعقبه شاشة سوداء، ومن ثم يقتحم المشهد التالى الشريط الفيلمى بشكل همجى، زَخِم صوتيا بحيث تترامى فيه صرخات وعويل اليهود الذين يُذبَحون على يد المسيحيين، بينما الصورة تحمل وجه “هيباتيا” المقابل للكاميرا فى كادر قريب، وهى تجول مرتعبة فى الشارع الذى تدور فيه المحرقة، ومن حولها تتطاير رؤوس المدنيين اليهود وأطفالهم. ليس ثمة تعبير تصويرى مُلخِص، سيتفوق على هذه الخطة البليغة بصريا للتأكيد على وحشية وفوضوية العيش فى هذه المدينة السكندرية فى ذلك التاريخ.

“Amenabar” أصر طوال الفيلم على توثيق الكادرات البصرية التى ترمز للدائرة، فى مواقع مكانية طبيعية جدا تنتمى لشكل المدينة، والقصور. فهو بهذا استتبع ما يرمى إليه سيناريو الفيلم حول مفهوم الدائرة، التى أصرت “هيباتيا” أن تتجاهل قداستها فى الاكتشافات العلمية السابقة، وهى تبحث فى مسألة دوران الأرض حول الشمس، فإن كانت النظريات المثبتة السابقة بخصوص حركة الكون فى دوائر معقدة ستعيق طريق وصولها إلى حقيقة علاقة الشمس والأرض، إذن فهى ستطرحها أرضا فورا وتبحث بدءا من بعدها. وفى المقابل وفى نفس الزمن التى عاشت فيه هذه السيدة، قد يقتل أحدهم روحا للدفاع عن فكرته الدينية المتعصبة والتى لا تمت لأى تعاليم إلهية بصلة.

بعد سيطرة جماعة المسيحيين التى انتمى لها “ديفوس”، يأتى مشهد يدخل فيه بسيفه على “هيباتيا” ويجترأ على لمسِها عنوة، وهى سيدته التى كانت، ولكنه سرعان ما يتراجع ويبكى أسفل قدمها، فتقوم “هيباتيا” بدورها بخلع قلادة العبودية من رقبته، وتلقى بها إلى الأرض، فتستقر القلادة إلى جانب السيف، فى تكوين مستقل، يوحى بأن “ديفوس” وبرغم كل مشاعر الود والإنسانية التى ربطته بـ “هيباتيا” لم ينل حريته إلا بسيفه.

آخر كلمتين:

_ هذا الفيلم رغم طابعه التوثيقى فى الرواية، إلا أنه أصر على وجود اللمسة الرومانسية القوية، والتى قد لا يحملها فيلم رومانسى صُنع خصيصيا لتكثيف مثل هذه المشاعر.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى