التناص وأشياء أخرى في ‘نقوش على جدران الذاكرة’

عاطف الحناوي

أقدم بين أياديكم مجموعة من الملاحظات النقدية من وحي ديوان “نقوش على جدران الذاكرة” للأديبة البارعة أميرة عبدالشافي، ومن قراءة سيرتها الذاتية نجد أننا أمام واحدة من العالمين باللغة العربية بفضل دراستها وموهبتها وممارستها الإبداع شعرا وسردا وأيضا ممارسة النقد الأدبي.

ولا أخفي عليكم أن زوجتي حينما أمسكت بالديوان وتصفحته قالت لي: هذا ديوان يستحق القراءة، هذا ديوان جميل، وقد قالت ذلك في معرض تفضيلها هذا الديوان الذي بين أيدينا الآن وبين ديوان آخر يغلب عليه الغموض وعدم وضوح الدلالة والرؤيا وطالما أن الحكومة – زوجتي أعني – أعجبها الديوان فلا شك عندي أنه جيد بالفعل وصدق أمير الشعراء حين قال:

ليلى على دين قيس ** فحيث مال تميلُ

و كلّ ما سر قيسا ** فعند ليلى جميلُ

إذن مدخلنا إلى الديوان هو الحب، لأن شاعرتنا قد شغلت مساحة ديوانها بقضية الحب حتى إنها جعلتها مذهبها واعتقادها كما فعل ابن عربي حين قال:

أدين دين الحب أنى توجهت ** ركائبه فالحب ديني وإيماني

وقالت أميرة متأثرة بالتراث الشعري العربي – وهذه نقطة سأفرد لها الحديث بعد قليل تقول:

“نقل فؤادك حيث شئت من الهوى”

يا من تباهي بكثرة الأسفار

“ما الحب إلا للحبيب الأول”

هذا بحق مذهبي وشعاري

والحب كما نعرف جميعا له حالاته المتعددة وأحاسيسه المتباينة ما بين وصل وهجر وبعد وقرب ما بين خوف ورجاء ما بين يأس أو أمل، ولقد أفاض ابن حزم في شرح تلك الحالات والأعراض في كتابه الثمين “طوق الحمامة”.

الملاحظة الثانية بعد سيطرة الحب وحالاته على الديوان هي ما ذكره الدكتور محمد عبدالله في بحثه القيم “التراث والحداثة .. فاروق شوشة نموذجا” حيث يقول:

“شكل استرفاد التراث والتناص معه أحد العناصر الأساسية في بناء القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بما نأى بها عن الذاتية والغنائية التي وسمت خطابنا الشعري على امتداد عقوده الماضية وخصب رؤاها بأبعاد موضوعية ودرامية كاشفة عن رؤية الشاعر المعاصر لمفهوم الشعر”.

ويبدو في هذا الديوان أن شاعرتنا لديها وعي بهذا الاسترفاد وهذا التناص مع التراث بحيث نجدها تتناص مع نصوص أدبية قديمة ومع أمثال شعبية ومع الأسطورة العربية الأخلد “ألف ليلة و ليلة”.

أما في مجال الاقتباس من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي الشريف فهذا واضح جلي في غير موضوع من الديوان وثمة ملاحظة أود أن أذكرها قبل ذكر أمثلة من الديوان على تأثرات الشاعرة بالقرآن والحديث أقول: إني أكره أن يقال عن القرآن إنه تراث لأن قولنا بأنه تراث يعني بداهة القول بتاريخية القرآن والسنة، والقول بتاريخية القرآن تخرجه من إطار قدسيته، وتفتح المجال للعابثين بالدين وهدم أهم قواعده بحجة أنه شيء تاريخي ونحن يهمنا الواقع والمستقبل.

القرآن إذن ليس تراثا وليس تاريخا ورثناه من عصر البداوة حتى يزعم الزاعمون وينعق غربان التنوير المزعوم وبوم الحداثة وما بعدها أن القرآن لا يصلح لهذا الزمان والحق أن الزمان لا يصلح إلا به.

عودة إلى الديوان ..

تقول الشاعرة وهو اقتباس من القرآن (كلمة اقتباس هنا متعمدة) في قصيدة “دثار الحب”:

يا قلبي لا تقصص رؤياك على أحد

فيكيدوا للحب الساكن حلمك كل مساء

طاوعت بحبك كل شياطين الشعر

فبدت سوءات الكلمات

وطفقت أدثر أشعاري حبا

وأواري عجز حروفي

ليتك حين تراودك الأشعار

عن بعض الأشواق

لا تتعفف.

في هذه القطعة من القصيدة نجد الشاعرة مزجت بين قصة يوسف عليه السلام وقصة آدم وحواء وقصة سيدنا محمد – صلى الله وسلم على الأنبياء والمرسلين – وذلك بأسلوب فني وبلاغة وبراعة وبدلالات جديدة دلالات إبداعية.

وفي قصيدة “اشتهاءات الحنين” تقول:

نازلت القلب كثيرا

قلت سآوي للبعد فيعصمني من حبك

لكن الحق ..

لا عاصم من عينيك سوى عينيك

وهذا اقتباس جميل من قصة نوح عليه السلام وابنه حين قال لأبيه: “سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم”.

وتقول في قصيدة “التعويذة”:

تستقسم بالأزلام أمام إله البعد

لتطمئن قلبك

أنك ما أخطأت

أنك حين وأدت فؤادي

قد أرضيت الرب.

وتقول في قصيدة “دقات الرحيل”:

أنا الغريب العاشق

ومذهبي كان الهوى

حطمت أصنام الدعة

وانتصبت قصيدتي في العشق

تلحي من كفر

فأتوا على أعين كل العاشقين

أشهدوا

ولتصلبوني مثل باقي الأمنيات

حرقوا قلبي وزكوا فعلكم

يا نار كوني .. برد أيام الهوى.

وفي معرض الاقتباس من الحديث الشريف يأتي قولها في قصيدة “اشتهاءات الحنين”:

يا سيدي

حفت عيونك بالمكاره والفؤاد قد ابتلي بصنوف أوجاع الهوى

فأحايل النبض الذي قد كان لي

شيئا من العتبى لترضى.

وهما حديثان عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول في الأول ما معناه: “إن الجنة قد حفت بالمكاره وأن النار قد حفت بالشهوات. “فالشاعرة جعلت عيون الحبيب معادلة للجنة والطريق لعيونه محفوفة بكل المصاعب والأوجاع، وهذا اقتباس جيد جدا.

والحديث الثاني وهو من دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام يوم الطائف:

“لك العتبى حتى ترضى ولا حول و لاقوة إلا بك”.

الشاعرة أميرة عبدالشافي في ديوانها “نقوش على جدران الذاكرة” تعتمد كما هو واضح جدا على التراث كمنبع لا ينضب للجمال والرؤى.

الحديث عن أمر الاقتباس من القرآن والحديث في ديوان أميرة عبدالشافي يلذ لي ولكن كي لا أطيل أنتقل إلى نقطة أخرى.

ننتقل إلى مبحث الحديث عن التناص مع التراث في “نقوش على جدران الذاكرة ” فإننا نجد أن شاعرتنا الرقيقة تتناص مع الشعر العربي القديم والأمثال فنجد في قصيدة “مراسم عيدي” قولها:

من القلب للقلب ألف رسول

وباقات نور

وتقول في “سياف الشعر”:

مسرور

مزروع تحت وسادة عشقي

في دولابي

خلف ستائر دنياي إلى الحب

لا يتحرك قيد براح عن قلمي

يرقبني

كيف الهرب إلى البوح

كيف استدعاء البحر إلى شعري؟!

إن ألفاظا مثل سياف و مسرور – أضف إلى ذلك تلك الحالة من الحصار والرقابة الخانقة – تلك الألفاظ تدفع العقل والوجدان دفعا إلى حضن ألف ليلة وليلة وشهرزاد وحكاياها الخلابة.

ولكن توجد قضية هنا، وهي قضية توق الشاعرة إلى الحرية إلى البوح بدون قيود وها هي تعلن في “حلم الحب”:

دعني أحبك في المنام

دعني احبك دون أي تحفظ

دون اتهام

وتقول بعد ذكرها لحالة الحصار في “سياف الشعر” تقول:

كيف النوم بلا رعب في أحضان الحب

كيف أغازل محبوبي في ملأ

من دون رقابة؟!

ولست أدري إن كان يمكننا حمل بعض القصائد في الديوان على أنها نوع من العشق الصوفي الإلهي، ونؤولها على ذلك ربما نستطيع ذلك وربما لا المهم أننا إذا حاولنا التأويل فلا يجب أن نعتسف اعتسافا ونلوي عنق النصوص كي تبوح بما نريده نحن منها وأقول بأننا لا نعدم وجود بعض شذرات ولمحات صوفية هنا وهناك في ثنايا الديوان ففي قصيدة “معراج” تقدم الشاعرة نموذجا لذلك:

وأبيت على قارعة الليل أقيم صلاتي

أتلوك الورد الأوحد للبعد

وتقول:

معراج الروح إليك صلاة

وصلاتي في الحب حياة

وكذلك تقول الشاعرة في قصيدة “شقيق الروح”:

قد اتخذ الفؤاد هواك دينا واعتناقا

وقولها:

وافتح بين القلب وبين فيوض الله ستارا

باركني

عمد قلبي في حبك .

وشاعرتنا تدرك بوحي من ثقافتها وتجربتها الإبداعية كيف أن الإبداع يأتي من رحم الألم والمعاناة فتقول ذلك في صراحة وبشكل تقريري مباشر في قصيدة “قري عينا”:

إبداعي

يخرج من رحم الألم

فاقس بعض الشيء على قلبي

لكني أستحلف قلبك …. لا تبعد

كن لي أرضا

تستقبل كل خريف

أوراق الشعر

إن تساقط من قلبي

قل لي: قري عينا

أختبئ بقلبك سرا

فاكتمني عشقا

واصرف عنا أنات البعد

لملمني

وانثرني في ليلك فجرا

أسكني أوراق الشعر

لأفوح بحبك دوما

إني أتضوع عشقا

هذا النص تحديدا – وقد أوردته هنا كاملا – رغم بدايته التقريرية كما أسلفت إلا أنه يحمل قدرا كبيرا من التصوير الشعري الرقيق ومن الاقتباس من القرآن ويحمل وعيا بأن الشعر تنضجه المعاناة.

• ملاحظات ختامية:

جاءت أكثرية النصوص من الشكل التفعيلي وجاءت ثلاثة نصوص فقط في الشكل البيتي والثلاثة كلهم من بحر الكامل “متفاعلن” وهي نصوص “أول الأحباب” و”كأس الهوى” و”ذكرى لقاء” وجاءت عناوين النصوص الثلاثة مركبة من كلمتين إحداهما مضاف والثانية مضاف إليه.

كما تنوعت أوزان وإيقاعات القصائد بين المتدراك “فاعلن” في صورة الخبب وبين المتقارب “فعولن” و بين الكامل “متفاعلن” والرجز “مستفعلن” أيضا.

ومما يؤكد على ان قضية الحب هي قضية شاعرتنا الكبرى، شيوع كلمة الحب في الديوان منذ أوله وحتى آخره فقد وردت مادة “حبب” حوالي 66 مرة في مساحة قدرها 62 صفحة هذا بصرف النظر عن ألفاظ أخرى تحمل معنى الحب مثل كلمة الهوى والعشق وغير ذلك مما يشيع في الديوان. وهو ملمح أسلوبي إحصائي ذو دلالة مهمة استفدناه من الدراسات القيمة التي قدمتها د. الأديبة سميرة شرف.

تقول شاعرتنا في قصيدة “ميلاد الحب”:

وأذن لليل الأبدي بأن يرحل

أرى أن الشاعرة لو استخدمت كلمة الأزلي بدلا من الأبدي لكان أفضل لأن الأزلي تدل على الماضي البعيد العمق والأبدي تدل على المستقبل.

وفي نص “اشتهاءات الحنين” أرى شيئا من التناقض – وقد أكون مخطئا – تقول الشاعرة:

وأرى الليالي جاثمات فوق درب الصبح

تغتال السكوت

وأتساءل: كيف تغتال الليالي السكوت والسكوت والهدوء من سمة الليل والحركة والصوت من سمة الصباح؟

تقول الشاعرة في قصيدة “سراب”:

فأنا اعتزلت الشعر والأشواق

وقلبُك … لا أريد

هل الأولى أن تقول الشاعرة: قلبك بالنصب أم قلبك بالرفع (المثبت في نسخة الديوان هو الرفع بالضمة) وفي اللغة سعة وسماحة تتيح لنا التأويل.

أعجبني في الديوان استخدام القوافي في النصوص التفعيلية بما له من موسيقى مريحة للنفس وهو إضافة إلى ذلك ملمح أصيل ورثناه عن رواد شعر التفعيلة بما يجعلها ذات وشيجة بتيار الشعر العربي وموسيقاه الرائعة.

أعجبني جدا استخدام الشاعرة ضمير الجمع “نا” في قولها:

فاكتمني عشقا

واصرف عنا أنات البعد

فقد كانت الشاعرة تتحدث بضمير المفرد ثم انتقلت إلى الضمير الجمعي، وهذا التحول له دلالته لأن البعد لا يؤذي العاشقة وحدها بل هو يؤذي العاشق والمعشوق. وفي الوصل شفاء لهما، هذا العدول عن صيغة المفرد إلى صيغة الجمع جاء ذكيا وملهما. وصدق من قال بأن البلاغة والنحو صنوان وتلك صفة لا توجد إلا في لغتنا العربية اللغة الشاعرة بحق وليس تعصبا ولا توهما.

لقد تماشت القصائد والتناص مع التراث مع عنوان الديوان، وكأني بالشاعرة تقول لنا بكل ثقة إن ذاكرة هذه الأمة تحتوي الكثير من الجمال الذي لا ينضب وعلينا أن نبتكر في إطار ذاكرتنا – الفردية والجمعية – وتراثنا وأن نضيف إليها إبداعاتنا دون الانقطاع عن التراث وعن جذور أمتنا العريقة.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى