أمل جمال سفيرة السلام أرسلت ‘لا وردة للحرب’

صبحي فحماوي

الشاعرة أمل جمال شاهدت أطفال فلسطين يموتون متجمدين بلا أغطية في ثلوج لبنان، فكتبت لي رسالة شخصية بحرقة وألم، تسألني كيف ترسل مكافأة ديوانها الجديد المالية “لا وردة للحرب” لأطفال فلسطين المهجرين، والذين ينامون في العراء على ثلوج لبنان.

قرأتُ ديونها المحشو بعذابات الخوف والرعب والأمومة التي تطفح بها أمل فتبكيها وتعتصر دموعها شعراً. ونظراً لشدة تأثري بقصائدها، التي أدهشتني وأبكتني، أوجزت مشاعري نحو إحداها بأقصوصة نشرتها في كتاب أقصوصاتي الموسوم بعنوان “قهقهات باكية”، وذلك باسمها الجمالي، بعنوان:” رسالة الشاعرة أمل جمال”. والتي تقول فيها:

“مري بسلام أيتها الطائرة،

فصرخات أطفالي التي تتفجر ليلا في كوابيسهم،

تبولهم اللإرادي.. اختفاؤهم تحت الأسرة، هو ما يفزعني، لا أنتِ.

مُرّي بسلام فلا صواريخ أطبخها، ولا قنابل يلعب بها أطفالي كرة القدم.

مري بسلام، وأخبري أمهات الجنود في جيشكم،

أن الذي يجري في عروقنا دم يحمل نفس فصائل دمكم،

وأننا نَحْمَل تسعة أشهر، تنمو فيها أحلامُنا المسالمة بأبنائنا،

وأن من حقنا أن نراهم يكبرون.

الجنرالات ليست لهم قلوب، مري بسلام، واطلبي منهم أن يوقفوا سفك الدماء.”

هذه الأمومة الشعرية، كلها “أمل” أن تمر الطائرة بسلام، فلا تقصف لحوم عشها الطفولي. ولا تفجر كوابيسهم الليلية. ولا تضغط مشاعرهم التي تتدفق بولا لا إرادياً على ملابسهم، فيتعفن به فراشهم البسيط، إذا وجد هناك فراش.

هذه الأم “أمل” ليست خائفة على نفسها من الطائرة القاتلة، بقدر ما هي خائفة على أطفالها المختبئين رعباً تحت الأسرّة. فعندما تكبر الأم، لا تعود تخاف على حياتها بقدر ما تخاف على أطفالها من الرعب، أو الموت رعباً، أو الموت برداً، أو الموت جوعاً، أو الموت تشتتا وغياباً.

الشاعرة، الأم؛ “أمل” التي تريد أن تطبخ لأطفالها طعاماً يأكلونه، فتراهم وهم ينمون ويكبرون، وتريد كرة قدم يلعبون بها فيفرحون وتنشط عضلاتهم، تجدها تقول للطائرات:

“مُرّي بسلام، فالصواريخ التي لديك غير قابلة للطبخ، والقنابل التي تحملينها لا يمكن لأطفالي أن يلعبوا بها كرة القدم.”

هذه الشاعرة، امرأة مسالمة، تنشد السلام والمحبة. ولا تنشد الحرب. ولذلك تقول للطائرة الحربية: “مري بسلام.” وهنا نستطيع تمييز “الأدب النسوي المقاوم” الذي ينشد الأمن والسلام لأعشاش الطفولة.. بينما “أدب الرجولة المقاوم”، قد يقول للطائرة:

” إذا تعديت حدودك، وهاجمت سماءنا فسوف نسقطك بصواريخنا..”

إنها تطلب من الطائرة القاتلة أن تمر بسلام، وأن تخبر أمهات الجنود في جيشهم، أن الذي يجري في عروقنا دم يحمل نفس فصائل دمهم”. تخاطبها، وكأن الجنود الذين يقودونها فيهم دم، يجعل أبدانهم تقشعر من ممارسة أبشع أنواع الإرهاب، وأبشع القتل.

الفكرة الجديدة التي تبثها أمل في قصيدتها توضح أن الإنسان أخ للإنسان، ويحمل نفس صفات دمه. فلا يجوز لأصحاب الدم الواحد أن يقتلوا بعضهم. فالذئاب لا تقتل بعضها البعض. وكذلك الأرانب والغزلان، وحتى القرود لا تقتل بعضها البعض، لأنها من ذوات دم واحد. فما بالك بالإنسان الغبي المجرم بطبعه، وهو يقتل بني جلدته، ويدمر الإنسانية بسلوك مشين؟

هنا يأتي شعر أمل جمال بأفكار جديدة. إذ تقول للقتلة الذين بداخل الطائرة: إن نساءنا تحْمَل تسعة أشهر مثل نسائكم، تنمو فيها أحلامُنا المسالمة بأبنائنا، بعكس ما تنمو أحلامكم القاتلة، وإن من حقنا أن نحمل تسعة أشهر بسلام كما تحمل نساؤكم. ومن حقنا أن نرى أطفالنا وهم يكبرون، كما تربون أطفالكم وتريدون أن تروهم يكبرون. وإن قتلكم أطفالنا يمنعنا من سعادة رعايتنا لهم وهم يكبرون.

تذكر أمل ذلك وهي تنسى أنها تكاتب من يدعون أنهم فوق الشعوب كلها، بصفتهم “شعب الله المختار” الذين يريدون الآخرين عبيداً لديهم. هكذا يعلمونهم في المدارس.

لقد عبرت أمل جمال بمشاعر شعرية حساسة عن الأمومة والطفولة وبشاعة الحرب، وصورت هيمنة الطائرات على سمائنا المسالم غير المستسلم، مما جعل أطفالنا يبولون في سراويلهم، وهم يختبئون تحت الأسرّة. هذا إذا كان لدى اللاجئين الفلسطينيين أسرّة ينامون عليها.

ونظراً لشدة تلهفها لتحقيق السلام، ونبذ الحرب، أهدت أمل ديوانها الشعري “لا وردة للحرب” إلى الأمهات، وردات العالم، وإلى صانعي السلام من أبنائهن. هذا إذا بقي أحد من حولنا في هذه الأيام يصنع السلام الذي تنشده الأمهات.. فكتبت:

“الإهداء:

إلى الأمهات.. إلى صانعي السلام حول العالم من أبنائهن.

إلى الأطفال والعصافير.. إلى الشجر والحجر والفراشات والهواء..”

وهذا ما يؤكد أن أمل تعيش لترسم السلام على الأرض، وذلك بأشعارها وأحاسيسها وسلوكها اليومي.

هذه الشاعرة المذهلة الكلمات، تجدها تصلي (صلاة الخوف) قائلة:

“إنها من مساكين هذا الوطن، تسير في الشوارع، وتمضي دونما أقنعة أو ثقافات .. تعرج على بائعي الخضراوات، وتقف مع بائعي السمك، تناقش حظر التجول.. وأعداد القتلى.. وثمن الطماطم. تترك نفسها صخرة تضربها الريح. ولكنها في الليل تتأمل أطفالها النائمين في حدائق أحلامهم، وتنظر للخارطة التي تتشظى، وتنظر للغد وللتاريخ.. بينما هي مرعوبة من الصحراء الزاحفة علينا بتوحشها.. إنها تخاف ككل المساكين”.

ومن المدهش استشراف المستقبل في أشعار أمل قولها إنها تخاف من القارب الذي يترنح. تقول هذا من قبل أن ينقلب ذلك المركب الذي غرق بعيداً عن شاطىء دمياط قبل شهر، ومات خلال الغرق مئات المهاجرين، إذ لم يسعفهم أحد إلا بعد عمر طويل. ولهذا تقول أمل أن القادم أعمى… وأن كهف الغول يجثم فوق البركان.

وتقول في قصيدة لها بعنوان “على درج الفقراء”:

يجلس الموت منتظرا حذاءك الذي يكبس زر الانفجارات

أيها الموت: تفضل ههنا لست غريبا عن عائلتي.

أيها الموت استرح سأصنع لك شايا

وأفتح التليفزيون وأصمت حتى تنتهي الحرب من ترتيب قوائمك الجديدة!

الحديقة الوحيدة المزدهرة هنا هي حديقة الدماء، أين يمكن أن نلتقي؟

إنها تؤنسن الموت، وتحادثة بصفته إنساناً – ولو كان مجرماً – فهو يكبس بحذائه زر انفجار القنابل. يتعامل مع البشر بحذائه.. يقتلهم بكبسة زر من حذائه. هكذا تتعامل البشرية مع بعضها البعض. سحقاً لهذه البشرية المجرمة. تؤنسن الموت القاتل، إذ تُضَيِّفه شاياً في بيتها المرهون للحرب، وتحادثه وتتسلى معه، وتقول له: “تفضل ههنا.. بيتك ومطرحك.. فلست غريبا عن عائلتي.. الموت يزورنا، يسكن بيننا.. أيها الموت استرح سأصنع لك شايا، وأفتح التليفزيون وأصمت..

هي ستصمت خضوعاً لجبروت الموت.. وليس احتراما. وبينما هو يرتب قوائم الموت الجديدة، ستبقى تخدمه وتخدمه، حتى تنتهي الحرب.”

هي بالنتيجة تقدم الخدمة، ليس حباً في الخدمة، ولكن من أجل أن تنتهي الحرب.

وأمل هنا تشبه الملكة كليوبترا التي كانت تلاغي وتناور وتعشق أنطونيو وتخدم يوليوس قيصر، ليس حباً بهما، بل من أجل أن تبعد شبح الحرب عن وطنها مصر.

ولكن الحرب هي الحرب.. والعدو هو العدو يا أمل .. فلا داعي لملاغاته.. بل تجب مقاومة طغيانه بنفس القوة التي يواجهنا بها.

وها هي تفهم درسها، إذ تختم قصيدتها بوعي نبيه فتقول للموت القادم:

“الحديقة الوحيدة المزدهرة هنا، هي حديقة الدماء، فأين يمكن أن نلتقي؟”

هي تعرف أن ما أُخذ بالقوة، لا يسترد بغير القوة. ولهذا تنبه المعتدي بأن الحديقة الوحيدة المتاحة هي حديقة الدماء الذي سيواجه الدماء، وسينتصر على الدماء. إنها مسالمة وليست مستسلمة. فالحوار الوحيد مع المعتدي على وطننا العربي هو “وداوِها بالتي كانت هي الداء.”

***

امل جمال، تقول بحرقة الألم: انصتوا للركام.. بقايا الجثث تنادي:

هذه قدمي هناك .. أحضروها …

أين يدي؟

أريد أن أقابل ربي بعينين ﻻ بواحدة. ابحثوا..ابحثوا.

وتقول أيضاً: أيها الجنرالات، ماذا تبقى لي؟ فردة من حذاء أبي! وصورة أمى التي لم أعرفها! ونصف نظرة على الخواء! أيها الجنرالات، يا آلهة اليتم… من سيمنحني ظهرا أرتكن إليه.. حتى الحوائط فجرتموها. وكل هذه القصائد ترفض الحروب والتفجيرات التي يزرعها الجنرالات في كل مكان. إذ تقول في قصيدة بعنوان “حذر”:

“اكتبوا وصاياكم كل ليلة، واحتضنوا أطفالكم، وقبلوا نساءكم، من يدري متى سيقابله الموت، منزويا قذرا في كيس بلاستيكي أسود في أي شارع؟”.

بقي أن نقول إن الشاعرة “أمل جمال” خريجة جامعة المنصورة – 1990. ودرست في الكلية الملكية بلندن 2002. وهي عضو اتحاد كتاب مصر. وعضو أتيليه القاهرة. وسفيرة السلام العالمي بدائرة سفراء السلام العالميين – جنيف سويسرا.

صدر لها عدة دواوين شعرية منها: “لا أسميك”، 1995.” من أجل سحابة” 1998. “حدث فى مثل هذا البيت”2000. “بحيرة الضفدعة”، للأطفال 2001. “إطلالة .. دراسات فى الرواية والقصة القصيرة”، ثقافة الدقهلية، 2001. “حكايات من الغابة”، قصص للأطفال،” كتاب قطر الندى” 2002. “كأنها أنا”, ديوان شعر, جماعة إضافة الأدبية 2008. “زهوري السوداء السرية” 2008. “السنجاب الأحمر”, 2009 قصص أطفال. “تيجي معايا” شعر للأطفال, 2011. “حين يحكم الثعلب” ترجمة قصص أطفال توليستوي، 2014.

ولها عدد من الكتب المترجمة من الإنجليزية، والصادرة عن المركز القومي للترجمة، نذكر منها؛ “الجنة تقريبا” للشاعر الأميركي سام هاميل, “يقاس بالحجر”, مختارات مترجمة للشاعر الأميركي سام هاميل, 2014. وترجم ديوانها: “حدث في مثل هذا البيت” للإنجليزية بأميركا. سياتل. واشنطن. 2014. “فضاء لجناح” 2015. ولها تحت الطبع عدة دواوين.

الشاعرة المُجدّة المَجيدة، أمل جمال تستحق أن تكون سفيرة السلام في أرض قال عنها تعالى: “وادخوا مصر إن شاء الله بسلام آمنين.”

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى