المراكز الثقافية في سوريا: مزاج موظفين لا مثقفين

سامر محمد اسماعيل

قبل الحرب، وبعدها أيضا، ظلت المراكز الثقافية في سوريا عبارة عن أبنية وقصور معابد لثقافة تعيد اجترار أنشطتها الشكلية، حيث تعود هذه المعضلة إلى ازدواجية في آلية إدارة هذه المراكز ومفهوم تابعيتها؛ إذ تتبع هذه المؤسسات لوزارة الإدارة المحلية في جانب الصرف المالي، وتغطية مصاريف الأنشطة الثقافية تحدده الميزانية المرصودة لهذه الأنشطة من قبل الوزارة عينها؛ حتى في مسألة الترشيح لتعيين مدراء المراكز الثقافية، تكتفي وزارة الثقافة بتشكيل لجنة، لكن الأسماء تُطرح عليها من قِبل القيادة القطرية والترشيح يكون عن طريق أُمناء فروع الحزب ومن ثم المحافظين؛ لتُحال قوائم الأسماء المرشّحة لمقابلة مرشحين بعينهم. هكذا تكون خيارات انتقاء مُدراء للمراكز الثقافية محصورة في قوائم الأسماء المرشّحة مسبقاً؛ فحرية وزارة الثقافة السورية تقتصر على تقييم عمل مدراء المراكز الثقافية، وربما يجوز بالمسؤولية السياسية لوزير الثقافة أن يعيّن مديراً هنا ومديراً هناك، وذلك غالباً عندما يصيب الفساد مركزاً من المراكز، أو أن أداءه يكون دون المطلوب.
رقم هزيل
حساب أهمية الثقافة في بلد ما يتمّ غالباً بحساب نصيب الفرد الواحد من إنفاق هذا البلد على الثقافة؛ فإذا عرفنا أن ميزانية وزارة الثقافة لم تصل يوما إلى 2 في المئة من الميزانية العامة للدولة، فسيبدو الرقم مضحكاً لو قسّمناه على عدد السكان، يقول المهندس حيدر الحائز درجة الماجستير في الإدارة الثقافية من باريس مضيفاً: «في الحديث عن المراكز الثقافية، يبدو اعتماد الإحصاءات هو المبدأ العلمي الدقيق لفهم طبيعتها ودورها ونجاعة مهمتها. فالإحصاءات تقول بأن في سوريا 460 مركزاً (عام 2009) ومع افتراض أن نصفها ما يزال ضمن الخدمة أي 230 فحتى لو تمكن كل مركز من استقطاب 1000 شخص سنوياً (وهذا رقم مبالغ به) لكان قد تمّ المساهمة بتثقيف 230000 شخص سنوياً، أي 1 في المئة من الشعب السوري فقط. وهذا رقم هزيل إذا ما قارناه بعدد المساجد، التي لها دور تثقيفي مختلف، في مدينة كدمشق مثلاً».
ومع ذلك، ترى المراكز على قلتها تعاني من قصور يطول شرحه، لكن حيدر يوجز أهم أسبابه بما يلي: «ما تزال المراكز الثقافية تخضع لنظام داخلي تمّ وضعه في عام 1961 كما تتبع مالياً وإدارياً منذ عام 1985 لمجالس الإدارة المحلية، ليبقى الإشراف الفني فقط خاضعاً لوزارة الثقافة، وليصبح هذا التشابك مُعطِّلاً للفعالية الثقافية، خاصة أن المجالس المحلية أهدافها خدمية بالدرجة الأولى وليست ثقافية؛ يضاف إلى ذلك غياب الاستقلالية المالية، فليست هناك ميزانيات خاصة بكل مركز. وبالتالي لا يستطيع أي منها أن يضع خططه لو أراد حسب موارده المالية، بل يبقى خاضعاً لمفهوم الصرف العام للجهة التي يتبع لها وحسب أولوياتها. يترافق ذلك مع غياب الخطط الثقافية الشاملة، واستمرار إدارة عمل وزارة الثقافة بنفس المنهجية تقريباً منذ إنشائها عام 1960؛ لا سيما أن كوادرها لا تتغير إلا بالتقاعد. وإنّ تمكّنت بعض المراكز من إقامة فعاليات مميزة أحياناً؛ يبقى الاستثناء الذي لا ينفي القاعدة أن روح المبادرة وحدها لا تكفي إن لم يكن هناك تخطيط ثقافي شامل، وكوادر مؤهلة لقيادة العمل الثقافي». بالمقابل، تبدو الحلول ليست مستحيلة يعقب (حيدر) الذي يعمل اليوم كمدرّس في المعهد العالي للفنون المسرحية: «تكون مناصب الإدارة للفاعلين وليست للتشريف، إعادة إلحاق المراكز بوزارة الثقافة، الاستقلالية المالية، ووضع خطة عامة بأهداف مرحلية محددة سنوياً. كل ذلك كخطوة أولى على الأقل».
التراجع
بلغ عدد المراكز الثقافية قبل الحرب 487 مركزاً في شتى بقاع الأرض السورية، لكن مع دخول الحرب عامها السادس تراجع عددها ليصل إلى ما يقرب من 250 مركزاً، حيث أحالت التنظيمات الراديكالية مراكز الرقة ومنبج وجرابلس وريف حلب الشمالي والميادين والبصيرة والبوكمال في دير الزور وسواها من المدن والبلدات السورية، أحالتها إلى محاكم شرعية ومستودعات لتخزين الذخيرة والأسلحة، وتم إحراق عشرات آلاف الكتب الموجودة في مكتبات هذه المراكز، بينما تعرض قرابة 50 مركزا ثقافيا للدمار الكامل كما هو الحال في داريا وأجزاء من أرياف إدلب وحماه ودمشق ودرعا والقنيطرة، بينما ظل مصير العديد من معاهد الثقافة الشعبية مجهولاً في أرياف تدمر والباب والحسكة.
مهما كانت السلبيات التي تحيط بالمراكز الثقافية، إلا أنّي أرى من الضرورة وجودها، يقول الشاعر والروائي باسم سليمان مضيفاً: «حتمية فكّ ارتباط هذه المراكز بوزارة الإدارة المحلية وغيرها من الجهات الوصائية بات أمراً حاسماً، وأن يقتصر نشاطها على ناحية التجهيز المادي الثقافي، كتقديم المسارح وقاعات العرض والمكتبات وغير ذلك من مواد ثقافية، لمن يود القيام بنشاط ثقافي أو فني، إذ لا بد من اعتبار المراكز الثقافية مرفقا عاما من حق الجميع استخدامه؛ سواء أكان مجاناً أم بمقابل نقدي، لا يتحقق فيه الإثراء دون أن يكون هناك أي توجيه من سلطات سياسية عليا أو اجتماعية أو دينية، فمن خلال هذه الطريقة نؤمن منابر إيجابية لمن يملك خطاباً فنياً مهما كانت سويته، ونترك الحكم على جودته للجمهور، وإذا تم الاعتراض على عمل فني ما، أو رأت جماعة ما، أنه يسيء بشكل أو آخر لمنظورها، تكون المرجعية في البت بالنزاعات الفنية لمحكمة مدنية تعقد جلستها بالإضافة إلى القاضي مع مستشارين ثقافيين من الذين أثبت عطاؤهم الفني جودته وأحقيته. ولجهة واقعها الحالي، فهو أفضل من عدم وجودها، لكن المراقب لصيرورة عملها من اللحظة التي تسنمت فيها الأنشطة الثقافية، يجدها في الدرك الأسفل وذلك يعود لأسباب عديدة، منها القائمون عليها خاصة، وضيق مساحة الحرية والمحسوبيات والعلاقات الخاصة».
ثمّة مشكلات تنظيميّة حادة في معظم النشاطات التي تُقام في مراكز الثقافة، تقول الصحافية رهام محمد ساردةً إحدى الطرائف التي شاهدتها أثناء حضورها لأنشطة أحد هذه المراكز بدمشق: «في العام الفائت أُقيم مهرجان فني؛ تضمّنت فعاليّاته أمسية أدبية، وكان للقاعة التي أقيمت فيها الأمسية باب واحد اجتمع خلفه إعلاميون في الخارج، وشرعوا ينادون كل شاعر باسمه ليخرج إليهم لإجراء لقاء معهم. أذكر أنه فُتح الباب المجاور للمنبر وأُغلق مرات عديدة أثناء الأمسية! ولكَ أن تتخيّل حالة الفوضى التي سادت القاعة، ما دفع بأحد الشعراء المشاركين إلى الاحتجاج وترك المنبر حتى انتهاء تلك المعمعة. فضلاً عن أنّ الموظفين في المركز تذكروا مهمتهم (باكراً)، فوضعوا (ملصقات) الإعلان عن الأمسية في القاعة أثناء إلقاء الشعراء لقصائدهم»!
مفارقات
مفارقات عديدة يمكن رصدها في طريقة كيفية إدارة هذه المراكز التي خرجت اليوم عن اهتمام الجيل الجديد، بدلاً من تطوير عملها وتحويلها إلى فضاءات أكثر انفتاحاً على فنون الحداثة وتكنولوجيا المعرفة، ظلت هذه الأوابد في جزءٍ كبير منها خاضعة لمزاج موظفين لا مثقفين، ولأطقم محاضرين لا يأتي لسماعهم سوى أفراد قلائل من عائلاتهم وأصدقائهم مجاملةً، حتى أن معظم الأماسي التي تقدمها يكون عدد المحاضرين أكثر ممن يستمع إليهم على كراسي الصالة، ناهيك عن أن هذه المراكز في معظمها تضم مسارح وتجهيزات عالية الجودة، لكنها كلها رهن بأوقات الدوام الرسمي، حيث تغلق هذه المراكز أبوابها أمام الزوار في الثالثة بعد الظهر، إلا في حال وجود محاضرات مسائية يتم الإشهار لها في اللوحة الإعلانية للمركز، دون أن يكلف القائمون عليها أنفسهم ولو حتى تصميم صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لأنشطتهم. الأمر الذي جعل الجمهور، ولا سيما الشرائح الشابة منه، تتسرب إلى ملتقيات شعرية وفنية ذات طابع أهلي، وجدت في مطاعم ومقاهي دمشق وسواها من المدن السورية، متنفساً لهم، فكان في هذا السياق أكثر من ملتقى شهد إقبالاً كثيفاً من شعراء وموسيقيين وممثلين وسينمائيين شباب، كان أبرزها ملتقيات «يا مال الشام» للمسرحي أحمد كنعان، وملتقى «أضواء المدينة» للشاعرين عمر الشيخ وعلي عقباني، و «نصف الكأس» للشاعر محمد خير داغستاني، إضافةً إلى ملتقى «عناة» للشاعر عدنان أرزوني، وملتقى «جسور» لجورج حاجوج.
(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى