التشكيلي المصري السيّد القمَّاش «فارس الأبيض والأسود»

ياسر سلطان

غيَّب الموت الفنان المصري السيّد القمّاش عن عمر يناهز الخامسة والستين بعد صراع مع المرض. ويعد القماش واحداً من فرسان فن الرسم بالأبيض والأسود، ولا يخفى منجزه البصري كأحد الفنانين المصريين المتميزين في هذا المجال. تخرج القماش في كلية الفنون الجميلة في القاهرة وعمل أستاذاً لمادة التصوير الجداري في كلية الفنون الجميلة في مدينة المنيا جنوب القاهرة والتي كان أحد مؤسسيها.
أكثر ما يميز تجربة الفنان الراحل هو ذلك الخيال الجامح الذي غلَّف أعماله، والفضاءات المسكونة بالدهشة التي كان ينسج تفاصيلها وملامحها على الورق من طريق أقلام الرسم الصغيرة. فقد عاش القمَّاش مستغرقاً في خيالاته إلى الحد الذي كان يخاف فيه من نفسه أحياناً حين يلامس خياله الجامح شيئاً من الحقيقة. فأعماله كانت ترتسم في مخيلته قبل البدء في إنجازها، وحين يجلس إلى مساحة العمل الفارغة إنما ينقل هذه الصورة المرتسمة بكل تفاصيلها في ذهنه ويجسدها على مساحة العمل. كان القماش يحوّل أحلامه وخيالاته تلك لوحات مليئة بالذكريات والأساطير وتفاصيل أخرى كثيرة. آخر هذه الأساطير والحكايات عرضها القماش تحت عنوان «إرهاصات نهاية العالم»، وهي تجربته الفردية الأخيرة التي حملت كثيراً من مخاوفه ورؤيته الفنية للعديد من القضايا والصراعات البشرية، كما تضمَنت استشرافاً للصراعات التي اندلعت في المنطقة. فقد كان يستشعر في داخله تراجعاً لهذه القيم النبيلة والمبادئ الإنسانية، وتدفعه مخاوفه إلى التساؤل الدائم حول مصير العالم والبشر في ظل تلك الصراعات والحروب والاختلافات الأيديولوجية، وكان لهذه المخاوف أثرها على كثير من أعماله اللاحقة.
اتسمت أعمال القماش بثرائها البصري والغني في العناصر والمفردات، واستندت إلى مخزون بالغ الثراء استجمع مفرداته عبر السنوات، منذ كان طفلاً يستمع إلى حكايات جدته. كان في صغره ككل الأطفال مغرماً بالاستماع إلى الحكايات والحواديت التي ترويها جدته، يقف مشدوهاً بهذا العالم الذي ترسمه الكلمات المسجوعة في ذهنه. كانت الكائنات والوحوش والشخصيات التي تمتلئ بها تلك الحواديت تقفز رغماً عنه إلى مخيلته، تزوره في أحلامه ويقظته، وظلت طوال رحلته مع الفن تمثل جزءاً كبيراً من نسيج خياله، محتفظة كما هي برونقها وطزاجتها ودهشتها الأولى. كان القماش ينتقي من هذه الحكايات كيفما شاء: مفردات وعناصر وأشكالاً وكائنات خرافية ومشاعر متوهجة لا حصر لها.
كل هذا الوهج الخرافي الذي أثارته في داخله حكايات جدته، يشتبك مع عالم آخر عايشه أيضاً في طفولته وتشكَّلت معالمه في ذهنه مع مرور الوقت، إذ كان يعمل مع والده في ورشة لتشكيل المعادن. كانت ألواح الصاج وقطع الحديد تتشكل أمام عينيه مفاتيح وأقفالاً ومسامير وأشياء أخرى كثيرة ظل يراها ويستحضر ملمسها لتتسلل دون وعي إلى تفاصيل لوحاته وتلتحم بكائناته الخرافية مشكلة أجواء ذلك العالم الذي يسكنه.
يصنف كثيرون أعمال القماش في ما يمكن أن يطلق عليه «السريالية المصرية». ويرى بعضهم أن تجربته تعد امتداداً طبيعياً لهذا التوجه الذي ظهرت ملامحه في مصر مع فناني جماعة «الفن والحرية» التي أسَّسها جورج حنين في مطلع أربعينات القرن العشرين. غير أن القماش لم يكن يحب هذا النوع من التصنيفات، فهو لم يسع إلى إدراج أعماله تحت أي مسمى أو قالب، ولم يكن يحبذ ارتباطه بمدرسة أو اتجاه بعينه حتى لو كانت طبيعة شخصيته ومعالجات أعماله تتلامس في شكل ما مع ذلك الاتجاه الذي يغلب عليه التعامل مع الأحلام والأفكار الميتافيزيقية.
مثَّلت رسوم الأبيض والأسود التجربة الأوضح والأكثر تأثيراً في حياة القماش، على رغم تجاربه اللونية وتخصصه كأستاذ في قسم التصوير الجداري في كلية الفنون الجميلة. وقد يكون عمله لسنوات في أحد المكاتب الهندسية قبل الالتحاق بالفنون الجميلة، أثَّر في علاقته على نحو ما بهذه الأدوات. فقد تدرَّب على رسم التفاصيل واستعمال أقلام وأحبار حتى صارت تلك الأدوات جزءاً من تركيبته اللاواعية في تصور الأشياء. وبلونين اثنين ظل ينشئ عالماً كاملاً من الظلال والمفردات والعناصر التي لا تنتمي إلى أحد سواه. عاش القماش ورحل مخلصاً لمساحة الرسم، تلك المساحة الصغيره التي شيَّد فوقها عالمه الشاسع والمدهش والتي ستظل بعد رحيله شاهدة على تجربته الفريدة في الرسم بالأبيض والأسود.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى