جائزة «نوبل» الآداب هل صارت لغزاً؟

عمار علي حسن

كالعادة، جاء الفائز بجائزة نوبل للآداب من خارج التوقعات والتكهنات والطابور الطويل ممن يعتقد المهتمون بالأدب كتابة وقراءة ونقداً ودراسة أنهم أصحاب الاستحقاق والجدارة. من فاز هذا العام كان مفاجأة بامتياز، وهو الشاعر والملحن والمغني الأميركي بوب ديلان، وقد ترك فوزه اندهاشاً أشد من فوز البيلاروسية، صاحبة السرد السياسي والصحافي، العام الفائت، أو حتى العام الذي سبقه حين فاز الروائي الفرنسي باتريك موديان، والذي تساءل بعد خمس ساعات من الصمت عقب معرفته بنبأ فوزه: «لماذا حصلت على نوبل؟». هو لم يكن يسخر من نفسه بالطبع، بل كان الرجل، الذي اعترف بأنه «يكتب نسخاً من كتاب واحد على مدار خمسة وأربعين عاماً»، حريصاً على أن يفهم، وليس مجرد شخص يضبط تصرفاته ليبدو متواضعاً في لحظة زهو بانتصار كبير.

دهشة
الاندهاش من فوز ديلان ليس ابن اليوم، بل هو متكرر ويصاحب الإعلان عن جائزة نوبل في الآداب في كثير من السنوات. فقبل نحو ستين سنة كتب الأديب والمفكر المصري عباس محمود العقاد كتاباً بعنوان: «جوائز الأدب العالمية: مثلٌ من جائزة نوبل»، تطرق فيه إلى الضجة السنوية التي يثيرها الأدباء والنقاد عن الفائز بنوبل، حيث يقال في حالات كثيرة: «هناك الأحق»، أو يكون البعض أكثر صراحة، وربما قسوة، ويقول: «الفائز لا يستحق أبداً»، وعلى ضفاف هذا تُتهم اللجنة بالتحيز السياسي أو العرقي أو اللغوي، لكن هذا الشد والجذب لا يخلو من منصفين يقولون إجمالاً: «هناك من فازوا بنوبل فأضافوا إلى قيمتها وارتقوا بها، وهناك من حطوا من شأنها وانحدروا بها إلى الدرك الأسفل».
موديانو؛ احتل المرتبة السادسة في سلسلة المراهنات، ومرتبة متأخرة في طابور الأهمية، على الأقل من وجهة نظر نقاد غربيين، بعضهم سخر صراحة من الكاتب غير المعروف بصيغة راسخة، في العالم الأنغلوفوني، ووصلت السخرية إلى حد أن يقال: «أغلق النقاد هواتفهم خوفاً من أن يسألهم المحررون الثقافيون عن موديانو ولا تكون لديهم الشجاعة الكافية كي يردوا: لا نعرف عنه شيئاً».
هناك من يتساءلون: لماذا لم يحصل عليها ميلان كونديرا، التشيخي الذي يكتب بالفرنسية أو إيتالو كالفينو الإيطالي أو فيليب روث الأميركي أو الشاعر العربي أدونيس؟ مثلما سبق أن تساءل كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها باندهاش: لماذا لم يحصدها الأرجنتيني خورخي بورخيس أو الإرلندي جيمس جويس أو البرازيلي جورج أمادو؟ ونتساءل نحن العرب: كيف لها أن تتفادى رجلاً بعبقرية وعطاء طه حسين؟ ويقهقه الجميع حين يتذكرون أن السياسي البريطاني البارز ونستون تشرشل قد حازها في الأدب عن كتاب أشبه بالسيرة الذاتية.
عموماً؛ هناك ثلاث قواعد قد تريح الكثيرين ممن يتطلعون إلى «نوبل» أو حتى مَن لا تشغل بالهم لكنهم يستحقونها ولن تأتيهم أبداً، الأولى أنه ليس كل من حاز نوبل هو الأفضل، وكل من تفادته هو الأسوأ، ففي النهاية هي جائزة تنطبق عليها العيوب البشرية كافة التي تصاحب الجوائز الأدبية، وأقلها ضرراً هو اختلاف أذواق المحكمين والنقاد، واعتبارات التوزع على الجغرافيا والنوع الأدبي (رواية ـ شعر ـ مسرح ـ قصة) واللغة التي يُكتب بها، أما أكثرها ضرراً فهي ضغوط الأيديولوجيا والسياسة أحياناً، أو الاستلاب حيال الذيوع والانتشار على حساب القيمة والعمق، أو الوقوع تحت إغواء مبدأ «خالف تُعرف». والثانية فهي أن نوبل لا تعني أن الفائز بها سيكون الأهم عالمياً من حيث الانتشار والتأثير والخلود، فعلى مدار 113 سنة هي عمر نوبل هناك كتّاب حازوها لا يتذكرهم حتى أهم نقاد الأدب والمنشغلون به ولا تطبع كتبهم وتوزع على نطاق واسع أو تعد عنها دراسات نقدية، وعلى النقيض هناك كتّاب لم ينالوها واستمروا ملء السمع والبصر، ولا تزال أعمالهم قادرة على إدهاش أجيال تلو أخرى. وهذا أمر طبيعي، فليس معقولاً أن نقول إن العالم على مدار القرن العشرين لم يعرف سوى مئة أديب جيد فقط، بعدد من حازوا نوبل، كما أن الجائزة التي تُمنح لشخص واحد من بين أدباء يبدعون ألواناً عدة من الشعر والنثر، ليس بوسعها أن تذهب إلى كل من يستحقونها، ولم يكن بوسعها أيضاً أن تُطَبَق بأثر رجعي فتُعطى لأدباء عظام كتبوا قبل إطلاق «نوبل» من أمثال بلزاك وبوشكين وغيرهما.
ولعل نجيب محفوظ، وهو الكاتب العربي الوحيد الذي نالها في الأدب، كان منصفاً حين قال بعد فوزه: «كان يستحقها قبلي طه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي»، بينما رأى آخرون أن يوسف إدريس أيضاً كان يستحقها، وكذلك عدد لا بأس به من أدباء العرب، من روائيين وشعراء وكتاب قصة ومسرح.

قواعد الجائزة
ويوجد مَن أدرك أن قيمته ونظرة الناس إلى إبداعه لا تحتاج إلى نوبل كي تترسخ وتتسع، ولذا امتلك القدرة على رفضها، مثل الأديب الإرلندي جورج برنارد شو الذي وصفها بأنها «طوق نجاة يُلقى به إلى رجل وصل فعلاً إلى بر الأمان، ولم يعد عليه من خطر»، والأديب الفرنسي جان بول سارتر الذي رأى أن قبوله لها يتناقض مع مبادئه وقال: «حكم الآخرين علينا، ما هو إلا محاولة لتحويلنا إلى موضوع وتشييئنا، بدل النظر إلينا كذوات إنسانية»، والشاعر والروائي الروسي بوريس باسترناك والذي رفضها لضغوط السلطات في موسكو وعاد وقبِلها عام 1958 عن روايته الوحيدة «دكتور زيفاغو»، ويقال إن الروسي ليو تولستوي رفض أن تُمنح له في أول دورة لها عام 1901 وردَّ قائلاً: «تبرعوا بقيمة الجائزة للجوعى في القوقاز».
أما القاعدة الثالثة فهي لعنة نوبل إذ إن بعض من حازوها لم يتمكنوا من أن يكتبوا بعد هذا شيئاً ذا بال نتيجة ملاحقة الإعلام لهم أو شعورهم بأنهم فعلوا ما عليهم وجاء وقت أن يتفرغوا للاستمتاع بإنفاق قيمة الجائزة خلال ما تبقى من حيواتهم، وبعضهم كتب أعمالاً أضعف بكثير من تلك التي أبدعها قبل نوبل، معتمداً على أن حيازته للجائزة كفيلة بأن يتابع الناس ما يكتبه حتى ولو كان ضحلاً، وبعضهم عاش بعدها كئيباً في ظل اعتقاده أنه قد صار بلا هدف، خصوصاً أولئك الذين كانوا يكتبون ويجودون من أجل نيلها.
هذه القواعد كان بوسعها أن تريح أيضاً الناقد «مالكولم جونز»، فلا يصرخ بمقال له في موقع «ذا ديلي بيست» الأميركي الشهير: «مَن هو باتريك موديانو… بحق الجحيم؟»، ومعه يستريح مواطنه فورست ويكام الذي سخر على موقع «سلايت» الأميركي من الضغط الذي واجهته «ويكيبيديا» من محررين يبحثون عن أي شيء يخص موديانو ليستكملوا قصصهم الإخبارية. كما سيهدأ كل من غرَّد على تويتر ساخراً من منح الجائزة لموديانو المجهول هو حقاً وليس أبطال روايته «مجهولات».
فجائزة نوبل هكذا منذ إطلاقها وإذا كان الأميركيون مغبونين بهذه الطريقة على رغم أنهم حصدوا منها 323 جائزة من بين 900 وزعوا منها في مختلف مجالاتها، فماذا يقول غيرهم في شرق آسيا أو في أفريقيا والعالم العربي، والموت يحصد كل عام من أدبائهم كثيرين يستحقون الجائزة عن جدارة، ولن يأخذوها أبداً، لأنها لا تُمنَح للموتى حتى لو ظلت أعمالهم تُقرأ وتدهش وتؤثر وتغير إلى قيام الساعة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى