على باب عائلة يهوديّة

عروبة عثمان

أنتجت «وزارة الخارجية الإسرائيلية»، بداية الشهر الحالي، شريطا بروباغانديا محمولا على الرمزية والكوميديا الوقحة بكثافة. في الشريط تطرق مجموعات بشرية مختلفة باب بيت صغير تقطنه عائلة يهودية صغيرة أيضًا، و«تدّعي» أحقيّتها في هذا البيت. نمرّ باليونانيين والرومانيين وحضارات أخرى اندثرت لغتها، فضلًا عن المسلمين والصليبين والمماليك، وانتهاءً بالإمبراطورية العثمانية والإنجليز والفلسطينيين. هؤلاء جميعهم «احتلّوا» بيت العائلة. ومع دخول كلّ منهم المنزل معلنًا أحقيته في ملكيته، تتقلّص حدود العائلة. يدخل آخر الوافدين (الجنديّ البريطاني) المنزل ليجد جثثاً وفوضى ممن سبقوه. يجلس مع العائلة، يحتسي الشاي، ويعلمهم أن الأمم المتحدة قررت أن تعيد لهم «منزلهم»، في إحالة واضحة إلى «الوطن» الأكبر الصهيوني. الوطن الذي عادوا إليه، بعد سني «الشتات» و «المنفى»، بموجب «وعد بلفور».
لكن أين الفلسطيني من كل هذا؟ إنّه أيضًا على عتبة باب البيت متوشّحًا بكوفيته. يظهر في نهاية الشريط، بعد استقرار العائلة داخل المنزل، بصحبة موسيقى عربية اعتدنا عليها في السينما الاستشراقيّة. يقف اليهوديان مدوهشَيْن أمام هذا المشهد، وكأنّ فرحتهم بنفي منفاهم لم تتمّ. هناك من عاد من جديد ليصارعهم على المكان. شكلًا، لم يتنكّر الفيديو للفلسطيني، ولم يمحُه على نحو تام من فضائه الزمكاني، بل أظهره على الهامش. اعترف به كجالية صغيرة جاءت لتسحب بساط «الحقّ» من تحت قدميْ اليهودي.
لسنا أمام مقطع فيديو يمكننا تجاوزه بوعي أو بدونه. إنّه من نوع «السهل الممتنع» الذي بإمكانه أن يبلع الفلسطيني بسهولة، مقابل أن يمنح جمهوره الإسرائيلي ضحكةً و»أصلنة» في الوقت ذاته. صحيح أن الفيديو لم يأتِ بجديد؛ بل حافظ على إحدى أهمّ سرديات صانعه الكبرى، وهي تغريب الأصيل مقابل «أصلنة» الغريب. يُظهر الفيديو وكأنّ ثمّة مَن يزاحم اليهود على «مكانهم» منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا. لكن هل المطلوب منّا أن نعتاد هذه الوقاحة في الطرح، ونتسمّر في مكاننا؟
لن ندع أنفسنا نفنّد هذه الرواية بتصوير هويّتنا الفلسطينية وكأنّها نوع من الفلكلور والفانتازيا، فنعود إلى الوراء لننبش في صراعٍ ميثولوجي «عبراني ـ كنعاني»، كما يفعل كثيرون. أصلًا، لا يمكن لأيّ شعب اليوم أن يكون قد شكّل أمّة تاريخية منذ الأزل، وهو للمفارقة التقنية الوحيدة التي يستخدمها الفيديو بحرفيّة في مختلف مشاهده، بجانب اللعب على الكلام. لكن، ماذا عن مجتمع «اليشوف» الاستيطاني ما قبل 1948؟ وماذا عن سيطرته التدريجية على أراضي الفلاحين آنذاك؟ أليس في هذا اختراعٌ بارع لمفهوم الوطن الصهيوني التاريخي في الشريط؟ الغريب أيضًا هنا أنه بينما يحاول الفيديو التطهّر من ثقافة المنفى الخاصة باليهودي، ينشغل بالمقابل بنفي الفلسطيني ووجوده على أرضه، وكأنّ التطهير العرقي وتهجير الناس من ديارهم العام 1948 كانا ضربًا من الخيال.
يغلّف الفيديو هذا الزيف كلّه بقشرة كوميدية هشّة، لا تمكّن إلا الجمهور الأبله من الضحك قليلًا. ثمّة مشاهد فانتازية تلتقي فيها الحداثة التي يصوّرها اليهودي وبيته، بالتخلّف الذي تصوّره حضارات قديمة. يرنّ هاتف اليهودي في فترة ما قبل الميلاد، بينما تستلقي مجموعة أخرى تتكلّم لغة غير مفهومة على أريكة عصرية في بيت اليهودي، وهي تأكل البيتزا. ينتقل الشريط مع الأتراك بلباسهم وشايهم التركي، وتنسحب هذه الحال على الإنجليز أيضًا مع موسيقى غربية كلاسيكية. كلّ هذه المفارقات الساخرة لا يمكن لنا أن نقرأها من زاوية الضحك من أجل الضحك، بل هي نوع من التحايل على فكرة حتميّة وجامدة في تعاقب «الاحتلالات» على اليهود في فلسطين. كأنّ «وزارة الخارجية الإسرائيلية» لا تريد أن تقدّم هذه الفكرة السطحيّة على نحوّ مجرّد، وإن كان التحايل ثقيلَ الظلّ ومزعجاً بكلّ المقاييس.
ثمّة من رأى هذا الشريط مضحكًا، ليس لمحتواه، بل لهوّية الناشر، أي «وزارة الخارجية الإسرائيلية» التي باتت تخوض معارك طاحنة عن الوجود في الفضاء الافتراضي، وبطرح بدائي. لكن إذا كان الشريط قد حسم أمره وكتب صاحبه «لا يهمّ من يدقّ بابنا، ما يهم أن اليهود منذ 3000 سنة يعلّقون على بابهم Sweet Home, Land of Israel»، فماذا عن بابنا نحن الفلسطينيين؟ هل يجرؤ الإعلام الذي هلّل لمشاركة عباس في مأتم بيريز أن يعلّق على بابه «Sweet Home, Land of Palestine»؟

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى