كتاب العنف .. قاموس القتل

أمير العمري

في خضم ثورة الشباب في الولايات المتحدة في أواخر الستينات وبداية السبعينات، ومع تصاعد حركة رفض التجنيد والاحتجاجات الواسعة النطاق ضد حرب فيتنام، كان هناك شاب في مقتبل العمر يدعى وليام باول، كان قد جاء من بريطانيا مع والده الذي أصبح ناطقا باسم الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك. لكن الطفل ويليام، فشل في استكمال دراسته بسبب ميله للمشاغبة والتمرد، فطُرد من المدرسة، ثم ذهب للعمل في مكتبة لبيع الكتب. وسرعان ما انضم باول وهو في مقتبل شبابه، إلى مظاهرات الغضب والاحتجاج التي عمّت أمريكا ونيويورك بوجه خاص، وأصبح جزءا من حركة الاحتجاج العنيفة وتعرّض لبطش الشرطة والاعتقال. وعندما بلغ التاسعة عشرة من عمره عام 1971 اعتزل النشاط السياسي، وانكبّ على قراءة الكتب في مكتبة الكونجرس وغيرها، بحثا عن المادة التي استمدّ منها كتابه المشحون بالغضب الذي يحمل عنوانا مثيرا هو “دليل الطهي الفوضوي” The Anarchist Cookbook.

كان الكتاب دليلا عمليا يشرح بالتفصيل كيفية صنع القنابل وتحويل الأسلحة البسيطة اليدوية إلى قاذفات قنابل، وعمل وصلات كهربائية لتفجير مادة تي.إن.تي الشديدة الانفجار، وتحديد أفضل أماكن وضع العبوات الناسفة أسفل الجسور المعلقة، وغير ذلك من وسائل العنف التي يروج لها الكتاب باعتبارها الوسيلة الوحيدة للاستيلاء على السلطة: “السلطة ليست شيئا ماديا يُمنح لك .. لكنها القدرة على الفعل. السلطة يجب أن تُؤخذ فهي لا تُمنح أبدا”. ورغم كل ما يتضمنه الكتاب من تفاصيل تدعو للعنف وما رُفع من قضايا ضد مؤلفه الشاب، إلا أن القضاء الأمريكي أسقط هذه الدعاوى تمسكا بالحق في المعرفة الذي يكفله الدستور الأمريكي.
كثير من الدماء

كان الزمن غير الزمن بالطبع، وقد جرت منذ ذلك الحين الكثير من الدماء في الأنهار، بل وفاضت في البحار، فقد ارتبط هذا الكتاب بمعظم ما وقع من أعمال عنف مسلّح وقتل جماعي في الولايات المتحدة، بما في ذلك مذبحة مدرسة كولومباين الشهيرة وما تلاها، وهي المذبحة التي حققها المخرج مايكل مور في فيلمه “دحرجة الكرة في كولومباين”.

عن الكتاب الشهير الذي وزّع أكثر من مليوني نسخة في الولايات المتحدة وانتشر خارجها أيضا، وعن مؤلف الكتاب ويليام باول تحديدا، يأتي الفيلم الوثائقي الجديد “فوضوي أمريكي” American Anarchist الذي عرض خارج المسابقة في الدورة الأخيرة من مهرجان فينيسيا السينمائي.

والفيلم من إخراج الأمريكي تشارلي سيسكل الذي أخرج قبل عامين فيلم “العثور على فيفيان ماير” (نشرت عنه مقالا في هذا الموقع) وكان مرشحا وقتذاك للأوسكار ضمن قائمة الأفلام الوثائقية الطويلة. وقد عثر سيسكل مؤخرا على مؤلف “دليل الطهي الفوضوي” الذي كان يقيم مع زوجته في العاصمة الفرنسية، وأقنعه بتصوير مقابلات تفصيلية معه حول علاقته بالكتاب ونظرته الحالية إليه، وكيف يرى مسؤوليته عما وقع من أعمال عنف يعتبر كتابه دليلا عمليا لمرتكبيها خاصة وقد عُثر على الكتاب في منازل كل الذين ارتكبوا أعمال عنف، سواء بوعي وتدبير وتخطيط، أو نتيجة خلل عقلي ولوثة أصابتهم لسبب أو لآخر. ويحتل باول مساحة بارزة من الفيلم الوثائقي الجديد، بعد أن أصبح في الخامسة والستين من عمره، بشعره الأبيض وجسده المترهل، وكان لايزال يتمتع بذاكرة حاضرة وقدرة على الحديث والشرح قبل أن يتوفى في وقت لاحق من هذا العام عن 65 عاما.
ثلاثة عناصر

يمزج الفيلم بين ثلاثة عناصر: أولها اللقطات القديمة من الأرشيف لمظاهرات الغضب والاحتجاج وخاصة اللقطات التي يمكن رصد باول فيها، وعنف الشرطة وكيف ألقت القبض عليه ثم ذهابه إلى المحكمة وخروجه مع محاميه بعد أن تمت تبرئته، ما قالته الصحف الأمريكية عن الكتاب وخطورته ولقطات أخرى لأحداث الفترة. وثانيا صفحات أو مقتطفات من الكتاب نفسه والتوقف أمام بعض العبارات التحريضية التي وردت فيه وإبرازها على الشاشة، ثم أخيرا المقابلات الطويلة مع باول التي تتدخل فيها أحيانا زوجته الصينية الأصل، وهي مشاهد يتم توزيعها على مسار الفيلم الطويل.

يعترف باول أولا بمسؤوليته عن الكتاب، ويقول إن المرء في شبابه يمكن أن يعتنق أفكارا ساذجة متطرفة لكنه يعتبرها الآن أفكارا تافهة، ثم يعتذر عما تسبّب فيه الكتاب من جرائم، لكنه يرفض اعتبار نفسه مسؤولا بشكل مباشر عن تلك الجرائم، فليس كل من قرأ شيئا يجب أن يقوم بتطبيقه فالمسؤولية هنا تقع على من يحول الكلمات إلى “فعل” – حسب ما يقوله باول في الفيلم. لكن المخرج سيسكل لا يكتفي بذلك بل يحاصره بأسئلته التي تصل إلى درجة الاتهام المباشر وهو ما يثير غضب باول وزوجته أيضا اللذين يستنكران محاولة المخرج وصم باول على هذا النحو غير العادل وإدانته في فيلمه.

محاربة باول

يروي باول كيف أنه ابتعد منذ سنوات عن ممارسة أي نشاط سياسي، واتخذ لنفسه عملا في مجال التدريس بعد أن طور من قدراته ومعارفه ودراساته، ثم يروي تعرضه للتهديد بالقتل، بل وكان كلما تقدم بطلب للتدريس داخل أو خارج الولايات المتحدة، تقوم (جهة ما) بإرسال تحذير من إسناد أي وظيفة في مجال التدريس إليه، هذه الجهة لا يكشف عنها باول وقد تكون إحدى وكالات الأمن القومي الأمريكي، وقد أصبح بعد ذلك يُدرّس لتلاميذ وطلاب في مناطق نائية في عدد من البلدان الأفريقية والآسيوية.

ولكن لماذا لم يعلن استنكاره للكتاب؟ يجيب باول على هذا بالقول إنه أرسل في 2002 بيانا إلى صحيفة “الجارديان” البريطانية بناء على طلب من الصحيفة، وبيانا آخر إلى مؤسسة “أمازون” يدين فيها الكتاب ويتبرأ منه ويدين استعماله في أعمال العنف، بل ويشرح للمخرج كيف أنه لا يمتلك نسخة من الكتاب موضع الجدل، وأنه لم يتدخل لوقف طبع الكتاب الذي وزع نحو مليوني نسخة وظل يطبع باستمرار خلال السنين، لكنه قبل عرضا من ناشر الكتاب لبيع جميع حقوق النشر له مقابل مبلغ عشرة آلاف دولار كان في حاجة إليها بسبب ضعف دخله من التدريس واعتماده على معاشه التقاعدي. وقد تصور هو كما يقول إن الكتاب أصبح عملا ينتمي للماضي وانه لم يعد يثير اهتمام أحد، وأنه سينتهي إلى أن يصبح نسيا منسياً.
ثورة الشباب

موضوع الفيلم لاشك أنه مثير لاهتمام المشاهدين، خاصة الذين لم يعيشوا تلك الفترة الصاخبة في تاريخ أمريكا والعالم، والتي عرفت بما سُميّ بـ” ثورة الشباب”، لكن أسلوب إخراج الفيلم الذي يتركز على محاولة استفزاز باول بتكرار توجيه الأسئلة الاتهامية إليه، لا يؤدي إلى شئ، ولا يساهم في تسليط الأضواء على الموضوع المطروح كما كان المرء يأمل، خاصة مع غياب الآراء الأخرى التي كان من الممكن الاستعانة بها في الفيلم، أولا لتحقيق التوازن، وثانيا لتسليط الأضواء بشكل أفضل على طبيعة الجدل الذي كان ولايزال، دائرا في المجتمع الأمريكي والعالم بأسره، حول دور الإعلام والأدبيات المطبوعة ووسائل التواصل ومواقع الإنترنت، في تغذية تيارات العنف، وكان يمكن أيضا تسليط الأضواء على كيفية استقبال الكتاب وقت ظهوره لدى الرأي العام أو ممن كانوا شبابا في تلك الفترة، أو من وجدوا أنفسهم مدفوعين لارتكاب ما ارتكبوه من جرائم بموجبه، والرأي الأكاديمي والسياسي في الكتاب، وكيف اعتُبر أيضا وربما لايزال يعتبره البعض كذلك، دليلا على عبقرية شاب في التاسعة عشرة من عمره، كان يمتلك كل تلك القدرة المدهشة على استخدام المعلومات وأسلوب البحث والتوصُّل إلى ما توصل إليه في مطبوعة أقرب ما تكون إلى “منشور” تحريضي ضد المجتمع الرأسمالي، والدعوة الراديكالية إلى استخدام العنف لتغيير النظام.

إلا أن المفارقة أن هذه الدعوة السياسية التي دعمها وليام باول بوصفته التفصيلية لاستخدام أدوات العنف، انتهت إما في أيدي الشباب المضطرب نفسيا الذي لجأ إلى ممارسة القتل العشوائي للأبرياء، أو في أيدي أعضاء التنظيمات اليمينية المتطرفة التي تتناقض تماما مع أفكار باول اليسارية المتطرفة في شبابه في إطار نقد مجتمع الظلم الاجتماعي رغم تخلّيه عن العنف قبل أن يودع الحياة بعد أشهر معدودة من جلوسه أمام الكاميرا لتصوير تلك المقابلات التي ظهرت في هذا الفيلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى