نوري الجرّاح شاعر المراكب السورية الغريقة

محمد علي شمس الدين

في ديوان الشاعر نوري الجرّاح بعنوانه المزدوج «قارب إلى لسبوس– مرثية بنات نعش» (منشورات المتوسط- ميلانو، 2016)، ثمّة إحالات عدة، ومنها ما يتبدى في الصفحة الأولى من الديوان من خلال المقطع التالي: «رأيت البرق شرقياً/ ولاح في لمح/ وكان غريباً/ رأيتُ الشمس في دمها مبلولة/ والبحر مضطرباً/ وألامس منهوباً من الكتب». ولعلّ الشاعر المقيم في لندن منذ العام 1986 عانى الإقصاء عن وطنه الأم مرتين -الأولى نسميها الاغتراب والثانية نسميها الغربة- قبل الحرب السورية المهلكة التي اندلعت أواخر العام 2011 وبعدها. لذا، يلاحظ القارئ أنّ ثمة نزفاً لا يهدأ في دواوينه منذ «طفولة موت» و «طريق دمشق» و «يوم قابيل» وصولاً إلى ديوانه الأخير.
البوصلة القلقة التي تقود ألواحه لم توصله إلى برٍّ آمن. لا وطن ولا منفى. ماذا إذن سيبقى للصبي النازل من جبل في دمشق والمبحر في المتوسط سوى أن ينظر (وهو شريد المياه واليابسة) إلى السماء ويرثي النجوم ويصنع بلاداً (أخرى): «بالمطرقة والإزميل/ ومعي خارطة لظهرك/ نزلت/ لم يكن لبردى اسم/ ولا للوهم حبيب» (ص 80).
تتولد من تركيب العنوانين، والصفحة الأولى من الديوان، كيمياء دلالية مركبة، فالقارب إلى لسبوس لا يَعِدُ برحيل هادئ نحو جزيرة يونانية شبه عذراء كانت ذات يوم موطن «سافو»، شاعرة الحب الوحشي الذي لا يُغلب والالتباس الأنثوي الجميل واللمسة الأبيقورية المبتهجة باللذات والداعية الى أخذ الحياة كعسل.
لكنّ سافو الإغريقية التي عاشت في لسبوس في القرن السادس قبل المسيح، وتحدث عنها أوفيد وأرسطو وأفلاطون، وإن وردت في مطلع ديوان نوري الجراح «لوح إغريقي– نداء سافو»، واختتم بها ديوانه بالعنوان نفسه، لا تمثّل نداء اللذة في الكتاب. بل هي، على الأرجح، نداء البقاء.
يكشف خطاب الصفحة الأخيرة عن فاجعة السوريين الهلاكيين اليوم، الممتطين مراكب الموت إلى الجزيرة اليونانية، لا يقصد المتعة في الجزيرة بل النجاة من الموت في بلادهم، التي تقتلهم بسيوف كثيرة، إلى أرض خلاصية محفوفة بموت في البحر هرباً من موت في البرّ. والصفحة الأخيرة من الديوان، أو النشيد الأخير، وإن كان في تضاعيفه قاسياً وهلاكياً قسوة الحرب في سورية، إلاّ أنّه في النتيجة إحيائي أو هو نداء خلاص: «أيها السوريون الهلاكيون، السوريون المرتجفون على السواحل، السوريون الهائمون في كل أرض، لا تملأوا جيوبكم بتراب ميت. اهجروا الأرض تلك ولا تموتوا. موتوا في المجاز ولا تموتوا في الحقيقة…».
هذا النص المؤثر هو خلاصة الإبحار إلى لسبوس، والأمر لا يخلو من مراث. سنعثر على هذه المراثي على امتداد صفحات الديوان، وهي غنائيات حزينة وردت تحت عنوان يتكرر «صوت»، وينتقل بها الشاعر من لوح الى آخر.
لا يمكن أن تنظر الى شكل الديوان وتوزيع فقراته، والتخطيطات المرافقة لبعض القصائد باعتبارها جزءاً من الإخراج في الشكل المرافق للنصوص فقط، فالكتابة بحروف بيضاء على صفحات سوداء في بعض الأماكن كأنها كتابة ضوئية في عتمة. تخطيطات موفق قات (بالكربون) جزء من شعرية الرحيل أو الفوات، أوراق متساقطة أو تشكيل طيور مهاجرة. إنها تخطيطات من عناصر الطبيعة، أما تخطيط محمد خياطة الذي يُمثّل رؤوس نساء وأطفال محشورين في قارب، فتقول إنه قارب الهلاك السوري.
يميل التخطيط إذاً ليكون هلاكياً أكثر مما هو خلاص، وذلك بسبب الذعر الصارخ في العيون وحشر الرؤوس الكثيرة في الحيز الصغير للقارب، وتعدّ هذه التخطيطات جزءاً من شعرية الديوان. بل تقسمه على تسعة ألواح تنخرط في دلالة الرحيل المحفوف بالموت، ما يجعل الديوان بحق أيقونة فنية وجمالية مرافقة لأناشيدٍ هي بمثابة مراث صغيرة. لمن هذه المراثي يكتبها الشاعر؟ نسأل ونجيب: لبنات نعش. أما بنات نعش فهن عنقود نجوم أو نجيمات قديمة يظهرن دائماً في السماء في الجزء الشمالي منها. يظهرن على طول العام بصورة سبعة نجوم، أربعة منها كأنهن يحملن نعشاً، تتبعهن أخواتهن الثلاث نائحات. والأسطورة تقول إن نجماً اسمه سهيل قتل والدهن واسمه «نعش»، وهرب إلى الجنوب، فحملت بناته السبع تابوته بعدما نذرن عدم دفنه إلا بعد الأخذ بثأره. وحين تظهر بنات نعش في الشمال من السماء يظهر سهيل في الجنوب. فلا هن تركن النعش ولا أخذن بثأرهن من سهيل.
إن إحالة العنوان المركب للديوان على ما يجري في سورية الآن، هي إحالة الميثولوجي على الواقعي، ما يجعل القصيدة حية ومعاصرة، وهي بالضرورة تحمل أنفاساً إنشادية وملحمية. ومثلما كانت الملاحم الإغريقية القديمة تسمي أبطالها وآلهتها بأسمائهم، فإن نوري الجراح لا يتبع خط الأسطورة بلا رابط أو بينة، فهو يسمي السوريين الآن وفي هذه الملحمة بأسمائهم وبمدنهم وتشردهم في كل بحر وأرض. إنهم «السوريون الخارجون من لوح الأبجدية المكسور»، كما يقول، (ص 12)، «السوريون الأشقاء الهاربون بالقوارب» (ص 9). ويظهر كأنه ينقل الأسطورة من الماضي بناسها وآلهتها وإشاراتها إلى الأرض السورية الراهنة. بهذا المعنى فإن ديوان « قارب إلى لسبوس- مرثية بنات نعش» هو قصيدة دمشقية بامتياز، قصيدة دامية إنشادية ملحمية وحزينة… وهي قصيدة راهنة، وإن اتكأت على إشارات ميثولوجية. وتنطوي على ثلاثة حوارات: حوار الشاعر مع البحر والغربة، حواره مع نفسه، حواره مع الأهل والمدن.

من الشرق إلى الغرب
إن دلالة المقطع الذي يفتتح به الشاعر ديوانه «رأيت البرق شرقياً/ ولاح في لمح وكان غربياً…» تكاد تنتقل بمستوى الخطاب الشعري من راهن قتالي وهروب جماعي للسوريين إلى البلاد والبحار المحيطة، وصولاً إلى أقاصي الأرض الغريبة… من حيز الواقع إلى حيز آخر ميتافيزيكي لمعنى شرق– غرب، والغربة. لكن الديوان في حقيقته لم يحقق هذا الإيحاء. ذلك أنه لأول وهلة، يظهر المقطع آنف الذكر منطوياً على إيماءة من الشيخ الأكبر ابن عربي (560– 638 هـ) البلنسي المولد الدمشقي القبر (في قاسيون)، من خلال قوله: «رأى البرق شرقياً فحنّ إلى الشرق/ ولو كان غربياً لحنّ إلى الغرب/ فإن غرامي بالبريق ولمحه/ وليس غرامي بالأماكن والقرب» ويقصد شاعر الصوفية أنه يتبع خط البرق وليس اتجاهات الأماكن. وهو خط الكشف والغيب معاً. وهي بوصلة غير جغرافية، كما هو واضح.
لا نستطيع أن نتبع هذا الخط في الديوان، أو على الأقل تجعلنا قراءة الديوان على ضوئه نعثر بما هو أقرب لمتناول الغربة والتشرد بالمعنى الواقعي لنتائج الحرب الدائرة، أكثر من الذهاب نحو معنى غيبي ميتافيزيكي للغرب والشرق. ولو نحينا جانباً معنى ابن عربي عن النص، فلربما حضر عنوان آخر هو «الغربة الغربية» للسهروردي، فقصة «الغربة الغربية» هي حكاية (recit)، بتعبير محققها هنري كوربان، وليست أمثولة (Allegorie) ذات طبيعية ميتافيزيكية تشير إلى اغتراب الإنسان من «مشرق الأنوار الخالصة إلى غرب الأحجام الجسمانية» (المؤلفات النفسية والصوفية- تحقيق هنري كوربان).
الإنسان المشرقي منفي في الغرب الدنيوي ويحنّ إليه لأنه «ليس هنا». وفي القصة هذه رحيل وركوب سفينة وسقوط في الهواء والهاوية ومكابدات شتى، وهي قصة سريالية روحية بكل حال.
إن نصوص ديوان نوري الجراح لا تنزع مثل هذا المنزع ولا تسلك مثل هذا السلوك. وبالتالي فإن قوله: «من لجة إلى لجة في خاصرة بحر الروم، مع نجمة البحر وشقيقها الجبار التائه، ترسلكم الأمواج في ضوء بنات نعش» لا يشير إلى رحلة ثيولوجية من شرق الروح إلى غرب الجسد بل يمثّل تعبيراً عن تشرد حقيقي ومباشر لشـــعب ضربته الحروب على أرضه، فابتعد عنها في البحر والبر هرباً من الموت وطلباً للنجاة. وكــذلك قوله: «شكراً لأوروبا السعيدة بأساورها». أقصد أنه، على رغم الإيماءة الأولية المـــيتافيزيكية للشــاعر لا بد من إقصاء هذا الاتجاه عن مجرى قصيدته وتثبيت الدلالة التاريخية الحداثية القريبة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى