كشف النسق ومواجهته في «أنثى تشبهني» للأردنية نهلة الشقران

محمد المحفلي

في مجموعة «أنثى تشبهني» للكاتبة نهلة الشقران، عن دار الآن ناشرون وموزعون، في عمّان، نجد الكثير من الأنساق الثقافية التي تصدت لها في متن المجموعة محاولة ليس كشفها وتبيين نسقيتها فحسب، بل للعمل على مواجهتها والتنبيه لخطرها وتوضيح نتائجها ومآسي سلبيتها على الذات وعلى المجتمع. فهناك أنساق ثقافية من منظور نسوي بمعنى أنها تركز على الأنساق الثقافية الموجهة بسلبية نحو المرأة، وهناك أنساق ثقافية أخرى تتناول الكثير من الانحرافات المجتمعية التي حاولت تبيينها بصورة عامة. ولأن تلك الأنساق كثيرة، والوقوف عليها وتحليلها بصورة دقيقة يحتاجان إلى مساحة زمنية ومكانية أوسع من هذا المقام، فإن هذه القراءة ستحاول التركيز على جانب دقيق ومحدد بوصفه نموذجا لكشف تلك الأنساق الثقافية.
ستركز هذه المقالة على مقارعة الصمت، ليس بصورة شاملة إنما بوصفه صمتا ونسقا ثقافيا مكرسا من المجتمع، من وإلى المرأة. وسنتبين كيف اشتغل المتن القصصي على هذه النقطة المركزية متجاوزين البناء الفني وبالتركيز على الدلالة واشتغال اللغة السردية. إن مقارعة النسق الثقافي في بواطن هذه المجموعة لا يأخذ بعدا واحدا ولا شكلا واحدا في المواجهة، بل يتخذ عدة خطوات كلها تتكامل لتشكل في الأخير منظومة مواجهة مكتملة، ستبين هذه القراءة كيف تشتغل وكيف صنعت لنفسها استراتيجية لتحقيق هذه الغاية الثقافية، في باطن هذا العمل الفني الجمالي.
أولا الإدراك:
تبدأ المرحلة الأولى في مواجهة النسق الثقافي بإدراك نسقيته، إذ تعد الخطوة الأولى باتجاه المقاومة، إذ لولا المعرفة لما تمكنت الذات من المواجهة، ومفتاح الإدراك هو التساؤل، فمثلا في قصة «زيت وزعتر» نجد هذه التساؤلات على لسان الراوي: «هل يسرق الصوت منا عندما نريده؟ هل يسطو عليه من يجلسون في المقاعد ويتركوننا واقفين؟ ربما بيد أني لم أتفوه بكلمة واحدة». فهذه التساؤلات المفتوحة تمثل حالة أولى لرصد هذا الانحراف في النسق الثقافي الذي يستلب صوت الأنثى الكامن داخل صوت الراوي أو الممتزج معه؛ لذلك اكتفت بالرصد والتساؤل ثم أردفت بأنها لم تتفوه بكلمة واحدة.
وتنتقل الذات إلى خطوة أبعد في هذا الإدراك عبر كشف الآخر في محاولاته زرع الصمت داخلها، تقول في قصة «حين يتألق الصدى»: «لم أكن أكتب لأحد، كنت أعزف لحن تفرد الذات واعتلائها عرش ظل خفي لا يراه غيرها، وهو يحاول سرقة حروفي فأرفض، يريد بعثرة فوضاي ومعرفة سري، ليسرق جزءا من ظلي، فأحمل ظلينا معا وألقي بهما بعيدا في قبضة لا ترى إلا جسدا بلون حرف مطرز، وظل امرأة بلا مطر». إن هذه اللغة الشعرية المكثفة تحمل بداخلها هذا الرصد الدقيق لحركة الآخر، وهو يحاول العبث بالذات ليس بوصفها كيانا فرديا إنما بوصفها تمثيلا لجنس النساء بصورة عامة، فتبدو حركاته وتصرفاته معروفة بدقة.
ثانيا رصد الآخر وتجاوزاته:
إثر مرحلة الإدراك العميق من قبل الأنثى، تأتي مرحلة الرصد وكأنها مرحلة جمع الاستدلالات الاجتماعية التي توثق صور الانتهاك التي تتعرض لها، وهي منعكسة في هذه اللغة السردية الواصفة. ففي قصة «زيت وزعتر» تصف القصة هذا المشهد الذي تكون فيه تجاوزات الرجل: «عندما ضربني ذلك الولد.. سقطت مني خمسة قروش فأخذها وهرب، وما استطعت اللحاق به.. ما استطعت أن أسد رمقي… ذبحني جوعي.. وعدت أبكي ما سرق مني عنوة رغم أسوار تحيطني وتحميني…وبخني أخي يومها ثم قال لي: صفيه لي وسأضربه غدا.. لم أجده ولم يجده أخي». ففي هذا المقطع المكثف ليس فيه تجاوزات الرجل الآخر فحسب، أي أفراد المجتمع بصورة عامة، إنما يأتي الخذلان من الدائرة المحيطة، المتمثلة هنا بالأخ الذي وبخها على الرغم من حصول الظلم عليها، ثم خذلها ثانيا. وهذا رصد لسلسلة متلاحقة تتضمن الاستلاب والتعنيف والخذلان.
ثم ترصد من جهة أخرى فعل هذا النسق الثقافي بقوة وكيف يتم تأصيله ليس فقط من قبل الرجل، بل أيضا من قبل المرأة التي تؤمن بقوة هذا النسق وفاعليته، فمثلا في قصة «صفير الناي» تقول: «سكت كما أرادتني أمي دوما، وقد علمتني مرارا أن البنت لا يسمع صوتها أحد، حينها يرضى الله عليها، وتدخل الجنة، وكانت كلما سمعت صراخ أخوتي الذكور تبتسم، وتدعو في سرها أن يكبروا ويعلّوا أصواتهم» ففي هذا المقطع المركز يتبين الاستسلام لنسق الصمت وكيف تكرسه الأم، بل إنها تجسد هذه المفارقة المرعبة، ففي حين يتم التأكيد على نزع صوت المرأة، يتم غرس صراخ الذكر بوصفه شيئا ضروريا اجتماعيا، فصوت المرأة مذموم بينما صراخ الذكر محمود جدا. وهكذا يتجلى هذا الرصد، وفي صورة مفارقة موحشة تكشف الجانب النسقي العميق لفعل الصمت وبأدوات المرأة ذاتها داخل المجتمع.
ثالثا رصد قوة الأنثى:
إن الإدراك ومن ثم الرصد، يتبعه وإن كان بشكل غير متسلسل داخل المتن، مرحلة إدراك قوة الأنثى وقدرتها على المقاومة وأنها لا تقل في قوتها عن قوة الرجل فقد اتخذت لنفسها هنا مهمة مقارعة هذا النسق ومواجهته بكل السبل. ففي قصة «خفايا صوت»، من القراءة الكلية للنص تتسلل الدلالة ابتداء من العنوان وحتى آخر النص. فالعنوان «خفايا صوت» يقدم دلالة إجمالية على أن الساردة تقدم خفايا هذا الصوت وإمكاناته الكامنة بوصفه صوت الأنثى، صوت المرأة الذي تبحث عنه وتعرف أنه قوة بحاجة للإيقاظ. تقول بلهجة آمرة: «هدوء، أين صوتك يا هدوء؟ قولي نعم بصوت عال». لا أعتقد أن القارئ يخطئ هذا الحماس لدى الساردة في البحث عن الصوت المغمور الذي هي على ثقة تامة بوجودة داخلها. إذ تقول في موضع آخر من القصة: «كنت أتمنى أن أسمع صوتها بأي وسيلة كانت، شعرت أنها تحادث زميلاتها، وتخرج كلاما بلا حشرجة، فعرفت حينها أنها ليست صماء». إنها هنا تدرك قوة الأنثى وتحاول إيقاظها من أجل المواجهة تريد منها أن تخرج هذا الصوت وتنزعه من مخابئه؛ كي لا يظل في حالة كمون أبدية.
إن الإمكانات لدى الأنثى ليست فقط في تلك القدرات التي تحاول أن تثبت أنها لدى الرجل فحسب، بل بامتلاكها طاقاتها الخاصة التي لا يمكن للرجل أن يمتلكها، منها قوة التحمل على الألم والغيرة، وقدرة الأمومة على تجاوز مشاعر الغيرة وحب التفرد، هذا ماقدمته في الدلالة الإجمالية من قصة وأصبح له غيري على سبيل المثال.
المرحلة الأخيرة.. مرحلة المقاومة:
وهي المرحلة التي تأتي بعد أن تكون قد حددت إمكانتها وإمكانات الطرف الآخر فلا يكون أمامها إلا المقاومة، حيث تكون في هذه المجموعة مقاومة بوساطة اللغة، فمن خلال اللغة تتبين الطاقة الكامنة لهذه المقاومة، حيث تعمل على تعرية الواقع المشحون بالقفر، فتقوم بسلب الدلالات من ذواتها، فالمساء بلا مطر والألوان تفقد معناها. وتأتي المقاومة هنا عبر الربط بين الجفاف والرجل والمطر بالأنثى: « تجلس على عرش من مطر، وحولها حارسان من مطر، والأرض أسفل قدميها من مطر… إلا السماء كانت بلا مطر». فالسياق العام لحركة النص تشي بأن نزع صفة الإمطار عن السماء التي هي المصدر الطبيعي للمطر، هو نزع للجانب الإيجابي في الرجل الذي ينبغي أن يكون ماطرا بالحب والحياة والدعم والمساندة للأنثى، في حين أن المطر ملتصق بالأنثى من كل جوانبها. وفي نص آخر تقول: «أين كان الكبار يا أمي في ليلة بلا مطر… بلا ضوء.. بلا وسن». وكثيرة هي دلالات المقاومة باللغة لا سيما هذا النزع الدلالي لصفة المطر. ومثله أيضا نزع دلالة الألوان من محتواها.
وقد تكون مقاومة نسق الصمت بالكتابة، الكتابة هنا بوصفها فعلا يمتلك الكثير من الإفصاح القادر على الديمومة في وسط المجتمع، تقول في نص «صفير الناي»: «كتبت أوراقا كثيرة، كنت أمزقها وأحرقها، في كل صباح، وأحتفظ ببعض القصاصات سرا بين ملابسي». فالكتابة مشروع قوي لمقاومة الصمت، حتى إن كانت في البداية مشروع مقاومة سريا لا تستطيع البوح به أو الإفصاح عنه لكنه قادر في يوم ما على كسر ذلك الصمت. وقد تكون مقاومة الصمت بالموسيقى ذلك الفعل الفني القادر على تفكيك هذا النسق وإن كان بمساعدة من داخل الفاعلين فيه، فسمير مثلا في قصة «صفير الناي» هو القادر على فعل ذلك، وهو بهذا الفعل يمثل الجانب الإيجابي القادر على تجاوز النسقية، ولأنه يمتلك كل هذه المؤهلات فقد استطاع أن يصل إلى قلب الأنثى فهو الوحيد القادر على هز مشاعرها، لأنه خارج النسق صادحا بموسيقاه، في حين أن عليا لم يستطع أن يحرك مشاعرها لأنه جزء أصيل من النسق الذي تقاومه وتعمل على تفكيكه.
ولهذا كله فهي إثر هذه الاستراتيجية في مقاومة النسق تصل إلى القدرة على البوح صراحة ومواجهة المجتمع بكل أنساقها وكسر حاجز الصمت المؤطر لحركتها تقول في نص «صفير الناي»: «كان أول شيء تعلمته أن أضمد الجرح وأمضي، ثم تعلمت أن أقول لا. عندما قلتها لعلي مرة، صرخت، ضحكت، بكيت، ووجدت نفسي». إنها لم تحقق ذاتها بمعزل عن هذه النسقية إلا بعد أن استطاعت أن تكسرها بالضربة القاضية، فالـ»لا» هنا هي الشهادة القوية لقدرتها على المواجهة وانتصارها لهذه المقاومة الأنثوية في مجتمع تحكمه أنساق بالغة في عمقها عبر التاريخ.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى