زينب التي تكره الثلج

عد فيلمها الإشكاليّ “شلاط تونس” (2013) والذي حجز بمعالجته المبتكرة موقعاً أصيلاً بين الأعمال الطليعية العربية في العقد الأخير، تعود المخرجة التونسية كوثر بن هنية بفيلمها الجديد “زينب تكره الثلج” (عرض للمرة الأولى في الدورة الأخيرة لمهرجان لوكارنو السينمائي).
مخرجة الفيلم، التونسية، كوثر بن هنية
روح هذا الفيلم ومناخاته تختلف عن النوع السينمائي التسجيلي الذي يصنف تحته، إذ توحي الدقائق الأولى منه أنه فيلم روائي أو يقوم بإعادة تمثيل وقائع حقيقية للعفوية غير المألوفة التي تميز سلوك الشخصيات فيه أمام الكاميرا، بيد أن هذه العفوية وبعد أن بدت لدقائق وكأنها نتاج عمل ممثلين وممثلات، سرعان ما تعيد المشاهد إلى حيرته الأولية، ذلك أنها تجاوزت الحدود الاحترافية الشائعة، وبدت إعادة تمثيلها أمراً يتجاوز القدرات التمثيلية المتعارف عليها، و”العفوية” ستكون على الأرجح الوصف الذي سيتكرر كثيراً في التغطيات الإعلامية عن هذا الفيلم التسجيلي والذي تنتظره عروض قريبة قادمة في مهرجانات سينمائية في الشرق الأوسط.

قضت المخرجة ما يقارب من ست أعوام مع شخصيات فيلها الجديد، وهذا وحده يعد سبقاً للسينما التسجيلية العربية على الأقل، والتي لا تتميز بالعادة بنفسها الطويل في مرافقة الشخصيات التي تقدمها أو في تتبعها لمصائرهم. وستصور المخرجة أبطالها في تونس حيث كانت تعيش عائلة التونسية “وداد” مع طفليها (زينب وماهر) وبعد مقتل الأب في حادث سيارة، ستزورهم بعدها في كندا عدة مرات، في البلد الذي انتقلت إليه العائلة بعد زواج الأُمّ من حبها الأول (ماهر) والذي فرقت بينهم الظروف عندما كانوا في مقتبل العمر، لهجرته هو إلى البلد البعيد وزواجه بعد ذلك هناك وإنجابه لإبنته (وجدان)، وزواجها هي في تونس، وليتقاطع مسار حياتهما مجدداً، بعد طلاقه وترملها.
لقطة من الفيلم تظهر طفلي وداد زينب وماهر
يركز الفيلم بدرجات متفاوته على شخصياته الخمس: وداد وطفليها (زينب وهيثم)، والتونسي المهاجر “ماهر” وإبنته “وجدان”، لكن العمل التسجيلي سيهتم بشكل أساسي بالرحلة التي قطعتها “زينب” وهي تنتقل من الطفولة الى النضوج.

تبدأ المخرجة تسجليها لحياة العائلة عندما كانت “زينب” لا تتعدى التاسعة من العمر، وتنهيها بعد أن اقتربت الفتاة من عمر الثمانية عشر. ستحظى كل شخصية أخرى بزمن جيد من الفيلم، وإن كان “ماهر” أقلها في كشفه عن عالمه الداخلي، وبقى مختبئاً خلف صرامة الرجل الشرقي، واختفى في ربع الفيلم الأخير بعد أن تعثرت حياتهم مجدداً، كما سيكون حضور الإبن الصغير للعائلة (هيثم) أقل من حضور أُمّه او ذلك لـ “وجدان”.

يبدأ الفيلم من تونس، بمشاهد لزينب وأمها من شقتها، وينقل الحوارات والمنكافات أحيانا بينهما، ذلك أن زينب غير سعيدة أن أمّها تستعد للزواج من رجل آخر بعد وفاة الأب، والذي كانت صوره معلقة على عدة جدران في المنزل، وعندما يصل “ماهر” مع ابنته من كندا لتونس من أجل ترتيب الزواج، يزداد عناد “زنيب” وضغطها على أمها ومضايقتها لها، لكن كل هذا لن يقف أمام الزواج، والذي سيتم وتنتقل العائلة إلى كندا، بعد حفل وداع في مدرسة “زينب”، كانت تبدو فيها “وداد” وكأنها تودع أيضاً عالمها وبلدها، وتستعد لبداية لرحلة حتمية بعيدة يكتنفها الغموض..
لقطة من الفيلم التسجيلي
لا تُعَّرف المخرجة التي تكتفي بالمراقبة الصرفة بشخصياتها، وعلى المشاهد أن يكمل عبر حوارات الفيلم الغائب من التفاصيل عن هذه الشخصيات ومحنها التي ستتراكم مع تواصل زمن الفيلم لتصل الى ذروات عاطفية شديدة التأثير في نهايته. إلى جانب “زينب”، التي لا تريد أن تودع مكانها المألوف وبلدها، يمرّ الفيلم بدون دراما أو ضجيج بأزمة الأُمّ نفسها، والتصادم الهادىء الأول مع خطيبها الذي كان ينتظر منها أن تنزع حجابها بعد زواجهما. فيما أبقى الفيلم ولإعتبارات معروفة موقف “ماهر” الملتبس من الدين بدون بحث أو مواجهة، وفضل أن يحافظ على النزعة المحافظة العامة للفيلم، ويتماشى مع تقاليد “المسكوت عنه” داخل العائلة الشرقية.

لا تحب “زينب” الثلج، وهو أحد أعذارها بعدم السفر إلى كندا. سيحاصر الثلج بيتها في مدينة مونتريال التي صور الفيلم مشاهد منها على مدار سنوات عديدة، تابعت فيها نضوج الصبية، تحصر المخرجة مشهدها العام بشخصياتها المعدودة وتحديات حياتهم العائلية الخاصة ولاتهتم بحشو فيلمها بانتقالات زمنية وجغرافية عديدة، وتنتظر لحظات بوح تشع في أوقات غير مخطط لها أحياناً. وعندما تبدأ هذه اللحظات تترك كاميراتها تدور بلا تدخلات. هناك مشاهد طويلة كثيراً في الفيلم تلخص مزاجات وإضطرابات الشخصيات، منها واحد عن “زينب” كانت تدافع فيه عن “الوطن” و”الإسلام” الذي هيج بعدها عن بلدها علاقتها بهما.
زينب كما ظهرت في الفيلم
هناك إشارات في الفيلم للأحداث الخارجية مثل الربيع العربي، لكن لن يكون لها صدى ملموس في حياة الشخصيات، ولم تتبلور الى محاور في الفيلم بسبب المعالجة الخاصة للمخرجة التي تجنبت تماماً طرح الاسئلة وإكتفت بالمراقبة الخالصة. في واحد من مشاهد الفيلم كانت “زينب” تلعب مع أخيها لعبة ألكترونية قتالية يكون الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي الهدف الرئيسي الذي ينبغي تدميره في نهايتها. وفي مشهد آخر شرحت زينب “الربيع العربي” بأختصار ل “وجدان”. في حين جمعت الدموع التي سكبت في حفل توديع زينب في مدرستها وقبل سفرها، بين حب الوطن والرغبة بالرحيل عنه.

تطور المخرجة تفاصيل وأقدار شخصيات فيلمها القليلة إلى حكاية سينمائية حميمية شديدة التأثير في مواضع، وستكبر شخصيات الفيلم وتنضج أمام أعيننا في تجربة سينمائية تسجيلية عربية فريدة، وسنشهد على تخلي بعض الشخصيات لأحلامها، فيما كان البعض الآخر يخط لتوه أحلامه الأولى. في واحد من المشاهد الختامية للفيلم، تظهر المخرجة نفسها وهي تضع كمبيوتر محمول امام شخصيات فيلمها لتشاهد على شاشته صورها عبر السنوات، فيما واصلت كاميرا الفيلم تسجيل ردود أفعالها. لا يربك ذلك المشهد التدفق الذاتي الخاص للفيلم، بل جاء كخاتمة مبدعة غلفها الحزن للتجربة الأصيلة التي شكلها الفيلم، وفتح المشهد ذاك كوة على كواليس العمل، وحميمية العالم العائلي الصغير الذي صورته المخرجة لسنوات.
بوستر فيلم “زينب تكره الثلج”
تكشف المعلومات المتوافرة عن الفيلم أن هناك علاقة قربى بعيدة تربط بين المخرجة و “وداد”. هذه القرابة لا تفسر وحدها العفوية التي تقطع الأنفاس التي طبعت كل دقائق الفيلم، اذ عرفت المخرجة التي صورت بعض مشاهد فيلمها وحدها وبدون فريق فنيّ كيف تختبيء خلف كاميراتها. وبدت هذه الأخيرة كصديق مخلص يستمع بصبر الى حكايات الآخرين. ولعل الإبتكار الإسلوبي الذي ميز فيلم المخرجة السابق “شلاط تونس”، يأخذ في العمل التسجيلي الجديد طبيعة أكثر إرتباطاً بعوالم السينما التسجيلية، وبالخصوص سينما المراقبة، عبر تأسيس لعلاقة ثقة فريدة بين المخرجة وشخصياتها، والتي ستنتج فيلما رائعاً، يؤكد مجدداً على مكانة مخرجته كواحدة من أهم العاملين في السينما التسجيلية العربية اليوم.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى