“تايكون”.. سيرة غجرية!

“تايكون”.. سيرة غجرية!

قيس قاسم

في مجملها الأفلام، التي تناولت حياة “الغجر” وثقافتهم، قليلة والأقل منها تلك التي حاولت عرض أحوالهم الاجتماعية وما يتعرضون له من اضطهاد وتمييز عرقي، لدرجة يمكن رصدها بسهولة، ما يطرح معها أسئلة عن سبب “تجاهل” السينما لتراجيدية بشرية لم تنتهِ فصولها بعد، بل على العكس تبرز اليوم بقوة في أوربا مشكلة هجرتهم من الدول الإشتراكية السابقة الى دول الوحدة الأوربية وما يرافقها من جدل وصراع سياسي يتجه نحو الحسم في غير صالحهم، ما يشكل مفارقة تاريخية أشار اليها المخرج الفرنسي “الكسندر فرونتي” في وثائقيه “مونتريل بيلاي معسكر اعتقال الغجر المنسي”، وتستدعي التفكير في الطريقة المختلفة، التي تعامل بها الفرنسيون مع المعتقلين “الغجر” في سجون النازية إبان الحرب العالمية الثانية مقارنة بأمثالهم من اليهود، لقد سكت العالم، كله تقريباً، عن عذاباتهم واهتم فحسب، بمآسي اليهود والمعتقلين منهم في معسكرات الإبادة، مع أن الاثنين خضعا لنفس الانتهاك والعسف.
الكاتبة والمدافعة عن حقوق “الغجر” “كاتارينا تايكون”
من حسن حظ الغجر ظهور مخرج موهوب بينهم اسمه توني غاتليف ولولاه لما عرف العالم جوانب كثيرة ومهمة من تاريخ أبناء جلدته وما تعرضوا له من تمييز، عَبَر عنه وثائقيه “الحرية” بشكل رائع وجسده روائياً بـ”غاديو ديلو الغريب” المُشْبع بالرومنسية والشجن، ذكرنا بتحفة المخرج الروسي إميل لوتيانو “الغجر يصعدون إلى السماء” المقتبس عن رواية الكاتب مكسيم غوركي، لكن الأخير يظل روائياً محباً، حالماً تفسد قساوة الواقع حلاوته وتعيد تذكيرنا بمرارات بشرية لا تنتهي، واحدة منها تجسدت في تجربة الكاتبة والمدافعة الشجاعة عن حقوق “الغجر” “كاتارينا تايكون” التي اقترح المخرجان لاوين مهتدي وجيلرَت توماس إعادة كتابتها وثائقياً.

قوة المتن الحكائي لـ Taikon تكمن في استناده على سيرة شخصية للكاتبة السويدية كتبته مخرجته بنفسها قبل سنوات، حملت عنوان “اليوم الذي أُصبح فيه حرة” قامت فيها بسرد حياة “تايكون” وفيما بعد حولته إلى سيناريو، لذلك جاء فيلمها مُشبعاً بالأحداث والتفاصيل الدقيقة لجوانب عدة من حياة واحدة من أبرز المطالبين بنيّل “الغجر” حقوقهم الانسانية في السويد وأكثرهم عملاً من أجل تحقيقها على الأرض، كما ساهمت مشاركة أختها ورفيقة دربها “روزا” إلى جانب زوجها “بيورن لانغهمر” وعدد كبير من الذين عايشوها، في إغناء متنه السردي المشبع أيضاً بالتسجيلات الفيلمية والوثائق التلفزيونية، لحداثة زمن أحداثه نسبياً، وتوفره على خامات تسجيلية كثيرة سمحت بنقل نص مخرجته المكتوب على الورق إلى نصٍ بصري.
المخرجان لاوين مهتدي وجيلرَت توماس
لـ”روزا” دور بارز في حياة الأخت الأصغر وأيضاً في الفيلم الموثق لها، حلاوة كلامها وقوة ذاكرتها شدتا المشاهد إليها ولهذا ودون تردد يمكن إطلاق صفة البطل/ الحاضر عليها فيما ستأخذ الأخت الأصغر “كاتارينا” صفة البطل/ الغائب، ومن هنا جاءت محاولة مخرجة العمل الجمع بينهما على طول الوقت بأسلوب ممتع ومؤثر، عن الطفولة وبدايات تشكل الوعي يكرس الفيلم ثلثه الأول لها تقريباً، نتعرف خلاله على حياة العائلة الغجرية، التي سكنت المجر ثم انتقلت الى روسيا واستقرت في السويد بداية القرن الماضي، كان والدهما عازفاً للموسيقى الشعبية وصاحب مدينة ملاهي بسيط متنقل بين المدن.

في بداية الثلاثنيات ولدت “تايكون” داخل خيمة وعاشت مع أخوانها في كنف والدها وزوجته الثانية، التي أذاقتهم أصناف العذاب، قساوتها أثرت فيهم أما زواجها المبكر في سن الثالثة عشر فشكل نقلة دراماتيكية في حياتها وكشف هربها من زوجها عن شخصية قوية داخلها ترفض الاستسلام للواقع وهذا ما فسر لاحقاً، وفي سنوات شبابها، إصرارها على المضي في الكفاح من أجل أفكار وقيم آمنت بها.
“روزا” الأخت الكبرى لكاتارينا تايكون
يبدو من السهل الآن الحديث عن حقوق الانسان وعن المطالبين بها لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة قبل أكثر من نصف قرن وبخاصة بالنسبة لغجرية أُمية، عاشت مع عائلتها في مخيمات معزولة وسط الغابات الباردة بما يشبه “غيتو” يُحَرم على سكانيه “المنبوذين” الاختلاط مع السويديين، أفضل ما قدمته لهم والدتهم الثانية؛ اللغة السويدية، علمتهم إياها شفاهاً، وأشنع ما اقترفته من ذنب ضد “كاتارينا” تركها بيد عائلة أرادت تبنيّها، لكنها وبعد مدة قصيرة أودعتها بيتاً لرعاية الأيتام، دون علم والدها، تجربة المأوى ستؤثر فيها كثيراً وعنها ستكتب لاحقاً “الغجرية” لتسرد فيه تجربتها ونظرة الناس المحتقرة لها رغم صغر سنها.

إصرار الأخت الأكبر على إعادتها الى البيت فضل لن تنساه لها وبسببه ظلت حتى اليوم الأخير من حياتها ترافقها، عاشا معاً ومشيّا نفس الطريق التي رسمته لهما الحياة، لم تكمل “كاتارينا” أي مرحلة من دراستها بسبب الانتقال الدائم للعائلة وعنصرية مدرسيها وعنها ذلك كتبت قصة “كاتيزي” للأطفال، التي تحولت فيما بعد إلى فيلم ومسلسل تلفزيوني وحصلت على أعلى أرقام قراءة في المكتبات السويدية العامة.

للجانب التعلمي أولت الأختان اهتماماً كبيراً وكأنهن بالغريزة عرفن أهميته وقدرته على تخليصهن من “الإذلال” و”التمييز”، في سن الشباب ستدخلان في مدارس تعليم الكبار وبعد ثلاث سنوات ستحصلان على شهادة تخرج، الحدث الأهم خلالها هو قراءة الأخت الصغرى كتاباً في الحقوق، أشار فصل فيه إلى ضمان الدستور السويدي حق حصول كل مواطنيها على سكن مناسب وعمل ودراسة!.
كاتارينا تايكون
عند المرحلة التالية لإنهاء المدرسة يتوقف الوثائقي طويلاً، لا فقط للأهميتها في حياة “كاتارينا”، بل لأنها مثلت انقلاباً في أسلوب الوثائقي، كان قبلها يعتمد كثيراً في سرده على الحوارات والذكريات والصور الفوتوغرافية الموجودة عند معارف بطلته، لكنه في المرحلة الثانية سيغدو وثائقياً بصرياً بامتياز، مادته كلها تقريباً عبارة عن مواد فيلمية صورت خلال فترة الستينات، حيث الصورة التلفزيونية وبخاصة الاخبارية والريبورتاجية كانت قد أخذت مجدها، وشغلت حيزاً كبيراً من مساحة الاعلام المرئي، كما شهدت نفس المرحلة على المستوى السياسي صعوداً لحركات التحرر الوطني وانتقال السويد إلى مصاف الدول الأكثر ديمقراطية واحتراماً لحقوق الإنسان وبخاصة عندما تسلم قائدها الأبرز “أولوف بالما” وحزبه الاشتراكي الديمقراطي زمام الأمور، قدم خلالها مساعدات مهمة لقادة ومناهضي سياسة الأبارثيد والعنصرية، ما أثر في وعي “الغجرية” الطموحة التي راحت تدخل المجتمع من بوابات الثقافة والمعرفة وستدخل لاحقاً حقل التمثيل والسينما فيما الأخت “روزا” ستشبع ميولها للفن التشكيلي والنحت.

أدركت الأختان وبسرعة أهمية النضال السلمي من أجل نيل حقوق الأقليات المضطهدة وسيكتب لها التاريخ فرصة لمقابلة “مارتن لوثر كينغ” في العاصمة النرويجية أوسلو أثناء تسلمه جائزة نوبل للسلام وبعدها مباشرة أطلقت الصحافة عليها اسم “تايكون مارتين لوثر كينغ السويد” لتقارب أهدافهما السياسية، زواجها من “بيورن لونغهامر” قوى من عزيمتها واصرارها على النضال، الذي غدا ملموساً على المستويين السياسي والاجتماعي، ستحقق من خلاله مكاسب وقتها كانت تعد حلماً طوباوياً، انتزعت للغجر من الدولة حق التعليم المجاني وتوفير فرص عمل لهم وحصولهم على سكن مناسب.
كاتارينا في إحدى المظاهرات المطالبة بمنح حقوق للغجر
في مراحل متقدمة من نضالها السلمي المدني ستربط بين مطالبها الحقوقية بأخرى سياسية وتجبر الحكومة السويدية على معاملة الغجر القادمين من أوربا إليها بسبب الحرب والتمييز كلاجئين سياسيين، نجحت مرات وفشلت في أخرى ولحساسيتها كانت تتوجع عند كل إخفاق، لكنها سرعان ما تقوى على آلامها وتعود للعمل السياسي أكثر نشاطاً، كرست كل حياتها لمنفعة أبناء جلدتها.

ينجح الوثائقي في تقديم صورة واضحة عن حجم نشاطها وكيف تحول بيتها لسنوات الى مقر عمل مفتوح ليل نهار وخارجه لم تكن تهدأ في تواصلها مع الأحزاب السياسية وتنظيمها المظاهرات الاحتجاجية والمشاركة في الندوات، ضغط كل ذلك الجهد أثر سلباً على صحتها وحتى على علاقتها بأطفالها، ومن طرف ثانٍ أغنى تحركها السياسي وعمق وعيها ومتَّن من قوة محاججتها وأوصلتها الى تحليلات دقيقة عن عنصرية المجتمع السويدي وبخاصة نظرته المتعالية على المهاجرين والأقليات، وبسببها تعرضت لهجمات وتهديدات العنصريين في بلادها، غير أن كل هذا لم يزعزع إيمانها وقناعتها بما تقوم به وكانت تريد تقديم المزيد منه لولا مرضها وإصاباتها بجلطة دماغية أقعدتها وكانت سبباً في موتها أواخر عام 1995.
الأخت الكبرى “روزا” وهي تستلم جائزة “أولوف بالما”
يختتم الوثائقي سيرة بطلته بمشهد تظهر أختها روزا فيه وهي تستلم جائزة “أولوف بالما” ومن هناك تعلن تقاسمها الجائزة مع أختها التي كانت أكثر استحقاقاً لها!. بالألوان على عكس أغلب زمن سرده بالأسود والأبيض يطوي الوثائقي الصفحة الأخيرة من سيرة كتبها بأسلوب جد مؤثر، يتيح بسهولة لمشاهده إمكانية إسقاط مضمونه الانساني على اللحظة الآنية التي يُعرض فيها، والعالم وبخاصة أوربا، التي تصلها موجات نزوح بشرية واسعة، بسبب حروب وصراعات دموية في مناطق مختلفة من العالم، ما يضفي على موضوعه أهمية مضاعفة تتجاوز سرد حياة واحدة من أبرز المناضلات من أجل حقوق “الغجر” إلى الدعوة للنظر من زاوية إنسانية مختلفة إلى كل المضطهدين في العالم بسبب عرقهم ولونهم، وإلى فهم أحسن للظروف القاهرة، التي تدفع الآلاف للانتقال من بلد الى آخر، والعيش في مكان مختلف، وبسببه يعانون من تمييز مقيت يستوجب الوقوف في وجهه بشجاعة، دون فقدان البوصلة المعينة على البقاء في الاتجاه الصحيح كما عملت “تايكون” وغيَّرت الكثير.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى