وجع العراقي مرتضى كزار في «طائفتي الجميلة»

منال عبد الأحد

من الصراع الطائفي والمذهبي الذي فرّق المجتمع العراقي وسلخ نسيجه، إلى طائفة النحل التي تقطر عسلاً، يجد قارئ «طائفتي الجميلة» (منشورات الجمل) نفسه أمام طائفة من الأحداث- بعد سقوط بغداد وقبله- ليصير شاهداً على هذه السينوغرافيا المتحوّلة.
يختار الكاتب مرتضى كزار لروايته بطلاً يُدعى أكثم (الراوي)، يعمل طبيباً في مستشفى «البيطرة الخاصة»، وهي عبارة عن مبنى تابع لديوان الرئاسة. ذات ليلة، يُطلب من أكثم ومساعده جميل (الملقَّب بـ»جميل يحترمني») أن ينتزعا كلباً حشر نفسه داخل أحد تماثيل الرئيس الذي أعدّه فنان أعمى- اسمه حكم- يعرفه أكثم منذ الطفولة حين كان يشتغل على الطابعة في الحيّ. عبر لغة واضحة وبعيدة عن التعقيد، يصف الراوي كيف أسندت إليه هذه المهمة، باعتباره الطبيب البيطري الوحيد في المكان: «وجدت نفسي واقفاً في زاوية من زوايا الغرفة، أتلقى صفعة على رقبتي فترتطم جبهتي بالجدار. كان هذا ضرورياً جداً كي أصحو واستمع إليهم… ساقوني معهم، سحلوني وطافوا بي على ممرات المستشفى والأقفاص والمخازن» (ص5)، ويضيف: «هذه هي مستشفى البيطرة الخاصة، بناية تابعة لديوان الرئاسة. كل ما فيها تابع للرئيس، من الطبيب البيطري إلى العناكب والخيول والقردة والخنازير…» (ص6).
بعد النجاح في إخراجه من التمثال، يقرر أكثم ومساعده جميل الاحتفاظ بالكلب «خاكي» الذي يتّضح لاحقاً أنه شاذّ جنسياً. وكلّ هذه الإشارات إنما هي أمور يبني عليها الكاتب حبكته في منتصف الرواية، ولعل التمهيد لها في البداية أمر موفق جعل النص مسكوباً في قالب واحد، متماسكاً من بدايته وحتى نهايته.
أما سقوط بغداد، وهو الحدث المدوّي في التاريخ العراقي المعاصر، فيبدو كأنه الخلفية التي يبني عليها كزار روايته. يطوِّع أحداث مدينته الدموية في خدمة نسيجه الروائي ويفوته أن يخيط نسيجاً خاصاً وفقاً لما آلت إليه أحوال المدينة، ولو فعل ذلك لكان أثرى حبكته بوشائج الحقيقة الخالصة التي تصحب القارئ إلى أزقة الشارع البغدادي وتنقل أنين وجعه.
تبدو لغة كزار أقرب إلى السهل الممتنع، يمتطي أحياناً السخرية السوداء، ينبش من المحكية بعض المقارنات والتشابيه التي تثري نصّه وتجعله أقرب إلى القارئ. إلا أن ما يعيبه هو انتشار بعض الأخطاء اللغوية في النص منها على سبيل المثل: بؤبؤه (وقد كَتَبها بوبئه ص34)، وضعيات الهمزات، وبعض الأخطاء الأخرى.
في المرحلة الثانية من الرواية، يظهر جلياً أن الناس يعيشون مرحلة انتقالية، فهم كانوا يرزحون تحت حكم وباتوا يرزحون تحت حكم آخر، الاحتلال الأميركي. إلا أن صوت كزار في قول ذلك يبدو خافتاً جداً. فهو لم يقل حتى كلمة احتلال، وهذا يطرح علامات استفهام. وتبدو قضية العراق أكثر تلاشياً حتى في خلفية المشهد الروائي على حساب طائفة النحل التي يشكّلها الراوي بمساعدة «عديّسة»، الطفل المنبوذ من أهله وإخوته. يخلق الكاتب لهذه التيمة الأساسية تيمات فرعية تكسبها مزيداً من الاهتمام وتجعلها أكثر حيوية. راجحة،
عشيقة والده السابقة، باتت حبيبة حكم. أما زوجة جميل فتضطر أن تعيش بصورة رجل كي لا تُقتل فتصير «زغل» بدلاً من زغلة. وبعدما يفشل في الهجرة، يغدو جميل مذيعاً مشهوراً يعدّ مع زغل برنامجاً عن تأويل رؤية الحيوانات في المنام. وحينما ينشغل أكثم عن طائفته، يسرقها منه عديّسة، الذي يصبح مشهوراً ليعود أكثم ويفكر بالعمل معه.
على رغم أن الكاتب يحاول شدّ زمام حبكته، يبقى شيئاً ما متفلتاً فيها. كأنما ثمة هوة اعترضته فجأة وكاد أن يسقط فيها. فالكاتب لا يتنقل برشاقة بين الماضي والحاضر، بل يبقى على مسافة محايدة من الزمنين. عند ذكر عشيقة أبيه مثلاً، يصف بلامبالاة مضاجعتها لأبيه وينتقل للحديث عن مغامراتها الحسية مع حبيبها الجديد حكم، بعدما دخل عليهما ذات مرة، مستخدماً أسلوباً ساخراً مستهزئاً. تراه يغرق في التفاصيل على حساب بعض الاستطرادات المهمة التي يهملها، لنستنتج في آخر النص أن الكاتب يجمع في روايته مجموعة من الأحداث التي ينقصها عقدة الانصهار في ما بينها كي تشكل عملاً روائياً متكاملاً ومتجانساً، ما يجعلنا أمام محاولة تحتاج بعض التشذيب والمراجعة.
«أنا لا علاقة لي بما جرى. أنا عشيرة من البشر اسمها الذين لا علاقة لهم. تقع عليهم آلاف الأسئلة وتهرسهم. تدهسهم وتفرم عظامهم، ولديهم جواب واحد قديم هو لا علاقة لنا. اقلبني وانزع ملابسي واكشط جلدي ستجد تحته عبارة لا علاقة له محفورة ألف مرة. انتصرتم أو انهزمتم. حزنتم أو فرحتم. نمتم أو استيقظتم. أنا لا علاقة لي أو لا علاقة لي» (ص45). لعلّ هذه العبارة التي تكتنز بين ثناياها الكثير هي الإشكالية التي تطرحها الرواية. وكلما بحثت عن أولئك الذين لا علاقة لهم تتأكد أنهم قد يكوّنون أحياناً شعباً كاملاً أو أنهم قد آثروا ذلك.

(الحياة)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى