لأول مرة منذ نصف قرن شاعر أميركي ينال جائزة المان بوكر

تحسين الخطيب

“لا يتوجب على القَص أن يكون مريحا، فالحقيقة قلما تكون جميلة، وإنّ هذا الكتاب ليقضّ مضاجع القرّاء باسترسال بهيج.. إنها رواية من تلك الأعمال البالغة الندرة، القادرة على توظيف السخرية التي هي ثيمة في غاية الصعوبة ولا تُحكَم صنعتها ببراعة دوما، فتغوص في أعماق المجتمع الأميركي المعاصر بخفّة روح ضارية لم نعثر على شبيه لها منذ أعمال جوناثان سويفت ومارك توين”، بهذه الكلمات أَدخلت روايةُ “الخيانة” الشاعر الأميركي بول بيتي مجمع النخبة الأدبية من بابه الأوسع، حين منحته جائزة المان بوكر البريطانية لهذا العام والتي أعلنت الأربعاء، فأصبح أوّل أميركي يفوز بهذه الجائزة العريقة مذ صارت متاحة قبل ثلاثة أعوام أمام عموم المؤلفين بالإنكليزية، بصرف النظر عن الجنسيّة، شريطة أن تكون ثمّة طبعة من العمل منشورة في المملكة المتحدة، بعد أن كانت مقصورة، منذ تأسيسها في العام 1968، على رعايا دول الكومنويلت والمملكة المتحدة وأيرلندا وزيمباواي.

أصبح بول بيتي الروائي الأسود الثاني الذي يفوز بالجائزة، تباعا، بعد الجامايكي مارلون جيمس الذي فاز بها في السنة الفائتة عن روايته “تاريخ موجز لسبع جرائم قتل”. وليس هذا فحسب، بل إنّ كلتا الروايتين قد صدرتا عن دار النشر الصغيرة المستقلة “عالم واحد”، وهي إشارة بالغة الدلالة، في عوالم صنعة الكتاب، تؤكّد أهميّةَ الحدث الذي تكرّر على صعيد الجوائز الأدبيّة الرفيعة في الأعوام الأخيرة، فبتنا نرى الأعمال التي تصدر عن دور نشر صغيرة تتفوّق على كتب المكرّسين والأسماء اللّامعة، الصادرة عن دور النشر الكبيرة العابرة للحدود.
سخرية من العنصرية

ليست هذه هي المرّة الأولى التي تحظى بها رواية “الخيانة”، والتي سبق لنا أن تحدثنا عنها، هنا في الصفحات الثقافية لـ”العرب” بالاحتفاء والتكريم، فقد نالت جائزة حلقة نقّاد الكتاب القومي الأميركية المرموقة في العام 2016، واختيرت ضمن قائمة أفضل الكتب لسنة 2015 من طرف “النيويورك تايمز ريفيو أف بُكْس” و”الوول ستريت جورنال”. كما حظيت، منذ صدورها في طبعتها الأميركية في العام 2015، بمراجعات نقدية في كبريات الصحف والمجلات.

وصفتها صحيفة الغارديان بأنها “رواية جريئة تنتهك الافتراضات الثقافية الوخيمة”، وذهب دوايت غارنر إلى أبعد من ذلك، حين كتب في النيويورك تايمز، بأنّ “أوّل مئة صفحة من ‘الخيانة‘ هي أكثر مئة صفحة تهكّما في أيّ رواية أميركية قرأتها في العقد الماضي.. إنّها توصلك إلى مكان يبعد أميالا عن الموضع الذي صادفتها فيه”. أمّا كيسي لايمن، الروائي وأستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة ميسيسبي، فقد تحدث عن الرواية، في مقالة له في صحيفة لوس أنجيلس تايمز، على أنها من “بين أكثر الروايات الأميركية صعوبة وأهميّة التي كتبت في القرن الحادي والعشرين.. إنها رواية جارحة لن ينساها القرّاء البتّة”.
ولم يختلف الناقد مايكل شواب مع هذا الرأي حيث قال إنها “ليست واحدة من أكثر الروايات الأميركية الصاخبة روعةً منذ سنين، ولكنها قد تكون أوّل رواية ساخرة عظيمة في القرن الحالي . . إنها تحفة هَزْلية ومن أشدّ الروايات ذكاء وأكثر التأمّلات صدقا حول العنصرية والهوية في أميركا منذ وقت طويل”. وكان الباعث الذي دفع بول بيتي إلى كتابة هذه الرواية، في المقام الأول، أنّه كان يعاني الإفلاس، فأراد أن يؤلف كتابا يدرّ عليه مالا يعينه على الحياة. أنفق بول نحو أربع سنوات في كتابة الرواية. “لقد أرهقتني حقا.. لقد كان كتابا صعبا على مستويات عدّة، ولكنني أردت أن أخرجه إلى العلن، أن أجعله مُحرّضا”.

تدور أحداث الرواية، بسخرية لاذعة، على لسان راو شابّ أسود يعرف باسمه الأخير “أنا” والذي يحاول إحياء التفرقة العنصرية في أحد أحياء لوس أنجيلس، بيد أنّ محاولته هذه تقوده في النهاية، وبعد مقتل والده بالرصاص على يد أحد رجال الشرطة البيض، إلى قضية عنصرية في المحكمة العليا. إنها رواية عن حركة الحقوق المدنية وعن الدستور الأميركي، والعلاقات الأسرية، والمساواة العرقية، والحياة المدينيّة، وعن تأكيد الهوية الأفريقيّة لدى السود في الولايات المتحدة. وعن طرائق هذه الثيمات وتمثيلاتها في الرواية، يقول بول بيتي “تروق لي فكرة اللعب على دلالة التمييز العنصريّ في سياق معاصر. فبين حين وآخر، أسمع بعض الأميركين من أصول أفريقيّة يقولون إنهم كانوا يعيشون حياة أفضل في ظلّ الفصل العنصري، وهي مسألة تسحقني من الداخل”.

وليست أحداث الرواية بعيدة عن الأفعال العنصرية التي حدثت مؤخرا في الولايات المتحدة ضد السود، خاصة حوادث القتل التي تمّت على أيدي رجال الشرطة البيض في فيرغسن وبالتيمور ومدن أميركية أخرى، والتي تصدّرت واجهة الأخبار في ذلك الوقت. ولا تُعدّ هذه المرة الأولى التي تلتفت فيها المؤسسات الثقافية بالتكريم تجاه مواضيع وثيمات أدبية تعالج مسألة العنصرية ضد السّود في الوقت الراهن، وكأنها تحاول التكفير عن ذنوب المجتمع من جهة، والإشارة بوضوح مطلق إلى أحوال هذه الظاهرة التي باتت تقض مضاجع المشغولين بعالم تسوده قيم الحرية والعدالة والمساواة من جهة أخرى، بعد كل تلك التضحيات التي بذلت والدماء التي سالت، فقد سبق لديوان “مواطن: أنشودة أميركية” للشاعرة الأميركية السوداء (ذات الأصول الجامايكيّة) والذي يتحدث عن العنصرية في أميركا أوائل القرن الحادي والعشرين، أن فاز بجائزة حلقة نقاد الكتاب القومي الأميركية في العام 2014، وبجائزة فوروارد البريطانية للشعر في العام 2015.
استبعاد المكرسين

 

وكانت القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر التي أعلنت مساء الثالث عشر من شهر سبتمبر الماضي، قد شملت، إضافة إلى رواية “الخيانة”، و“إيلين” للأميركية ذات الأصول الإيرانيّة، أوتيسّا مشفق، و”مشروعه الدمويّ” للأسكتلندي غرييَم ماكرييه بيرنيت، و”كل ما ينطوي عليه الإنسان” للبريطاني-الكندي ديفيد زولوي، و”حليب ساخن” للبريطانية ديبرا ليفي، و”لا تقولوا إننا لا نملك شيئا” للكنديّة مادلين ثين.

رواية عن حركة الحقوق المدنية وعن الدستور الأميركي، والعلاقات الأسرية، والمساواة العرقية، والحياة المدينية
وكانت المفاجأة المدويّة حينئذ استبعاد لجنة التحكيم، برئاسة المؤرخة البريطانية أماندا فورمن، روايات لأسماء كبيرة مكرّسة من التنافس النهائيّ على الجائزة، كرواية “أيام المسيح في المدرسة” للجنوب أفريقي جيه. إم. كُتْسي الفائز بجائزة نوبل في الآدب للعام 2003، والحاصل على جائزة المان بوكر مرّتين، ورواية “اسمي لوسي بارتن” للأميركية إليزابيث ستراوت الحاصلة على جائزة البوليتزر في العام 2009 عن مجموعتها القصصية “أوليف كيتريدج”.

وكانت ثمّة، في القائمة النهائيّة للجائزة في هذا العام، روايات لمؤلفين مغمورين؛ فرواية “مشروعه الدمويّ” لغرييَم ماكرييه بيرنيت، على سبيل المثال، والتي نشرتها دار نشر صغيرة في أسكتلندا، لم تُكتَب عنها أيّ مراجعات نقدية ذات أهمية منذ صدورها في العام 2015، ولم تبع سوى 561 نسخة منذ صدورها، وفق الإحصائيات التي أعلنتها شركة “نيلسن بوك سكان” المتخصصة في جمع المعلومات من الآلاف من المكتبات المنتشرة حول العالم، بيد أنّ الرواية باعت، منذ اختيارها في القائمة الطويلة، نحو 5622 نسخة دفعة واحدة، وفي الأسابيع التي أعقبت اختيارها في القائمة القصيرة، باعت 24079 نسخة إضافيّة، متجاوزة رواية إيلين مشفق التي باعت منذ إعلان القائمة القصيرة أكثر من 11000 نسخة.

وقد سبق لبول بيتي الذي يدير ورشة تعنى بالإبداع القَصصي بجامعة كولومبيا، أن أصدر ثلاث روايات ومجموعتين شعريّتين. ويشتغل الآن على مشروع مختارات من الأعمال التي ألّفها عن السّود كتاب غير سود، مستلهما الفكرة من كتاب “حيوات ثلاث” للشاعرة الأميركية غيرترود ستاين، مثلما قال في حوار معه. ولكنّ روايته الفائزة، هذه، تظلّ أكثر أعماله نجاحا لغاية اليوم، على الرغم من أنّ أحد زملائه في الجامعة التي يعمل بها قد أخبره ذات مرّة بأنه لن يكون كاتبا ناجحا البتّة.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى