معز ماجد : أكتب نصوصا عربية باللغة الفرنسية

محمد ناصر المولهي

وأنت تقرأ قصيدة الشاعر التونسي معز ماجد لا يمكنك إلا أن تحبس أنفاسك وأنت تعبر مزالق اللغة المتينة والمشاهد الشعرية المتصاعدة، تلك التي تأخذك لقلبها وسط عوالمها المملوءة بالأساطير والتواريخ والمشبعة بروح قوي يجعل من الشعر لا بيانا جماليا لغويا فحسب، بل وموقفا واعيا وشفافا خالصا من العالم.
عربية بالفرنسية

كتابات معز ماجد الشعرية التي جاوزت الأربعة كتب شعرية، باللغة الفرنسية، يمكن لأي متلق فطن أن تذكره بشعر الفرنسي سان جون بيرس في كتابيه “آناباز” و”نشيد الاعتدال”، وليس هذا من باب التشابه الأسلوبي، بل من حيث النفس الملحمي الذي ميز الكثير من الشعر منذ هوميروس، ويصح هنا أن ننظر إلى شعر ماجد على أنه من الشعر القوي، ووسم الشعر بالقوي ليس وليد الثقافة الفرنسية كما يعتقد البعض، بل هو قديم قدم الشعر، فمثلا العرب غالبا ما كانت تصف الشاعر المُجيد بالفطحل أو الفحل، وقوة الشعر ليست في لغته فحسب، بل تمتد كذلك إلى قدرة الخطاب الشعري على الجمع بين الحساسية الشفافة والوعي الحاد، والعمل على نحت أدق التفاصيل في أصغر جزئياتها لتقديم نص شعري خالص، وهذا ما يؤكده ضيفنا.

بدأ معز ماجد الكتابة الشعرية باللغة العربية، لأنه كما يقول عنها لغته الأصلية، أما اللغة الفرنسية التي يكتب بها فهي كما يراها لغة الآخر، قادته إليها نزعة الكتابة، وعندما شرع في الكتابة بالفرنسية خيّر أن يتعمق في هذه اللغة ليمتلكها أكثر، وليتمكن من التعبير من خلالها بوعي. بدايات ماجد كانت بكتابه البكر “الظل.. الضوء” الذي نشره في تونس، ليتبعه بمجموعة شعرية ثانية بعنوان “أحلام شجرة كرز مزهرة”، لكنه خير الانتقال للنشر على نطاق أوسع فقدم مجموعته الثالثة في فرنسا، وبدأ رحلة جديدة في النشر.

لكن علاوة على صناعة النشر التي سنأتي على ذكرها لاحقا، غالبا ما يدخل أي من محاوري أو قارئي تجربة معز ماجد إلى ثنائية اللغة عند الشاعر، حيث رغم أنه يكتب بالفرنسية، فإن ماجد كما يقول يكتب نصا تونسيا عربيا باللغة الفرنسية، إذ تحضر في قصائده رموز ومشاهد خارجة من عمق بيئته وتاريخه التونسي والعربي، روح الشاعر هي روح خاصة وخالصة يمكنها التمظهر في أي لغة، لكن ببصمتها وطابعها المخصوصين، وهذا تماما ما نراه في وعي ماجد الحاد باللغة لا كأداة تعبيرية ورؤيوية فحسب، بل كمخزون ثقافي وحضاري وتاريخي ونفسي. ويستشهد ضيفنا هنا بكلمة “خبز” في اللغة الفرنسية، بما تحمله من دلالات عميقة مرتبطة بالديانة المسيحية والقدسية وبالعادات الفرنسية التي تربط دال “خبز” بالمدلول الذي يحمل أشكالا وأبعادا اجتماعية وثقافية خاصة، لكن نفس الكلمة “خبز” عند استعمالها بالعربية تحضر لها أبعاد أخرى لا علاقة لها بالمسيح بل لها قدسية من نوع آخر سطّرها التناول التاريخي والديني المختلف للكلمة ومدلولها.

بهذا المثال لخص ماجد ما للغة من أبعاد مختلفة، إذ يجب على الشاعر أن يكون على أعلى درجات الوعي بها، وهذا ما جعله يبتعد عما أتاه الكثير من الكتاب والشعراء العرب “الفرنكوفونيين” الذين انسلخوا ليكتبوا بالفرنسية نصا فرنسيا، ليس نابعا من ذواتهم وخصوصياتها، فماجد يكتب للإنسانية، وهنا يستذكر حوارا دار بينه وبين أبيه الشاعر الراحل جعفر ماجد حيث يقول “سألني أبي ذات مرة لمن تكتب بالفرنسية؟ فأجبته بدوري بسؤال: وأنت لمن تكتب بالعربية؟ أليس للإنسانية؟”.

من هنا يؤكد ماجد أنه رغم اعتبار اللغة جوهر الشعر، فإنها في النهاية أداة ووسيلة وليست الغاية المغلقة على ذاتها، لذا يكتب الشعر للإنسان أينما كان، وبالأخص يكتب ذاته وعوالمه الخاصة للآخرين، وهذا من قبيل المعادلة الصعبة كما يقول، أن تكتب ذاتك وخصوصياتك بلغة غير لغتك الأم للإنسانية جمعاء، إذ نصوص ماجد لا تشوبها الغنائية والذاتية المنغلقة، بل تنفتح على مجاهل جمالية قصوى منطلقة من أرضية تاريخية وفكرية وعاطفية خاصة.

ويحضّر معز ماجد لنشر مجموعة شعرية جديدة يهتم فيها بالتفاصيل وشعريتها، ورغم ما نراه اليوم من استسهال لكتابة قصيدة التفاصيل الخالية من الوعي الجمالي والفكري والفاقدة لمحرار العاطفة، فإن معز ماجد يؤكد على ضرورة تحقيق معادلة الوعي والعاطفة للكتابة، لذا لا يكتب بشكل يومي، فيما يتمهل ويعايش نصوصه، التي يعالجها بالمحو. لذلك أخذت منه المجموعة الشعرية الأخيرة التي ستصدر قريبا رغم صغر حجمها أربع سنوات لإتمامها، فالطريق إلى التفاصيل وجعل ما ليس شعريا شعرا، يحتاجان إلى طاقة هائلة هي طاقة السكون كما يراها ضيفنا، يقول “الفنان مارسيل دوشون وضع مبولة وقدمها على أنها منحوتة ولاقى الأمر نجاحا واسعا فيما فشل كل من حاولوا تقليده، لأن الفعل الإبداعي أصيل”.
حج شعري

لم يشأ معز ماجد أن يقتصر دوره الشعري على الكتابة فحسب، بل لديه رؤية في ما يخص الأمسيات والتظاهرات الشعرية، التي بقيت تقليدية في تونس وفي الوطن العربي، لم تضف للشعر بقدر ما أضرت به، ويستشهد هنا بأكبر مهرجان شعري في العالم ألا وهو مهرجان كولومبيا الذي يستمر على مدى أسبوعين ويحتضن شعراء من العالم أجمع، وفيه تقدم القراءات الشعرية بطرق حديثة ومختلفة تماما مازجة بين الموسيقى والشعر والفرجة، فالشعر لا يجب أن يبقى حبيس الصالات المغلقة ومنغلقا على ذاته، لذا أسس منذ ثلاث سنوات لمهرجان شعري متوسطي في مدينة تونسية جميلة هي سيدي بوسعيد، كانت فكرته أن يجمع شعراء مختلفين وموسيقيين عالميين لتقديم عرض متكامل.
هذه السنة بعد نجاح الدورات الثلاث الماضية في تشكيل نواة مهرجان طموح بات المهرجان تحت مسمى “المهرجان الدولي للشعر بسيدي بوسعيد”، حيث سيقام هذا العام على مدى ثلاثة أيام 4 و 5 و6 نوفمبر 2016، وازداد عدد الضيوف الشعراء ليبلغ الـ20 شاعرا، من دول مختلفة نذكر منها أسبانيا وتركيا والسعودية وسوريا ورومانيا وغيرها، إضافة إلى مجموعات موسيقية ستقدم عروضا مختلفة.

فكرة المهرجان هذا العام ستكون مختلفة عما تم تقديمه سابقا، إذ ستقام الأمسيات الشعرية والعروض الموسيقية في أماكن مختلفة متفرقة في مدينة سيدي بوسعيد، محتكة بالجمهور بشكل مباشر، ما يخلق جو المهرجان في تعمقه أكثر وسط شوارع المدينة وبين الناس.

ويطمح المهرجان الذي يقام في دورته الرابعة بالتعاون مع بلدية مدينة سيدي بوسعيد، كما يلفت ضيفنا، إلى أن يكون مهرجانا عالميا له سيطه على خطى مهرجان كولومبيا الذي قاده مديره فيرناندو ريندون إلى العالمية، وهذا يمكن تحقيقه بتقديم الشعر والفن في ثوب مختلف يكسر الرتابة التي تعودنا عليها، ويقدم كل شاعر نصه بلغته الأصلية يليه في ذلك مؤد محترف يقدم نفس النص مترجما إما إلى الفرنسية وإما إلى العربية، إضافة إلى ذلك فإن الموسيقى ستكون مستوحاة من النصوص التي ستقرأ.

المدينة بكل تفاصيلها ومكوناتها هي التي ستحتضن المهرجان هذه السنة، لتؤسس بذلك لفعل ثقافي مختلف، يقول معز ماجد “إن الفعل الثقافي هو فعل شامل، يتعدى الحدود الجغرافية، إضافة إلى ذلك فإن تأثيره عميق، ونسعى لأن يكون المهرجان موسم حج شعري إلى تونس”. ويسعى ماجد إلى التأسيس لمشهد ثقافي مغاير، متأصل في بيئته ومنفتح على الآخر، كما ينوي في قادم الأيّام الانفتاح أكثر على القارة الأفريقية.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى