الرحالة الشرقي يستميل القارئ بحشد الأعاجيب

عبد الله مكسور

تَّسع دائرة أدب الرحلة لتشمل إلى جانب الجغرافيا، فنوناً من علوم أخرى، كعلم السكان والتجارة والاقتصاد، دون أن تهمل ميدان السياسة والاجتماع والتربية والتعليم وغيرها، ولذلك نرى تعدد روافد الثقافة في أدب الرحلات، وتبعا لذلك سيتشكل العجيب فيها بألوان متباينة ومتنوعة ليبدع فسيفساء الندرة والغرابة والدهشة والإعجاب، كما ورد في كتاب “الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي” للباحث والناقد المغربي خالد التوزاني، الفائز بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي عام 2016.
مقاربات نص الرحلة

في بداية حوارنا يتحدث خالد التوزاني عن علاقته القديمة التي ترجع إلى سنوات دراسته الأولى لأدب الرحلة، فكانت رحلة ابن بطوطة من أوائل الكتب التي شكَّلت لديه معالم الدهشة لما تضمنته من مشاهد لطبائع الشعوب، ومسارات رحالة عربي جاب الآفاق ورصد مفارقات المجتمعات والثقافات.

ذلك المدخل شكل بوابة عريضة لدى ضيفنا للولوج في عالم أدب الرحلة فاتجه خلال إعداده لبحث رسالة الدكتوراه عام 2009، إلى الاشتغال على نصوص قديمة تتعلق بفن الرحلة العربية، وخاصة الرحلة التي خاضها الصوفية، حيث كانت رحلة “ماء الموائد” لأبي سالم العياشي 1090هـ، أحد أبرز صوفية المغرب خلال القرن الحادي عشر الهجري، موضوعا للبحث والتمحيص، ليصدر للتوزاني بعد ذلك كتاب “جماليات العجيب في الكتابات الصوفية: رحلة ماء الموائد لأبي سالم العياشي أنموذجا”، عن منشورات الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط سنة 2015، ليكون هذا الكتاب عتبة لاشتغال أكبر يتمثَّل في رصد العجيب في أشهر الرحلات العربية من خلال كتاب “الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي”.

حديث أستاذ الأدب يقودنا إلى المقاربات التي ضمَّها الكتاب، ليقول إنه تناول مقاربات أدب الرحلة لأشهر الرحلات العربية، مركزا فيها على العجيب والغريب، منها رحلات عربية مشهورة مثل: البيروني، وناصر خسرو، وابن جبير، والبغدادي، وابن بطوطة، والتجيبي، والعبدري، والبلوي، وابن الخطيب، وأفوقاي، والشدياق، وغيرها من الرحلات العربية التي يحفل بها التراث العربي، إلى جانب رحلات أخرى تنتمي إلى صنف الرحلات الصوفية، والتي يلبس العجيب فيها لباس المقدس، وتروم ترقية النفس، ومن أشهرها الرحلات الحجازية التي وجهتها مكة وطيبة والقدس الشريف وقد برع فيها المغاربة أكثر من غيرهم، نظرا إلى عوامل مرتبطة بطبيعة شخصية أهل المغرب وبُعدهم الجغرافي عن أرض الرسالات، حسب قول ضيفنا.

يتابع التوزاني أنَّه استحضر بعض المقاربات العلمية التي اتخذت من أدب الرحلة موضوعا لها، محاولا الكشف عن الاتجاه الغالب في تلك المقاربات، وقد تبين في ثنايا البحث أن “العجيب” حظي باهتمام أغلب الدارسين، سواء بوعي منهجي ونظري، أو لمجرد جرد العجائب والتعليق عليها بشكل انطباعي، وبذلك سعى هذا الكتاب إلى ملء الفراغ في هذا النمط من الدراسات من خلال تعميق البحث في تجليات العجيب ووظائفه وأبعاده وآفاقه.

عن ظروف الاشتغال على البحث والمسارات التي تضمَّنها يقول ضيفنا، إن الفكرة تنسجم مع المشروع الأكاديمي الذي اشتغل عليه خلال الدراسة العليا، ليستغرق الإعداد لإنجازه عامين متتاليين بين قراءة المئات من المصادر والمراجع والبحث فيها، ودراسة أشهر الرحلات العربية لرصد تجليات العجيب فيها، حيث تولدت فكرة كتاب جديد بعد الانتهاء من البحث، ليفكر ضيفنا اليوم في البدء ببحث جديد يرصد الحوار الحضاري والثقافي في أدب الرحلة المعاصرة.
أما المسارات التي تضمّنها كتاب “الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي” فتتمثل، كما يصرِّح التوزاني، في مدخل نظري حاول فيه الاقتراب من مفهوم “العجيب” لغة واصطلاحا وتمييزه عن “الفانتاستيك”، باعتبار هذا الأخير منتوجا غربيا لا صلة له بالأدب العربي في بعده التراثي والتاريخي، وتبني مصطلح العجيب نظرا لأصالته ورسوخه في الإبداع العربي.
العجيب والواقع

تبدو ثيمة “العجيب” رابطا بين جميع المقاربات التي أجراها ضيفنا، نسأله هنا عن المدى الذي شكلته هذه الثيمة بوصفها أرضية صلبة انطلق منها نحو صناعة الكتاب، ليقول إن بعض الرحلات أعلنت منذ عتباتها الأولى وخاصة العنوان أنها تقديم للغرائب وجمع للعجائب، وهي بهذا الإعلان الصريح تؤسس لميثاق تواصل مع المتلقي، يقضي بإدراج منجز هذا النمط من الرحلات ضمن كتب العجائب والغرائب.

ويبدو أن الرحالة لم يختر هذه الاستراتيجية في تدوين الرحلة إلا لأنه يعرف يقينا أن “العجيب” يجذب حوله القراء ويتحلق حوله الناس ليستمتعوا بنوع من السرد لا يشبه المعتاد والمتداول في الكتب الأخرى، ولذلك عزف الرحالة ببراعة على هذا الوتر الحساس: وهو حب الناس للعجيب، وشكَّل هذا السلوك مظهرا من مظاهر الافتتان بالعجيب، سواء عند الكاتب الرحالة أو المتلقي القارئ، وهذا الالتقاط هو ما شكّل الملاحظة المنهجية الأولى في بناء هيكل البحث الذي أسهم في اكتشاف جوانب مختلفة من أدب الرحلة قلما يلتفت إليها القراء والنقاد، بحسب ضيفنا.

الحديث عن “العجائبية، الغرائبية، السحرية” بوصفها ركائز أساسية في صناعة البعض من أدب الرحلة، يدفعنا إلى سؤال ضيفنا عن مقومات أدب الرحلة كما يراه بين الماضي والحاضر، ليقول إن الحكم على رحلة ما بأنها رحلة عجيبة فيه ما فيه من الذاتية، إلا أن بعض الرحلات لا يتردد القارئ في وصفها برحلات عجيبة، خاصة عندما يصرح عنوانها بذلك، ونقرأ منذ كلماتها الأولى أنها رحلة حافلة بالعجائب التي رآها الرحالة في جولاته، ثم يردد هذا الرحالة أن دافع الكتابة راجع إلى سؤال الناس عن عجائب رحلته وماذا شاهد من غرائب، فيكون تدوين الرحلة استجابة لرغبة الآخر في معرفة العجيب، وقد يكون الرحالة نفسه مدركا لقيمة ما يكتب فيستميل القارئ ببعض العجائب وقد يُكثر في رحلته من حشد الأعاجيب، وهكذا عندما نعثر على هذه المؤشرات فإن الحكم على رحلة ما بأنها “رحلة عجيبة” يصبح أمرا جادا، وليس من باب الادعاء أو الانطباع الشخصي أو التعبير عن موقف نقدي.

وبناء على هذه الملاحظة يمكن وضع نسبة كبيرة من الرحلات في خانة الرحلات العجيبة، نظرا لارتباط السفر عموما برؤية العجيب والمخالف للمألوف، ولذلك تمثل العجائبية والغرائبية والسحرية ركائز أساسية في أدب الرحلة، وتبعا لهذه الرؤية فإن تصوُّر ضيفنا لأدب الرحلة يقوم على اعتبار الرحلة رحلة بحث عن المخالف للمألوف، وحضور العجيب فيها بناء على ذلك يكون تحصيلا حاصلا، فالرحلة التي لا عجيب فيها لا يمكن أن يُعوَّل عليها كما يؤكِّد التوزاني.

يرى ضيفنا أن أدب الرحلة يمثِّل وثيقة تاريخية ومصدرا لأحداث العصر الذي كُتبت فيه، فهي تأريخ لأحداثه الكبرى وتفاصيل الحياة اليومية للإنسان في أمكنة مختلفة ومواقف متعددة، فأدب الرحلة أشبه بدائرة معارف للعصر كونها تشتمل زيادة على وصف البلدان التي مر بها الكاتب، على تراجم العلماء وأخبار الرجال والنساء، وإشارات دقيقة بشأن العادات والتقاليد وطبائع الشعوب، الشيء الذي يجعل من الرحلة وثيقة تاريخية لا يستغني عنها الباحث، وهي تفيد اليوم في معرفة جوانب من النبوغ العربي في هذا المجال.

خالد التوزاني باحث وناقد مغربي، ولد في مدينة فاس عام 1979، حاصل على درجة الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية عام 2013، بتخصص في اللغة العربية وآدابها من جامعة سيدي محمد بن عبدالله، صدرت له العديد من الكتب البحثية التي تتعلق بالرحلة العربية والتراث المغربي.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى