يقظة ثقافية لا ‘ثورة ثقافية’

هيثم الزبيدي

هناك شيء سلبي يرتبط بمصطلح “الثورة الثقافية”. يُفترض بالثورات الثقافية أن تأتي بالأفضل. هذا افتراض نظري. ثورة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ مثلا أتت بالكوارث على البلد. حطمت تركيبا اجتماعيا عمره آلاف السنين بدعوى الإصلاح والشيوعية. كانت الثورة عنيفة وشاملة لدرجة أنها التهمت حتى روّادها من المندفعين الأوائل من “الحرس الأحمر” والذين أسندت إليهم في البداية مهمة تمزيق القديم واختلاق الجديد.

مهمة الثورات الثقافية هي استبدال قيم المجتمع بقيم مفترضة جديدة. كلمة “ثقافية” هنا مغرضة بعض الشيء لأن العكس هو الصحيح. الثقافة هي العدوّ الأول المستهدف من الثورات الثقافية. إحلال القيم الجديدة هو الهدف وهذا يعني عملية شمولية كبيرة لا تترك شيئا إلا وتخوض فيه. ثمة قسوة من نوع خاص تحرّك هذا النوع من الثورات. إنها قسوة مركّبة لأنها رغم ادعائها الإصلاح، لكنها تستخدم أقسى أنواع التخريب للوصول إلى غاياتها.

منظومة القيم التي تحكم المجتمع قضية معقدة. هي خلاصة تاريخية لسلوك المجتمعات. الرسالات السماوية مثلا لم تتحداها، بل كانت تعمل من خلالها. سعت الرسالات السماوية إلى تهذيب سلوك المجتمع ووضعه في إطار أخلاقي أوسع ولم تسعَ إلى هدمه. الرسالة المحمدية هي المثال الأقرب لنا وتاريخها معروف في المصالحة بين قيم الدين وقيم المجتمع.

الثورات الثقافية لا تؤمن بمثل هذه المصالحات. تتعمّد الاستبدال بشكل كامل من خلال اختلاق منظومة قيم جديدة أولا، ثم العمل على فرضها على المجتمع. قد تبدأ هذه العملية بالوعظ أوّلا، لكنّها -وهي التي تتحرك بوحيها الأيديولوجي وليس الإنساني- سرعان ما تلجأ للعنف. لا مجال للفكر الآخر أو القيم السائدة.

الثورات الثقافية الأيديولوجية العربية في الخمسينات والستينات وحتى في السبعينات كانت شغل هواة. عمليات استعراضية للفكر القومي سرعان ما انتهت. الثورات الثقافية التي هزّت المنطقة جاءت لاحقا على يد الفكر الديني المتشدد. الموجات الخمينية والسلفية والإخوانية كانت جارفة اجتماعيا لدرجة أن الشرق الأوسط الذي نراه اليوم لا علاقة له تقريبا بالشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الاستعمار.

استهدف الفكر الديني المتشدد أولا البناء القيمي الاجتماعي. العادات والتقاليد والأزياء والطعام والشعائر كانت البدايات. اللحية والكلمات الوعظية مفتوحة النهايات والعمامة صارت أهم مما يحمله المثقف أو الحكيم المتعلم أو صاحب خبرة السنين. الأب صار يخشى من ابنه إذا شاهده وقد قصر جلبابه وأطلق ذقنه. مركز ثقل العائلة تحوّل من الأبوين إلى الواعظ الذي يجلس في الزاوية الدينية آخر الشارع، أو لاحقا على شاشة الفضائيات، أو مؤخرا على مواقع الإنترنت والشبكات الاجتماعية. صرنا نسأل الشيخ عن حياتنا ولا نسأل آباءنا أو أخوالنا أو أعمامنا. انتزعت مهابة ربّ الأسرة لصالح العمامة.
ثم جاء دور التعليم. رضخت الدولة العربية الضعيفة بسهولة لتغيير المناهج. اختفى عصر التنوير لصالح الفكر المتشدد، بل وحتى الظلامي. لا نقاش في الحياة المعاصرة، بل دائما تكون العودة إلى السلف وأفكاره ومشاكله وصراعاته. التجسيد الكبير لهذا الانفصام بين درس الفيزياء أو الأحياء مثلا، بالمقارنة مع دروس الدين والتاريخ. ذهب العقل من التعليم وحلّ الترديد.

وصلنا الآن إلى الضربة القاضية: تدمير الحس الوطني. عالمنا اليوم بعيد عن الوطنية منحاز للدين والطوائف والأعراق. الفكر الخميني أو الإخواني يجعل ابن البلد غريبا عنك، رغم كل ما يجمعكما، ويقرّب لك ابن ثقافة بعيدة مختلفة. الطائفة أكبر من الدين. الدين أكبر من الولاء الوطني. التشدد أكبر من أيّ قناعة أو فكر. “الثورة الثقافية” المتشددة اكتملت وهي اليوم في أوجها. الشاهد هو شعوب المنطقة التي تذبح بعضها بعضا بداوعٍ ومسمّيات ما كانت حتى موجودة أو مطروحة قبل 30 عاما. هل يوجد خراب أكثر من هذا؟ هل توجد “ثورة ثقافية” أكثر دموية ممّا يحدث الآن؟

ثورة ماو الثقافية، بفشلها المدوّي وحرسها الأحمر المتبخّر، فتحت الطريق من دون أن تقصد لعملية تغيير كبرى في الصين. لا يتردد البعض في القول إن الصين المثابرة اليوم على التقدم والإنتاج إنما تنتقم من “الثورة الثقافية”. هذا ما يحدث عندما تستيقظ الشعوب الحية.

مثقفنا العربي، أو ما تبقّى منه، مكلّف بأن يصنع يقظة عربية مشابهة تزيح الحرس “الأحمر” الداعشي والثوري والحشدي، أن يعيد المعمم إلى حجمه ويجلسه حيث ينتمي في ركن المسجد أو زاوية الحيّ، أن لا يسمح لمغامر يبيع ويشتري بدماء الناس أن يطلّ علينا من شاشة التلفزيون أو نافذة يوتيوب ليقول لنا كيف نحيا.

نحتاج إلى يقظة قيم ثقافية وليس ثورة دموية ثقافية.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى