“علندى” لزكريا محمد… الذات في مِرجل التأويل

حسن نصّور

“علندى”، مجموعة الشاعر الفلسطينيّ زكريا محمد (مواليد نابلس، 1951) تذكّر القارئ بذلك النثر الذي لا يدين لوزنٍ ولا لقافية بل لإيقاعات داخلية تستدرجُ مزاجاتها من ثيماتِ النصوص ذاتها. نصوصٌ تعكس، في الأرجح، اشتغالاتٍ ممّا يمكن إدراجُه في نمط في تآويل ذاتيّة تتصل، في العمق، بإحياء تشكيلاتٍ ثريّة وفريدة من العبارات. عباراتٌ تحيل إلى مخيال لغويّ سحيق، غائرٍ وتاليا إلى ترميزاتِ لغة حيّة وثمينة. وهو، إلى ذلك، ليس مخيالا ماضويّا صرفا بل هو المخيال الذي يثرى من خلال استدخاله في تأويلات شاقة تبلغ في مستوياتٍ نصّية معينة حدّ الرؤيا. وهي تأويلات لا تحيد كثيرا عن أمزجة الاشتغال أو المسّ الجماليّ اللغوي بالمقدس عبر عرضه مرارا وتكرارا على هذه الذات التي تبدو هنا كأنها كاشفٌ.
نصوص “علندى”، (والعلندى، من كلّ شيء، بحسب المعجم، الغليظ الضخم / مؤنثه علنداة)، ليست بطبيعة الحال، شكلا ومضموما، نمطا غير مسبوقٍ في التعبير الشعريّ الحديث عند العرب. فنصوص صاحب “أشغال يدوية 1990” تحيل، مثالا لا حصرا، إلى بعض أعمال حقبة السبعينيات والثمانينيات، نصوص سليم بركات مثالا لا حصرا. بالطبع مع فارق في مستوى النبر وفي أنماط استدراج التركيب الشعري وطرائق بناء المجازات وفي معايير الزخم اللغويّ.
تكمن جدة هذه النصوص في الثراء المعجميّ والتركيبيّ (الغرائبيّ أحيانا) الذي يصير في الأرجح مألوفا حين يندرج في ما يشبه حضورا متوترا وعاليَ النبر للأنا الشعرية المتكلمة. فالثراء المعجميّ والتركيبيّ ليس في خلاصة البناء الشعريّ سوى أداة تستخدمها الذات للتعبير وإعادة تدوير المزاج الإيقاعيّ النصيّ العام. “أوائل السور هي ما يهمني: طسم، كهيعص، حمعسق. أضع رأسي بين الكاف والصاد. أرمي نفسي تحت البسملة كأنني أرميها تحت عجلات قطار (ص108)، ” أنا في البستان والنخلة عمتي. أنا على حصاني والشمس عمتي. لا تقولوا لي إن الخريف يولد أعمى” (ص16)، “لست قادرا على البكاء. البكاء الذي تسمعونه يأتي من النواعير. الله شاهد على هذا. وهو شاهد على أن الطين على شفتي لأنني شربت من الماء في الثلم” (ص29). “الله يتألم” (ص99)
يشترك التأويل الشعريّ في هذه المجموعة، بتلك النبرة الذاتية، مع مناخاتٍ لا تنفصل، في العمق، عن مناخات أنماط أخرى من التعبير الشعريّ النثريّ. نعني مناخات التعبير الأقصى عن مأزق وجوديّ عميق. على أن هذه النصوص تشتبك مع الوجود في بعدها الأنطولوجيّ بسياقات تكون الطبيعة أو يكون فعلُ الخلق / الإنسان نفسُه مجالا أو محورا لألاعيب المجاز والتكرارات والنداءات وحركات الصدم من خلال استعارات ممتعة أو من خلال صيغ الأمر التي تظهر كأنها اختراق. وهي مناخاتٌ تقترب، حتى في ذروة التوتر، من حدود سحرانية تغدو كأنها مفاتيح لقراءات واحتمالات شعرية لا تنتهي.” لا تؤاخذوني. قلبي فضيحة. ورأسي مثل بطيخة. أعطاني الرب خيطا طويلا، وقال لي: هذا خيطك. اصنع به ما شئت. ولجهلي صنعت زهور بلاستيك وأشسلع نعال وحبال غسيل. كانت هذه خطيئتي” (ص109)، “العدم كلمة ثقيلة تقيم في كتب الفلسفة ولا يمكن لك أن تصطادها في الشوارع. لكن الغربان الترابية ـ لا السوداء ـ تعثر في هذا العدم وتصطاده كما تصطاد العظاءات” (ص103).

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى