مملكة الغيوم ..للكاتب احمد أولاد عيسى

خاص (الجسرة)

 

قضت حكمة الله البالغة أن ينزل مقته وغضبه الشديدين على أهل مملكة “الغيوم” بما قرفوه من عظيم الأمور اقشعرت منها الأبدان وشابت بسببها الولدان حين انتشر بينهم الفسق والشرور على مرأى ومسمع الناس، وشاع الجور والفجور فلم يبادر صغير ولا كبير إلى الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر. إذ كان القوم في سكرتهم قد عموا وصموا فانحدرت بهم إلى قاع الرذيلة والخطيئة .. استباحوا الأعراض وانتهكوا المحرمات، فلم يبق في عرفهم مقدس، ولا في دينهم محرم : اعرض الرجال عن نسائهم وانقلبوا إلى بعضهم على بعض يتفاحشون في جراءة ليس كمثلها إلا جراءة قوم سدوم . ولما يئس النسوة من بعولتهن بدورهن انقلبن على بعضهن يتساحقن في استلذاذ بهيمي.
ولم يفق القوم من سكرتهم إلا وقد حل بهم غضب الله الشديد:فقال لهم كونوا ضفادع خاسئين .
وهكذا مسخ القوم فصاروا ضفادع كبيرة بأجسام قبيحة تعيش في قعر بحيرة واسعة تعلوها ظلمات فوق ظلمات. وغاصت معها معالم حضارة عريقة بالمملكة الشريفة.أما الناس الضفادع فتعالت أصواتهم بالنقيق الموجع تنتحب حظها العاثر تارة ،وتحتج على ما حل بأجساهم من تشوهات مقرفة عافتها أنفسهم هم ،فكيف بمن نظر إليهم من مخلوقات الله الحسنة من خارج المملكة التعيسة.
وبعد طول لأي وقلب رأي برأي استقر الوضع بالضفادع في قعر البحيرة الظلماء فقبل كل ضفدع خلقته الطارئة فصار يخاطب جاره الآخر نقنقة ،ويسعى لقضاء حوائجه سباحة .فنسوا نعمة الكلام ولذة المشي على الأقدام .وفي ذلك تشابهت قلوبهم.ولما علموا أنهم على شاكلة واحدة لا ميز بينهم في الذنب الخارج من العصعص . ولا في الانياب النابتة في طرفي الأفواه المفتوحة على الدوام.
غير أنهم اكتشفوا بالصدفة كائنا لا يشبههم في القبح يكاد يكون أقرب إلى مخلوق هلامي ، فلا هو بالضفدع المعلوم ولا هو بالحوت العظيم.كائن وسيم الخلقة ،مهاب الجانب، موقرا، يسر الناظرين,لا يسحب ذنبا ولا يزعجه نابا.إذا سبح بينهم انساب في اطمئنان .
حارت الضفادع القبيحة في شأنه ورفعته أمره مستفسرة إلى كبيرهم الذي علمهم الفسوق والفجور وكان السبب في غور المملكة إلى غياهب البحيرة الظلماء.فأطلعهم على سر هذا الكائن الجميل.
قال لهم :
– قد كان أعلم الناس في بلاطي .لم يبلغ أحد سنم علمه كما بلغه. ولم يناطحه أحد في مناظرة إلا غلبه.وكان العادل الوحيد فينا ،والرزين الأوحد.لا يقرب فاحشة ولا يأتي منكرا.إلا أنه رضي ما كان منا من فسق ودعارة فناله نصيب من المسخ .
حينها أدركت الضفادع هول خطاياها المقترفة في عالم مملكة الغيوم،فشرعت تذرف الدموع ندما على ما جرأت عليه فتعالت نقنقاتها تستمطر الرحمات علّ الله المنان يعيدها لسيرتها الأولى..
وظلت الضفادع تبكي بحرقة وتتضرع بخشوع إلى الله سبحانه ..لكنها أدركت أن طريق التوبة والغفران على الخطايا ،خطايا قرية”سدوم” طريق طويل طويل..لذا قرر مجمع الضفادع الشروع في العمل وترك سبيل الحسرة والندم.
اجتمعت الضفادع مساء يوم دافي في الطبقة العلوية من البحيرة بجوار صخر مرجاني جميل لتقرر في أمر البحيرة ونظامها. فجاء قرارها على أن تتحول من مملكة الغيوم الظالمة المارقة إلى مملكة برلمانية، يكون فيها الحاكم يسود ولا يحكم.و شرعت في الإعداد لاختيار الأصلح ,وجيئ بصناديق مختلفة ألوانها، شكلتها الضفادع من حبال الطحالب ونباتات البحيرة و أغصان المرجان الزاهية وإن كان البعض مال إلى تنصيب “حضرة الرانشو المحترم” الضفدع العالم كما صاروا ينادونه وحده تعظيما وتوقيرا لعلمه وعدله. وحين جيئ به وأطلعوه على نواياهم خاطبهم قائلا.:
– هكذا تنصبون عليكم طواغيطكم من دون أن تدروا..أجروا الانتخابات وخلوا الضفادع بينها وبين من ترغب فيه.ولا تغصبوها على حاكم لا ترضاه. فإنكم بذلك تبنون اسوار سجنكم الذي لا نهاية له..أجروا الانتخابات النزيهة.فإن فعلتم ذلك شرعتم في بناء صرح مجدكم من جديد، فلعل الله يعيدنا لسيرتنا الآدمية الأولى.
اسرعت الضفادع تنفذ ما نطق به الرانشو الحكيم بكل دقة وإخلاص أملا في استعاد حياتهم الانسانية الضائعة.فجرت انتخابات نزيهة لأول مرة في تاريخ المملكة التعيسة. وجاء الرانشو الحكيم على رأس المنتخبين بأغلبية ساحقة حين عدت أوراق الشجر من علب المرجان والطحالب ،فاستبشرت جموع الضفادع جلها، إلا نفرا قليلا، ودعته إلى تسريع تنفيذ برنامجه الاصلاحي ،وأوكلت إليه تشكيل حكومة ممن يرتضيهم ليعينوه على المهام الجسام.
انكب الرانشو الحكيم وحكومته المنتخبة في تنزيل بنود الاصلاح في محاولة للنهوض بالبلاد وإعادة آدميتهم في أقرب الآجال.نصب الحراس على الطرقات والشعب المرجانية وفي مقدمة المغارات لحماية الضفادع الصغرى من اللصوص وقطاع الطرق .وقسم البحيرة إلى الاقاليم والولايات نصب على كل ولاية من توسم فيهم خيرا.وقطع أيدي اللصوص فعاد الأمن يعم الأرجاء وسن قانون حماية الأمومة فعاشت الضفادع في وئام وسلام .
لكن هذا النجاح المبهر لحكومة الرانشو كان يغيض فئة باغية من الضفادع على ما يبدو. ولذلك ظلت متمردة على كل إجراء تقوم به الحكومة ،متذرعة “بضفدعة الدولة” لذلك قررت عدم الانصياع والدعوة إلى اسقاط شرعية الرانشو الحكيم تارة بالجهر بالقول وكثيرا من الأحيان بالدس والخبث.
اشتغلت الفئة الباغية من الضفادع طيلة فترة عمل الحكومة بشكل متواز،فقامت باتصالات عديدة ختمتها بعرض مخططها على الضفدع الأكثر تشوها في البحيرة المجاورة ،خارج حدود مملكة الغيوم التعيسة .
وبينما كانت حكومة الرانشو تستعرض ما تم انجازه خلال سنة من الحكم الرشيد في البرلمان المنتخب ،والناس في حبور وخشوع وتضرع ودعاء استدرار للرحمات الإلهية كي تعمهم فتعيدهم إلى سيرتهم الأولى ،واعترافا بالعرفان للرانشو الحكيم قرر الناس في الممكلة اهداءه أجمل ضفدعة بالبحيرة في يوم زفاف جميل .
أعدت المنصات وتعالت أصوات الضفادع بالغناء فرحا بالزعيم المحبوب. وزفت العروس في موكب بهيج إلى قصر الحكيم. وحين كانا يلوحان للناس من الشرفة يستأذنانهم بالخلوة بنفسيهما ،كانت الفئة الباغية تترصد الموقف فانقضت عليهما في غفلة من بقية الحراس.
وفي الغد استفاقت الضفادع على هول المفاجأة: لقد نصب “زوناكوس البشع ” نفسه حاكما مطلقا في مملكة الغيوم التعيسة إلى الأبد.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى