شعرية وداد نبي الهادئة تحاكي البيوت والفقد والحب والحرب

فهد العتيق

نص وداد نبي في عملها الجديد «الموت كما لو كان خردة» ذاتي، لكنه ينطلق من معانٍ موضوعية وإنسانية رفيعة القيمة، وهو في هذه الأجواء المدهشة والحميمة يعّبر عن ذاكرة تستعيد التفاصيل الصغيرة المنسية والعادية والعابرة والمهملة، بمقدرة شعرية ماتعة في هدوئها وبساطتها وعمقها.
قصائد الديوان تكشف عن محاولات مبدعة وخلاقة لاستعادة لحظات الهرب من حرب بلا قيمة، وذلك من طريق ذاكرة شعرية جوهرها لغة رشيقة وقيمة إنسانية عالية وروح تائقة للهدوء والسكينة والجمال، حتى أقفال الأبواب وحبال الغسيل التي تركوها تحولت إلى قيمة ومعنى، تركوا ثيابهم على حبال الغسيل، والبيوت بقيت مفتوحة الأبواب، تناديهم كيف تركتم القفل بلا مفتاح، والغبار أيضاً على أجراس المنازل، المنازل الذي تسكنها الحرب، لكن أرواحهم ستبقى مثل ذئاب تدور وتعوي كل ليلة على أدراجِ بيوتهم القديمة.
لهذا سوف تدور هذه الانطباعات حول جمال شاعري مُوْحٍ يحيط بنا من كل جانب ونحن نقرأ هذه القصائد المدهشة للشاعرة السورية الكردية المبدعة وداد نبي، بداية من الهجرة أو النزوح من مكان الولادة والنشأة والطفولة بسبب الحرب، والذي لم يحوّل لغة وداد إلى لغة مباشرة وناشفة وحاقدة وشاتمة ومحاربة، لكنه حوّلها إلى روح في قمة التجلي الإنساني وهي تعاتب نفسها كيف تركت بيتها مفتوحاً بلا قفل، فحين نواصل المسير مع هذه القصائد، نلاحظ أن سمات العمق والإبداع والإيجاز تبدأ في الارتفاع شيئاً فشيئاً، لتملأ وقتنا بصور ومشاهد تؤنسن بيوت وأبواب تنادياها بقوة وألم: البيوت التي بقيت مفتوحة الأبواب.. كانت تنادينا كيف تركنا القفل بلا مفتاح».
الذاكرة تبوح بتفاصيل الحياة اليومية البسيطة والصغيرة جداً والمهجورة بسبب الحرب، وهي تفاصيل مهملة دائماً، أو يتم تجاهلها في السلم وفي الحرب، وهنا تكمن خصوصية النص عند وداد نبي، أو امتيازات النص لديها، تتكشف لنا في مشهد عادي ومألوف ومهمل، ترفعه ذاكرة إنسانية قوية بشكل مؤثر، لهذا يبدو الموت في قصائد الديوان كشيء لا معنى كبيراً له، شيء معتاد مثل خردة، مقابل حالات الحب والحرب والفقد والحنين التي تلوّن جدران الديوان بألوان فيها شجن تجلّى بمخيلة شفافة في كشف عذاب روح فقدت معناها ومكانها وأهلها وحبها بسبب حروب بلا معنى.
الهدوء والبساطة والعمق في لغة وداد نبي تكشف وعياً بتقنيات الكتابة الحديثة، لغة تعتمد الإيجاز والتكثيف، إضافة إلى المعنى العميق لحالات إنسانية في واقع شديد القسوة، ومن خلال ذلك الثالوث الجمالي، يرتفع مستوى النص إلى آفاق أدب رفيع فعلاً، وينزل هذا الشعر إلى الأرض مقترباً من السرد قليلاً ومن أسئلة وهواجس الناس، ويتحول إلى ما يشبه الكلام الموحي والأحلام اللذيذة التي تذهب إلى المعنى بطريقة إيحائية فيها ترميزات إنسانية وحس مأسوي بلغة سهلة فيها موسيقى تعزفها روح عذبة تائقة إلى الهدوء والاستقرار والسلام والجمال والحب.
ويمكن الإشارة إلى أن الشاعرة في قصائدها تلمس روحاً جديدة في التعامل مع حالات الحرب وتداخلها العميق مع حالات الحب، القصائد فيها هموم الناس وقضاياهم، من خلال أسئلة مؤلمة وأحياناً ساخرة، لهذا يمكن القول أنه ليس كل أدب مهموم بقضايا الناس وأسئلة الواقع هو بالضرورة أدب تقريري ومباشر ومؤدلج كما يذهب بعض النقد، فهذه القصائد فيها فنٌّ عالٍ ولغة مبدعة وهموم إنسانية رفيعة.
قرأت قصائد الديوان بمتعة، واستوقفتني قصائد تسيل من روحها حكايات شجن وحنين لبيوت أليفة هجروها، حنين للمكان ولماضٍ مضى وانقضى، وكل هذا يتم بلغة عذبة تطرح أسئلة صعبة عن حالها وحال الوطن، لغة فيها سحر بسبب من بساطتها وقوتها في وقت واحد، الشاعرة تصف لحظة الحنين بهدوء وواقعية من دون تكلف أو ما يبدو أنه صنعة، روح شاعرية فيها براءة وعفوية ترشح من لغة في داخلها غضب على ما يجرى من عنف حولها جعلها تترك المكان والذكرى: «المسافة، جغرافيا قهرٍ، تفصلُ مدينتين بينهما آلاف الأميال، في الأولى تركتَ ثيابكَ على حبلِ الغسيل، وفي الثانية تمدُّ يدكَ في الهواء، لتلتقط ثيابك من شرفة الأولى».
هذه الروح الشاعرية القلقة مليئة بأسئلة قد تبدو بسيطة، لكنها كبيرة تتجلى في يد لا تزال عالقة على جرس بيتك القديم على رغم تركها له منذ مئات الأميال: «يدكَ العالقة على جرسِ بيتكَ القديم، من يُخبرها، المنازل ليستْ لمن رحلوا عنها».
هي الظروف التي جعلتهم يرجمون قلوبهم بحجارة كوباني، في تصوير بالغ الأسى لحال من يترك بيته لغرباء سرقوه بالقوة، وتتحول القصيدة إلى ما يشبه القصة، أو هي القصيدة على وشك القصة بضمير المخاطب في هذا المقطع الجميل: «لربّما دعوتك لفنجان قهوةٍ وقصيدة شعرٍ، وأقنعتك بالغابة والحبّ والتخلّي عن السلاح، والذهاب معاً لبساتين حج رشاد، على طرف كوباني، للحديث عن نساء كوباني وهنّ يتسوّقن الحبّ كما اللباس من شارع التلل، وعن أسماء أطفالك، لكنّ توقيت موتك، طريقة موتك، صوغ حقّك بالموت كرمى لمدينةٍ انتمينا لها بالروح والجذور».
ثمة حس إنساني كبير يسري في عروق القصيدة، وثمة وعي بالمأساة التي تضرب أطنابها في ديار الأهل بلغة سلسة وعذبة عن البيوت والحب والحرب تتماهى في حالة واحدة: «لو كنتَ عاشقاً، لتمنيتَ أن تكون غباراً على جرسِ منزل حبيبتكَ، المنزل الذي تسكنهُ الحرب».
الحب المفقود هو عمود الخيمة في قصائد وداد نبي، حالات الحب والحرب تأخذ مساحة من القصائد، لكن الجوهر هنا هو بيت قديم فقد أهله وفقده أهله، ولم يكن البيت الجديد قادراً على الحلول مكانه، والشاعرة في هذا المقطع الشعري الرفيع تخبرنا بالشعر أن الروح هي وطن الشاعر، وهي ملاذه، وهي التي تقوده إلى البيت القديم المفقود: «الحياة لنْ تكون بهذا السوء، ستمنحكَ بيتاً جديداً، لكن روحكَ ستبقى ذئباً، يعوي كل ليلة، على أدراجِ بيتكَ القديم».
في السابق وأنا أقرأ الكثير من القصائد، كنت أشعر أنها خفيفة وجميلة، وكنت أسميها قصائد سياحية، كنت أشعر أنها ناقصة، قدرة تعبيرية وعبارات رشيقة وخيال جميل، ثم في النهاية ليس هناك معنى أو قيمة أو موضوع أو رؤية فكرية تجعل النص يبقى في الذاكرة، لكن مع قصائد وداد نجد ذاتية عالية وواضحة، لكنها منطلقة من معانٍ موضوعية وإنسانية رفيعة القيمة ورفيعة الأدب. وأخيراً يمكن القول أن تجربة وداد نبي هي تجربة البحث عن ذات ضائعة، بحث عن مكان مفقود، وأيضاً بحث عن زمن مفقود، تشترك في أسئلته المؤلمة مع الكاتب الكبير بروست في روايته التي تتكون من مليون كلمة: «البحث عن الزمن الضائع».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى