“السلام الأخضر” .. سيرة الارتباط والتأرجح

قيس قاسم

أراد المخرج “جيري روثويل” توجيه تحية إلى الراحل “بوب هانتر” أحد مؤسِّسي منظمة “السلام الأخضر” عبر عمل سينمائي يحكي تجربته الشخصية ويوثِّق إسهاماته المهمة في تأسيس واحدة من أهم المنظمات المدافعة عن السلام العالمي ودرء المخاطر المهددة للبيئة، مستنداً في فيلمه؛ “كيف يُغيَّر العالم” على نص كتبه “باري بيبري” وعلى كم كبير من الخامات الأرشيفية المصورة، التي تغطي رحلة أربعين عاما، ورغم متانتها التوثيقية أرفقها بمقابلات مع عدد من رفاقه الذين بدأوا معه مشواره وأجمل في ما معالجته الدرامية لأحاديثهم، اعتماده المونتاج الموازي وسيلة لعرض صورهم الشخصية والعامة كنشطاء بيئيين عاشوا مرحلتين؛ الحالية وقد بلغوا من العمر عتيا وأخرى حين كانوا شباباً بكل قوتهم وعنفواهم، خاضوا صراعاً مريراً ضد سياسيين متنفذِّين في دول متنفذة وضد كبار أصحاب المشاريع الاقتصادية ولم يبالوا بالخطر الذي كان يحيط بحياتهم ولهذا تبدو صورتهم المتشكلة سينمائياً؛ وكأنهم بشر ينتمون إلى عالم مختلف، يمكنهك التضحية بكل ما يمتلكونه من أجل قضية يرونها عادلة وتستحق المخاطرة.

وضع “هانتر” خمس قواعد عمل اعتمدها صاحب التحفة الوثائقية “مياه عميقة” (حول المغامر ورجل الأعمال الإنكليزي “رونالد كروهورست” الذي مات خلال سباق اليخوت لقطع المحيط وحيداً وقد رافقه في تجربته الإخراجبة “لويس أوسموند”) اعتمدها وسيلة لتقسيم زمن فيلمه (البريطاني ـ الكندي الإنتاج والحائز على عديد الجوائز) ليتيح لمشاهدي فيلمه فرصة التعرف على مراحل حياته ومسار المنظمة التي عنون فصلاً لها “الثورة لا يمكن تأطيرها بتنظيم” وكأنه يراجع بها مجمل تجربته ويدعو إلى إعادة التفكير بها وربما إلى إلغاء هيكلتها بوصفها وسيلة لا تناسب العمل “الثوري” وتؤدي غالباً إلى تحطيمه لما فيها من إغواء شهرة ومال.

قصة “بوب هانتر” مع “السلام الأخضر” تُسرد بصوته وبصوت المشاركين معه وستأخذ بإضافة التفاصيل الشخصية إليها شكل مذكرات سينمائية خامتها الصورة. تبدأ من طفولته وتنتهي بمماته عام 2005.
يخبرنا الكندي “بوب” بحبه للرسم منذ طفولته والانتباه الشديد لكل ما يحيط به وفي اللحظة التي دخل فيها مدرسة الفنون شاباً كان هناك أكثر من خمسين ألف صاروخ محملة بنووية منصوبة على حدود البلدين العملاقين: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية. لقد تحول الحلم الأمريكي بسبب الحرب الباردة والتجارب النووية إلى كابوس ولهذا قرر ترك الرسم لفعل شيء يُغيّر به الواقع المفروض على الجميع. لاقت فكرة الكتابة “الاحتجاجية” قبولاً عنده أكثر من غيرها من وسائل التعبير عن أفكاره. في المفتتح الاستهلالي يضع “روثويل” خلفية تصويرية لها تحكي عن مشروع “تجارب كانيكين” للقنبلة الذرية ثم يرفقها بصور لجزيرة “أمتشيتكا” في ألاسكا، التي تجري التجارب على أرضها. بالمقدمة الموجزة والاستهلال التوثيقي نشرع في متابعة مراحل حياة رجل سيُغير حقاً في العالم وستكون أفكاره موضع قبول جماهيري في كل مكان.
من كتابة التعليق في صحيفة “فانكوفر سّن” الكندية انتقل لتغطية الأحداث الخاصة بالتجارب النووية وكتب تحقيقاً عن بعض تلك التي كانت تجري في المحيط الهاديء وتحاط بسرية عالية. صادف خلالها أشخاص رافضين لسياسة الرئيس الأمريكي “نيكسون” من مختلف الانتماءات والتيارات الفكرية: هيبيز، يساريين، بوذيين رافضي الخدمة العسكرية وغيرهم من الداعين لوقف التجارب. سيقول عنهم لاحقاً “هؤلاء غيّروا حياتي”. كانت مدينة فانكوفر الكندية قِبلة الأفكار التجديدية والليبرالية وموطن الهاربين من قمع بلدانهم إليها، وبالنسبة إليه كانت “المكان الصحيح ووجوده فيها كان في الوقت الصحيح، وفيها سيضع أولى قواعد عمله: “زرع قنبلة فكرية”.

من الخوض المعمق في تفاصيلها سنُذْهل من فهمه المبكر لدور الصورة في التغيير. آمن “بوب” بقوة تأثيرها على عقول البشر وبمصداقيتها، لذلك وبعد اتفاقه مع مجموعة من العلماء والمصورين الفوتوغرافيين مثل صديق عمره “ريكس ويلر” قرروا تشكيل النواة الأولى لمنظمة “السلام الأخضر” المستمدّ من اسم القارب الصغير الذي أبحروا على متنه أول مرة لمواجهة أساطيل صيد هائلة الحجم. راح “بوب هانتر” يوثق كل محاولاتهم الجريئة والواعية مستخدماً أحدث تقنيات تسجيل الصورة والصوت في وقته، بل ساهم هو ومن معه من تقنيين في ابتكار وسائل خاصة بهم ساعدت العالم على رؤية ما كان يجري في عمق المحيطات من جرائم ضد الإنسانية والطبيعة. أما النقلة الكبيرة في تجربته على المستوى الفكري فتمثلت في جمعه بين الاحتجاج على التجارب النووية ذات الطابع العسكري السياسي وبين الجرائم التي كانت تُرتكب ضد الطبيعة ولا يعرف الناس الكثير عنها.

يكرس الوثائقي فصلاً طويلاً لمرحلة التركيز على عمليات صيد الحيتان في المحيط ليقدم تصوراً واضحاً على طريقة تفكيره وعمله ودور كل واحد من رفاقه في مغامراتهم التي عرّضوا خلالها حياتهم للخطر، بكل ما للكلمة من معنى. صورّوا بكاميراتهم المحمولة المجازر التي كانت ترتكبها إحدى سفن الصيد الروسية بالقرب من المياه الدولية الأمريكية، وكيف تمكّنوا من طردها وتحرير الكثير من الحيتان من شباكها العملاقة وإبعادها من مرمى سهام مدافعها القاتلة. نقلوا مشاهد المواجهات إلى العالم بالصوت والصورة، وحين عادوا منها استقبلهم الناس استقبال الأبطال فكان من المنطقي الانتقال إلى القاعدة الثانية: “الحضور الجسدي أكثر من الكلام”. كان لابد من التواجد في مكان الجريمة ليكون المرء حقاً شاهداً عليها.

قاعدة سيدفع ثمنها المغامرون الشجعان الكثير من صحتهم وأتت في أحيان كثيرة على حساب عوائلهم وأطفالهم. كل رحلة وسط البحر كانت تأخذ وقتاً طويلاً يعيش خلالها الشجعان تحت ظروف غاية في الصعوبة. عانوا من جوع وعطش وواجهوا خطر الموت غرقاً أكثر من مرة، فقط من أجل أن يعرف العالم ماذا يحدث خلف ظهره. بوجودهم على الأرض لم يُبقوا عذراً لأحد التعكُّز على “الجهل” لتبرير تقاعسه. لقد وضعت “السلام الأخضر” العالم أمام مسؤولياته وأجبرته على الاعتراف بها كحركة إنسانية تهدف لحماية الأرض والأجيال القادمة من بشر والكائنات الأخرى من الدمار والإنقراض. المدهش أن تسجيلات مواجهاتهم قد أُخذت معظمها من زوايا تصوير صحيحة وتم تسجيلها على أشرطة نظيفة، مشاهدتها اليوم تبدو كما لو أنها صُوِّرت بالأمس القرب وعلى أيدي مصورين سينمائيين محترفين ما سهل عمل المونتير ووفر للمخرج فرص اختيار اللقطات الأكثر تعبيراً عن اللحظة التاريخية وبما يتوافق مع القاعدة المبنية عليها.

القاعدة الثالثة: النجاح يُثمر تراجيدية، يعبر عنها “بوب” بكلمات مختصرة “في”فانكوفر” تغيرت حياتنا دون أن ندري. لقد وقفت ذواتنا عقبة في طريقنا!”. تحول الابتهاج بحلاوة النجاح والشهرة وتحقيق الأحلام الثورية في الوقوف أمام وجه الظلم والاستغلال الذي ساد في المرحلة الأولى من تجربة “السلام الأخضر” إلى هوان وضعف راحا ينخران جسدها. المجموعة الفقيرة صار عندها مصادر دعم غير محدودة، توسعّت حملات جمعها التبرعات ودخلت إلى ميزانيتها أموالاً لم يحلم قادتها يوماً أنه سيكون بمستطاع منظمتهم الحصول عليها وخلال فترة وجيزة. التوسُّع نفسه كان سبباً في انقسام القيادة وفي أطماع آخرين راحوا يفتحون مكاتب باسمها بعيداً عنهم، وما يحصلون عليه من مداخيل كان يذهب إلى جيوب مدرائها ولا يصل إلى المركز إطلاقاً. جرّ الوضع السلبي النقاش الداخلي إلى التفكير في التحول إلى مؤسسة تشرف على الفروع في حين كان رأي آخرين أن هذا العمل يقف بالضد من مبادىء منظمة ثورية لا يمكنها التحرك وفق سياقات إدارية تقليدية. في تلك المرحلة تعرض مؤسسها إلى ضغوطات كبيرة دفعته لإدمان المخدرات والمُسكرات.
ضعفه شجع بعض رفاقه على المضي في نهجهم المتشدد إزاء الشركات المُستَغِلة للموارد البشرية والطبيعية في حين راح “بوب” يفكر ـ بوصفه قائداً ـ بتقديم بعض التنازلات إلى الدول التي رعته في البداية، وكانت أزمة صيادّي “الفقمة” الكنديين واحدة من المؤشرات على الانقسامات الحادة. في الفصل الثالث بدت قاعدته سوداوية وأخذت أبعاداً شخصية أكثر. الأعضاء الذين أصرّوا على صبغ جلود الفقمات بألوان قوية تعدم صلاحية بيعها مضت في طريقها والمجموعة الثانية ركزت على الحيان كما كانت من قبل. اعترافات “بوب” لزوجته وأصدقائه المقربين بحالة الإحباط التي كان يشعر بها وتدهور حالته صحته تعد من أكثر فصول الوثائقي إيلاما وتُظهر كيف يمكن لمنظمة ثورية وعندما تتسع رقعة عملها أن تتحول ضد نفسها.

ستدفع الأمور مؤسسها للإعلان وكخطوة استباقية عن نهاية حركة واعدة: “الثورة لا يمكن تأطيرها بتنظيم”. ستشهد “السلام الأخضر” فترة منتصف السبعينات اختراقات كبيرة من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية التي راحت تساعدهم وتقدم المعلومات الضرورية لتحرّكهم ضد أساطيل الصيد الروسية في حين امتنعت عن فعل نفس الشيء مع اليابانية ما وضع قادتها في موضع الإحراج وكان لا بد من مراجعة التجربة بأكملها حتى إذا اقتضى الأمر تغيير وجوه قادتها. قدم “بوب” استقالته وتفرغ لعائلته وطفلته فيما البقية توزّعوا على كتل وتيارات. أدرك الرجل المؤسس أن الذات البشرية الأنانية وراء الكثير من الانقسامات لهذا راح يراجع نفسه ويراقب ما يجري حوله عن بعد، فدخول المعمعة لم تعد تعينه عليها صحته ولا التزاماته العائلية. كان عليه أن يترك المكان لغيره ومن هنا جاءت القاعدة الخامسة: “أترك السلطة!”.

تخلى عن مسؤولياته السابقة، وتحت إلحاح محبيه وضغوطات أعضاء المنظمة ظلّ عضواً فيها “لن يترك القارب ربابنته لحظة مواجهته العاصفة” هكذا كان يقول للصحفيين ويكرر القول مبتسماً في محاولة منه لعدم إظهار مقدار السوء الذي وصلته المنظمة والذي انعكس على نشاطاتها وكان لا بد من العمل على استعادة قوتها أو على الأقل منع غرقها. اتسّم الفصل الخامس بجمعه بين اليأس والإحباط من جهة وبين الأمل والتعافي من جهة أخرى وقد لعب المرض ومشاركة ابنته في نشاطات احتجاجية كالتي كان يقوم بها، أعادت له الحيوية رغم المرض، الذي بدأ ينخر جسده.

عادت المنظمة مرة أخرى بعد اسيقاظ القيادة وإبعاد الجوانب الشخصية جانباً، لكن “بوب” لم يعد قادراً على عمل شيء فقد مات عام 2005 بعيداً عن المواجهة ولتمجيد ذكراه ذهب فريق من رفاقه مع ابنته لتنفيذ وصيته؛ حيث تم ذرّ رماد جسده الفاني في القطب الشمالي، الذي طالما حلم بالوصول إليه لكن مشاغله وكفاحه العنيد لم يتح له الفرصة لتحقيق ما كان يصبو إليه. يراجع الوثائقي مسودات كتابته السينمائية ليجد أن أجيالاً من النشطاء شرعوا بالظهور خلال عمل المنظمة ما يشير إلى ديمومة أفكارها وما حققته على المستوى العالمي من إنجازات حدّت عملياً من جشع أصحاب شركات الصيد العملاقة وغيرهم من مدمرّي البيئة والإنسان إلى جانب التغيرات السياسة التي قلّصت التجارب النووية إلى حد معقول بفضل كفاح أعضائها المؤثر في توسّع حركة السلام العالمي. كل ذلك يؤكد أن مسيرة الرجل الشجاع ومنظمته قد وضعت أسساً صحيحة وأن منجز المخرج “جيري روثويل” قد أسهم في كتابتها سينمائياً متيحاً لمن يرغب في قراءة سيرة المنظمة وأحد أهم مؤسسيها على الشاشة فرصة نادرة.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى