«بيكاسو كافيه» لسامية العطعوط… الإنسان والمكان فيض من خراب

رامي أبو شهاب

للكاتبة الأردنية الفلسطينية سامية العطعوط تجربة إبداعية تختزلها مجموعة من الأعمال القصصية والشعرية التي حاولت من خلالها الكاتبة التعبير عن قضايا يتصل معظمها بإشكاليات الإنسان والوطن والمرأة.
غير أن هذه الأعمال تتميز في المجمل بقدرة سامية العطعوط على تكريس صوتها الإبداعي بوصفه حالة منفردة في تشكيل الخصائص الخطابية التي تميز إبداعها. في هذه المقاربة نسعى لاكتناه مجموعة قصصية «بيكاسو كافيه» التي تنهض على جملة من السّمات التي يمكن أن تقودنا إلى توصيف تجربة سامية العطعوط في مجال الكتابة القصصية، ولكن من منظور توظيف أنماط من التعبير الجديد القائم على سياقات زمنية – مكانية ـ موضوعية – ذاتية، وبوجه خاص في حضرة انعطافات تاريخية مهمة شهدتها المنطقة العربية.
في مجال كتابة القصة تنبثق جملة من الأسئلة التي يهدف المبدع إلى تضمينها في عمله الإبداعي، ومنها ما يتصل بمستويات ثقافية تنفتح على أسئلة تتجذر في المكان أو الزمن، علاوة على مبدأ التغير والتحول المستمر في عالم لم يعد يستجيب للسكوني… حيث تتردد الخطابات الإبداعية أو المنظورات بين الماضي والحاضر، ما يعني أن ثمة عالماً ما زال يكمن خلفنا، وهو ما برح يعيد تشكيلنا… فعدم القدرة على تجاوز ما مضى يشير بطريقة أو بأخرى إلى أننا عالقون في واقع أو حاضر هو نتاج الماضي الذي ربما كان المسؤول عن هذا القلق، وعدم انجلاء الصورة لمستقبل مشوش، هكذا بدأت تتشكل أنساق من الكتابة المعاصرة التي تحضر فيها الأسئلة الجوهرية متجاورة، تتردد بين الحاضر والماضي، مع لون رمادي يطغى على صورة المستقبل.
وفي زمن تقدّم الرواية حيث أضحت مجالاً مفضوحاً للكتابة الإبداعية المعاصرة التي سقطت في كتابة المناسبات والبحث عن فضاءات جالبة للشهرة والجوائز، ما أدى إلى تراجع بعض الأجناس الفنية على حساب ظاهرة الرواية، غير أن ثمة كتاباً ما زالوا قادرين على تكريس نموذجهم الفني والإبداعي ضمن وعي حقيقي، بالتجاور مع الالتزام بالجنس الملائم للطروحات التي ربما تحتاج إلى تشكيل فني يتجاوز توصيف بعض الظواهر العابرة، والآنية في مجتمعاتنا المعاصرة، ومن ذلك ما نعاينه في المجموعة القصصية التي اجترحتها سامية العطعوط، والتي تدين في تجربتها المتجددة إلى أدوات فنية حقيقية، بالإضافة إلى تمرسها بالكتابة، كما أن المجموعة تنطوي على تساؤلات كامنة ما زالت دافئة، أو ناضجة، إذ لا تندرج في البحث عن أضواء ربما تنحسر بعد أن تنتهي ظاهرة ما هنا أو هناك، وهكذا تبرز في هذا السياق قيمة الكتابة التي تنتهي إلى ذاتها، وإلى تحليل مكامن الخلل في الضمير الإنساني بمعزل عن أي رهانات أخرى.
في مجموعة قصصية خطتها سامية العطعوط، نشرت في عام 2012 بعنوان «بيكاسو كافيه» نقع على جملة من الخطابات القصصية العابرة للتشكيلات الفنية كما القضايا، وكأننا في مزيج متصل بعوالم متداخلة، ربما متنافرة، أو متعارضة، غير أنها في الكلية تستسلم لتلك النبرات التي تميز اللغة في خطاب قصصي تغمره أجواء نابضة بالحيوية، وعدم الاستسلام للتردد في الكتابة عن هدف أو قضية ما؛ ولهذا تبرز هذه المجموعة بتواصلها وبإيقاعها، ولكن نحو تواتر واطراد الموضوعات والقضايا، كما ترتيب الفضاءات التي تتداخل بين الماضي والحاضر، أو بين الجغرافيات المتعددة، كما الذوات. ولعل السمة الدلالية للعنوان «بيكاسو كافية» يشي بازدواج بين منطق تجريدي يحيل إلى مقهى يتواجد في القاهرة، أو عمان، أو في أي بقعة من العالم، وبين نمط إنساني لعالم منعزل، يمارس فيه الفنانون والكتاب نموذجا للحياة، أو للاتكاء على فائض من القيمة المنقوصة لعالم لا يحفل بهم، المقهى الذي ربما يتعرض للقصف، إذ تتحول أرجله الخشبية إلى عكازات يتوكأ عليها من يحتفون بالتعبير، وصخب الأقلام، ذلك المقهى يعني نموذجاً للمجرد والطارئ كما الاختزال الذي مارسه بيكاسو في لوحاته التي تخلصت من قيم الزائد في التعبير. وهنا يلاحظ أن ما يميز مجموعة « بيكاسو كافية» ذاك القلق، مع شيء من الحيرة، وقدر غير يسير من السخرية، وكأن القصص تتوالى في سخريتها من العالم، ومن الإنسان، كما الأوطان إلى حد أن ثمة سخرية من الذات الكاتبة أو الساردة التي تخترق المتن في أداء تعبيري يتصل بمستوى منه بالميتاقص، كما في عدد من قصص هذه المجموعة.
لا يمكن لمقالة واحدة أن تختزل تشكيل عالم سامية العطعوط القصصي، غير أننا نضيء عدداً من القصص والأجواء النابضة في قصص، تتخفف من كافة الحوائج القصصية التقليدية، وبهذا فإن البنية القصصية تحتفي بالسرد، غير أن تكوين الشخصيات لا يستغرق وقتا طويلاً لكون الكاتبة تنطوي على أو تمتلك وعياً بتوظيف عدد من الاستراتيجيات الفنية حيث تكتسي شخصياتها، أو مواقفها عمقاً على الرغم من الاختزال اللغوي، والمواقفي للبنى القصصية التي تتعرض إلى التكثيف في عدد كبير منها، كما أنها تنفتح على جملة من الإضاءات أو لحظات التنوير التي تكتسي قوة دلالية من خلال عنصر المفارقة التي تشتغل عليه الكاتبة بطاقة قصوى. فهنالك وضعية قصصية باعثة على تفعيل أسئلتنا الخاصة كقراء، إذ تترك الكاتبة جزءاً من ذاتها الأنثوية في عدد من القصص، غير أنها تبدو كمن يتقن التقنّع أو التلثم في ذوات أخرى، ربما في مجتمع، أو شخوص، أو شارع عربي يبدأ من مدينة عمان مروراً ببيروت، وانتهاء بغزة، ومع أن المجموعة تستهدف في جزء من خطابها توصيف السوء الفائض في مجتمعاتنا العربية، غير أنها تترك مجالا واسعاً للسخرية من المجتمع بنمطه التقليدي، بالإضافة إلى نقد المسلمات، ونماذج من التاريخ، والأساطير التي نرعاها في يومياتنا كأنها مقدرات متعالية.
في قصص هذه المجموعة، تتجسد أفعال المزج بين الكتابة القصصية المستندة إلى تقاليد كلاسيكية والكتابة القصصية الجديدة التي تنزع نحو فكفكة والتحلل من بعض العناصر القصصية الثقيلة، وبهذا فإن ثمة إدراكاً لكيفية تشكيل النسيج القصصي، كما ثمة قدرة على توجيهه نحو نماذج متجددة لا تحيل القارئ إلى أجواء بائدة من الكتابات التي لم تتمكن من التقدم مع الزمن، علاوة على تجاوز السقوط بالكتابة، أو الثرثرة المجانية التي يستهلكها الكتاب الطارئون على الكتابة القصصية، أو السردية بشكل عام. من القصص التي شكلت منعطفاً في توصيف بعض الظواهر في المجتمعات العربية من منظور جغرافي تلك القصة التي تتناول تمثيلات المواطنة في بعض الدول العربية بعنوان « مواطن من الدرجة العاشرة»، والتي تحتفي بالعرق، والأصل، ومكان الولادة، كما التصاريح الخضراء أو الصفراء، ما يعني أن الكاتبة أدركت حدوداً من إشكاليات البشر الطارئين والمحاصرين بالتمثيلات المناطقية جراء واقع جيوسياسي، وهنا تتجلى حقيقة الطرح لمناقشة التصنيف الممارس على المجاميع البشرية التي ضاقت بالحصار المواطني المنقوص نتيجة ذاكرة الماضي، إذ يطالبهم البعض بنسيانه لتحقيق الاندماج، وإظهار الولاء والمواطنة، ولكنهم سرعان ما يطالبون به لممارسة التصنيف بهدف تحديد أولويات الوجود، وقيمته تبعاً لمكان الولادة، أو غير ذلك.
هنالك كتل من التقييمات الرمزية لقصص تحاذي تشكيل مجتمع المخيمات التي تعكس تشوهات واضحة، غير أن الكاتبة قاربتها ضمن تقييم فني يعتمد الرمزية، كما في قصة « شريط نانسي عجرم»، وكما أيضاً في نقد بعض القيم السلبية في المدينة العربية، ومنها قصة الأحدب الذي اعتاد الخنوع، وهذا إحالة إلى أنماط من تشكيلات الإنسان العربي ضمن حدود الاستسلام لنهج استجلاب الحياة، ومع أن القصة تتجه إلى نهاية مغايرة من خلال الكاتبة التي اقتحمت نسيج النص لتخليص الأحدب من خنوعه عبر دفعه إلى المشاركة في بعض المسيرات، التي جعلته ينتصب مرة أخرى، أو تنتصب هامته مرة أخرى. في فضاء آخر، ونعني مدينة بغداد التي تحاصرها الكاتبة في نماذج قصصية تحيل إلى فناء قيمي داخلي، يحول المدينة إلى مردود سلبي حيث ينتشر الموت والخراب، فتتحول البرتقالة بعد شقها إلى مصدر للدم الذي لا ينضب كما في قصة «فاكهة»، أو كما في قصة «دشداشة أسفار» التي تعكس نموذجاً سوداويا لفائض الموت والبؤس والعبث الذي يجتاح المدن العربية، علاوة على افتقارها للجمال والحياة، وكأن الكاتبة تقودنا إلى مختصر أو دليل بؤس لعالم عربي، تتشابه ملامحه على تنوع مدنه، وكما في قصص أخرى، امتثلت لواقعية بغداد التي خرجت من حدود الطبيعي إلى حدود الشذوذ في إنسانيتها التي تحطمت بفعل الحروب التي طالتها. هذا النسيج من القص اتسم بالاختزال والتكثيف حيث ميزه بوضوح الاتكاء على أفعال من الصدمة والبنى المبسطة لتشكيل قصصي ما أن يتصاعد، ويبدأ بالاكتمال حتى تسعى الكاتبة إلى تفريغ الشحنات العاطفية، ونسف كافة المتعلقات التي ينتظرها أفق التلقي، وهذا ما يتطابق مع الأجواء العامة للقصص التي تختزل لوحات البؤس، ولكن بإيقاعات قصصية تتطابق والواقع المبتور، أو غير المكتمل، فالتنوير، وقيم المفارقة سمات محورية في كتابة سامية العطعوط التي تنقلنا إلى فضاء آخر أصابته حمم وبراكين الموت الذي انتشر في كل مكان، ولعل المجموعة تحيل إلى مركب أقرب إلى الطاعون الذي قرأنا عنه في رواية البير كامو حيث تتسع دوائر من العطب النفسي التي تختزنها المجتمعات العربية التي لم تعدْ تكترث بالطفلة «ضحى الداية» إحدى شهيدات حرب غزة 2008 وغيرها من ضحايا نتاجات العقلية العربية التي لا تبالي بفائض الموت الذي ننتجه سنوياً. هذه الطفلة تجسيد لسلسلة غير متناهية من صورة الموت، وتصديره إلى المخيلة أو الذاكرة العربية التي تبدو مصابة بجرثومة الفناء، كما نبذ المعاني الإنسانية التي تتخذ تجلياتها في القصة عبر المزج بين تطبيقات المعاصرة الخطابية التي تمزج المكتوب بالمصور، أو الصورة، وهذا إشارة إلى بعض الصور التي تضمنتها المجموعة، مما يعني فعلاً من أفعال الإفادة من هيمنة التكوين البصري في دفع النص إلى حدود التعبيرية القصوى.
المجموعة معنية أولا باستحضار الفائض من ثقافة القتل والموت حيث الابتعاد نحو المقهى، الذي أصبح ملاذاً للحؤول دون أن ينتشر الجنون، إنها أفعال من المطابقة بين الصمود والخذلان، أو بين جدار يسقط، وجدار آخر يشيد، فبرلين تنهي عالمين، في حين أن عوالم أخرى تتشكل في فلسطين التي تجزأت بفعل الجدران، والقطاعات والانقسامات التي أنتجتها اتفاقية أوسلو. هنالك بحث متسع في دوائر من النقد الأفقي لمنظومة من التردي التي تتجلى قصصيا في مجموعة تحتفي بالإيقاع السريع، وتجاوز كل ما لا يتسق مع نموذج القراءة الجديدة التي لا تمتلك وقتاً لمزيد من التفاصيل، وهذا ما يجعل من مجموعة سامية العطعوط قابلة لأن تكون تطبيقاً على إعادة القصة إلى حيويتها، كما الفوز برهان قوامه أن التشكيل الخطابي يمكن أن يمتلك طاقات من الفعل لا يشترط ظرفية الشائع في هذا الزمن.
في تشكيل «قبل أخير» تقترب الكاتبة من إضافة تبدو غير مبررة فنياً في تكريس نموذج نسوي معني بوجه خاص بخطابات المرأة، مع العلم بأن هذه المجموعة تنهض بنيويا ودلالياً على جغرافيات إنسانية، ولكنها في هذا الجزء تبدو مكرسة لأفعال من الرسم بحدود داخلية لإشكاليات المرأة، ومع أن هذا يبدو مستنكراً، إلا أن نماذج الخطابات المعنية بدراسات الهيمنة والاستعمار، والممارسة الثقافية، قد تستسيغ هذا المزج بين الدوائر الدلالية كونها تحيل إلى عالم يخضع لمبدأ القوى والهيمنة، ما يجعل من هذا الجزء قابلاً للالتصاق بالمعطى الدلالي للعام للمجموعة التي تذهب لنقد ممارسات أنثوية، تتعالق بمجتمع لا يغادر قيم السلبية، كما التشابه في تبديد عوالم الأنثى التي تخشى من عالم الذكر أو هيمنة المجتمع الذي يحيط بها مراقباً، متوثباً للحكم عليها أي أن هنالك حضوراً لعوامل القهر كما في قصة تشي بالكثير من الضيق الذي عبرت عنه بشكل جلي تلك الكاتبة (الشخصية المحورية في القصة) والتي تخضع في تعبيرها عن ذاتها لأنظمة المراقبة الداخلية ما يعني أن ثمة حصار الآخرين كما يتضح في «تلك القصة».
وفي الختام تنتهي المجموعة بمنظور فلسفي، ينهض على أفعال الفناء والموت والتلاشي التي تعدّ خلاصاً لإنسان هذا الزمن في إطار قصص اتسم بنزعات صوفية، وقدر غير قليل من الشفافية والنزعات الغرائبية التي تؤطر المجموعة، بدون مبالغة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى