منيف الرزاز في البحث عن فلسفة الحرية المفقودة

موريس أبو ناضر

لا يمكن أن نفهم كتابات المفكر والسياسي الأردني منيف الرزاز إلا بوضعها في السياق التاريخي لحركات التحرّر التي شعّت في الآفاق العربية بين الأربعينات والسبعينات من القرن الماضي، ولا يمكن أن ندرك أبعادها الوجودية والسوسيولجية، إلا بالعودة الى بزوغ فجر الثورة الفرنسية التي رفعت شعار الحرية والمساواة والأخوة.
دخلت الحرية وأخواتها الى العالم العربي، كما يتفق غالب المؤرخين بفعل الاتصال بالغرب الأوروبي، وقد وطّنها الرعيل الأوّل من رجال النهضة داخل البارديغم الذي عملوا من أجله، وسعوا الى تحقيقه، ويتمثّل في هاجس التحررّ من النير العثماني والاستعمار الغربي، والدعوة الى تحقيق الوحدة العربية، والبحث في وسائل التمدن والعلم والتربية والمرأة.
صحيح أننا نعثر على حالات عديدة من التعبير عن الحرية في الآداب الإسلامية قبل عصر النهضة، إلا أن الصحيح أيضاً أن مفهوم الحرية بما هومبدأ أساسي، من مبادئ حقوق الإنسان لم يكن معروفاً لدى المسلمين العرب، أوّل من تنبّه الى مدلوله الأتراك الذين استعملوا كلمة «سربستيه» التي تعني انعدام الحدود والقيود. ثم جاء من بعدهم خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي الذي عنت عنده حرية التعبير والعمل. يقول الطهطاوي في هذا السياق «إن التمدن منوط بحرية انتشار المعارف» ويضيف: «الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوروبية». بعد التونسي والطهطاوي يبرز اسم لطفي السيد كمنافح عن الحرية. وقد عبّر عن مفهومه لها بقوله: «أجل إن المرء خُلق حراً، حر الإرادة بين الفعل والترك….حراً في كل شيء حتى في أن يعيش ويموت».
يمكن القول هنا، إن مفهوم الحرية في الكتابات الصادرة بين الأربعينات والسبعينات من القرن العشرين سارت على خطى كتابات رجال النهضة فسيطر عليها هاجس التحرّر من الاستعمار، والتحرّر من أثقال التراث، ليصبح قابلاً للحداثة، والتحرّر من الجهل والتخلف، باتباع سبل الحداثة في الفكر والسياسة والجيش التي أوصلت الغرب الى احتلال أعلى درجات التقدّم.
في الواقع، لم يظهر مفهوم الحرية كمبدأ سياسي اجتماعي قبل كتابات المفكرين البعثيين. ففيما كان الحديث عن الحرية يعنى به من خلال ما قدّمنا، حرية التعبير والنشر والتنقّل، إذا بنا نرى مفهوم الحرية يحتلّ مكانة مرموقة في ثلاثية حزب البعث المعبّر عنها بشعار «الوحدة والحرية والإشتراكية». ولكن هذا الشعار الذي أطلقه الحزب تركّز في ما يخصّ الحرية في الدعوة الى التحرّر من الاستعمار الغربي، ومن التجزئة الى أقطار، ومن العدالة الإجتماعية، وأهمل مسألة الحريات الفردية والعامة في المجتمعات العربية.
المفكر الوحيد الذي رفع لواء الحرية في زمانه، باعتبارها مفتاح نهضة الإنسان العربي، والأمة العربية هو منيف الرزاز الذي ألّفت عنه المؤرخة الأردنية فدوى نصيرات كتاباً يحمل عنوان «الحرية في فكر المفكر العربي منيف الرزاز (منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون). ولد الرزاز في دمشق (1919- 1984) درس في مدارس الأردن، ثم في الجامعة الأميركية في بيروت، مارس الطب بعد أن تخرّج في جامعة القاهرة، ثم ما لبث أن انغمس في العمل السياسي في إطار حزب البعث العربي الإشتراكي، له العديد من المؤلفات أهمها «كتاب الحرية ومشكلاتها في البلدان المتخلفة».
لم أقرأ لمفكر أو كاتب مفتون بالحرية كما قرأت لمنيف الرزاز، فهو مجبول بالحرية في حياته الخاصة والعامة، ومهووس بها في نشاطه الحزبي والعملي، لدرجة أنه يشكّل في رأيي حالة خاصة بين الكتاب والمفكرين العرب في أيامه، لدرجة يصحّ فيها قول القائل: «الرزاز فيلسوف لا يكتفي بالكلمة، ومقاتل لا يقنعه السيف».
استلهم الرزاز في صياغته لمفهوم الحرية كبار المفكرين الغربيين أمثال هيغل وماركس وسارتر، وعمل على تبيئته آخذاً في الاعتبار الواقع العربي بكل تناقضاته، وساعياً الى تفصيله على قياس قدرات الإنسان العربي. في توصيف مفهوم الحرية عند الرزاز يمكن القول إنه مفهوم أخلاقي موجّه للفرد نفسه، يحثّه على التفكير والتجربة والمبادرة، كما هو موجّه للمجموعات يدفعها للتحرّر من أثقال الماضي، يقول كما تنقل عنه المؤرخة الأردنية فدوى نصيرات: «الجدلية تكمن في الموازنة بين حرية الفرد وحرية الآخرين، وعدم المغالاة في تقييد حرية الفرد، ولكن أيضاً عدم السماح له بإذاء الآخر وفرض رأيه بالقوة». وقد صاغ الرزاز هذه الجدلية بين الأنا والآخر، بأن قلب المضمون الأخلاقي السائد الذي يعتمد النهي والمنع، الى ذلك الذي يحض على التفكير والتجربة والمبادرة، فتتحوّل الرسالة الأخلاقية من «لا تعمل» الى «اعمل» ومن «أطع طاعة عمياء» الى «أطع ما دمت واثقاً من صحة الاتجاه، فانتقد وناضل، وثُرّ ودافع عن الحق وقاتل الباطل». بكلام آخر تجاوز الرزاز مفهوم الحرية الكلامي وعمل على ربطه بمفاهيم العدالة الإجتماعية، والمساوة، والتقدم. وبناء على هذا التوسّع في مفهوم الحرية، دعا الرزاز الى تبنّي المدنية الغربية بفلسفاتها القائمة على العقلانية والعمل، ورفضها استغلال الدين وأطروحاته في القضاء والقدر، والحديث عن قيم التطوّر الإجتماعي، والدعوة الى الانتقال من فلسفة القضاء والقدر، الى فلسفة السبب والضرورة.
لقد هيمنت إشكالية الحرية كما قدّمنا على فكر الرزاز فبحث في الحرية السياسية والإجتماعية والدينية، وحرية المرأة، وانتقد الأقطار العربية التي ركّزت على الجانب السياسي في الحرية وأهملت الجانب الإقتصادي والإجتماعي. والحرية عند الرزاز كما تنقل صاحبة الكتاب تعني خيارات متعدّدة في العمل والفكر، ولا تقتصر على طبقة أو فئة محدّدة، هي نضال ضدّ الإحتكار للسلطة، أو للثروة، أو للنفوذ، أو للتقاليد، أو للرأي. ويعتبر الرزاز أن أي فجوة في حرية المواطن قد تعرض حريته كاملة للضياع، فحرية المواطن السياسية لا قيمة لها، إذا كان مستعبداً في حياته الاقتصادية، وتحرّر المواطن من الاستعباد الاقتصادي لا قيمة له إذا لم يتحرّر من الطغيان السياسي، فللحرية معنى متكامل، وتكامل الحرية ضمان أساسي من ضماناتها.
إن تركيز الرزاز على تحقيق الحرية الشاملة في العالم العربي أوصله الى العمل القومي، وانعطف به باتجاه إنسوية (هيمنيسم) عربية تعيد للإنسان العربي الثقة بنفسه، كما تدعوه الى التحرّر من عقدة الدونية تجاه الغرب، ودفعه باتجاه القطيعة مع تراث الاستبداد القديم والحديث، والقطيعة مع الدولة الدينية بكل أشكالها، والتطلع الى رؤية مستقبلية نفّاذة تحض الفكر العربي للانتقال نحو مصاف الفكر الفاعل في التقدم الإنساني.
كتاب المؤرخة الأردنية فدوى نصيرات، يكشف عن جملة قوانين أدركها الرزاز، ومفاهيم أطلقها، كما يبرز الأفكار والمبادئ التي أمضى الرزاز عمره في السعي الى تحقيقها. إنه كتاب موسوعي يظهر جهد كاتبته الأكاديمي في اعتماد العقلانية في البحث، والموضوعية في التفسير والتعليل، وبذلك أراه يغري بالقراءة والتعمّق والمساءلة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى