وجوه حاضرة

اسكندر حبش

ستقبل معرض الكتاب الفرانكوفوني في بيروت أكثر من سبعين كاتبا فرنسياً وفرانكوفونياً (ينتمون إلى مختلف البلدان التي تنطق باللغة الفرنسية) كذلك يستقبل عدداً من الكتاب اللبنانيين الذين ترجمت أعمالهم إلى الفرنسية. هنا لمحة عن أبرز الوجوه الحاضرة هذه السنة.
ربيع علم الدين: «حيوات الورق»
تشكل زيارة الكاتب اللبناني ربيع علم الدين، إلى معرض الكتاب فرصة ليكتشف الجمهور اللبناني واحداً من أبرز كتّابه المعاصرين الذين يكتبون بالانكليزية. حين تمّت دعوته كان السبب صدور الترجمة الفرنسية لروايته «امرأة بدون أهمية» (بعنوان «حيوات الورق») عن منشورات Les Escales والتي عرفت نجاحاً فعلياً. هذا النجاح تضاعف بحيازته الشهر الماضي جائزة «فيمينا» الفرنسية عن فئة أفضل رواية أجنبية. لهذا يبدو الحضور مزدوجاً اليوم (الترجمة والجائزة)، وإن كان هذا لا يعني أن أهميته تقتصر على ذلك. علم الدين، واحد من الذين يحضرون على ساحة الرواية في العالم، وهو جزء من هذه «الدياسبورا» اللبنانية التي تكتب ـ بالإضافة إلى العربية، بمختلف اللغات: الفرنسية والبرتغالية والاسبانية والانكليزية، والتي تجد اعترافاً نجهله بعد.
ولد في عمّان (الأردن) لأبوين لبنانيين، نشأ في الكويت ولبنان، وتابع دراسته في انكلترا والولايات المتحدة الأميركية. عمل في الصحافة، وهو رسام عدا عن كونه كاتباً. يعيش حالياً ما بين بيروت وسان فرانسيسكو.
روايته الأخيرة «حيوات الورق»، تتحدّث عن سيدة لبنانية تجاوزت السبعين من عمرها تدعى عليّا من مواليد مدينة بيروت التي تعيش فيها، إذ لم تغادرها مطلقاً. وحين وصلت إلى خريف العمر هذا، بدأت تستعيد ذكرياتها الماضية، بدءاً من الشقة التي تعيش فيها، التي تقاسمتها مع زوجها الذي اقترنت به، وهي في السادسة عشرة من عمرها (كان ذلك في خمسينيات القرن الماضي)، لكن زواجهما لم يدم لأكثر من أربع سنوات. كانت عليّا صاحبة مكتبة، لهذا تمثّل الكتب لها «الأصدقاء المخلصين». وإلى جانب مهنة بيع الكتب، مارست الترجمة لمدة خمسين سنة، حيث نقلت إلى العربية أمهات الروايات العالمية ولأبرز كتّابها، لكنها ترجمات لم ترغب في نشرها أبداً. خلال هذه «الحيوات» المتأرجحة ما بين الماضي والحاضر، نكتشف أجزاءً من «تاريخ» المدينة أيضاً، ولا سيما فترة الحرب الأهلية، وانعكاساتها على المجتمع والأفراد، وكأننا أمام «بورتريه» لمدينة بيروت بكل تفاصيلها وانزياحاتها وصعودها وهبوطها، لكن من دون أن تسقط الرواية ولو للحظة، في وعاء الرواية التاريخية، بل نجد أنفسنا أمام تأمّلات حول المجتمع اللبناني مثلما نحن أمام تأملات في معنى الأدب.
باسكال بونيفاس: «المثقفون المزيّفون»
من مواليد باريس العام 1956، وهو اليوم من أبرز العاملين في مجال «الجيو ـ سياسة». أنشأ «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية» (وهو مديره) وقد اهتمّ بجملة من القضايا المعاصرة بدءاً من «السلاح النووي» إلى قضية «الصراع العربي ـ الإسرائيلي»، قبل أن يهتمّ بقضايا الرياضة الجيو ـ سياسية وبخاصة كرة القدم.
تعرّض في الفترة الأخيرة للكثير من المواقف التي اتهمته بالمعاداة للسامية (التي سقطت في المحكمة) وكان سبب هذه الادعاءات برنار هنري ليفي وجماعته، إذ لم ترق لهم مواقفه إلى جانب الشعب الفلسطيني، وتنديده بممارسات سلطات الاحتلال، وهذا ما تجلى أيضاً في حرب غزة الأخيرة، إذ تعرّض للتهديد المباشر. هذا التهديد الذي تعرّض له جعله يقدّم شكوى إلى مركز من مراكز الشرطة في العاصمة الفرنسية، إذ اعتبر في بلاغه أن رجلاً (تمكّن بونيفاس من تصويره وتقديم الصورة) هدده بالقتل نظراً إلى مواقفه المؤيدة لحق الفلسطينيين في الحياة. وقد أتى هذا الحادث بعد اتهامه بالمعاداة للسامية. (ولا ضرورة بالطبع للتذكير أن أي موقف تجاه سياسة إسرائيل لا بدّ من أن يُتهم صاحبه بأنه معاد للسامية. مواقف بونيفاس، لم يكتبها في مجلة ورقية، بل جاءت غالبيتها في الموقع الالكتروني (IRIS) الذي يديره والذي يُعنى بالشؤون العالمية الاستراتيجية، كما على صفحته الفايسبوكية.
في أي حال، وبالرغم من أن هذه المواقف تعنينا، إلا أنه لا يمكن اختصار الرجل عليها، إذ كان من أبرز الذين أعادوا التفكير بمعنى المثقف في فرنسا تحديداً، كما جاء في كتابه «المثقفون المزيفون» (2011) إذ هاجم فيه بعض «المثقفين» الفرنسيين أمثال ليفي وألكسندر أدلر وكارولين فوريست وفيليب فال وفريديريك أنسل متّهماً إياهم بأنهم يخفون مواقفهم الطائفية الحقيقية ليظهروا على أنهم مثقفون كونيون «موضوعيون». تنطلق أبحاثه كلها من أخلاقية كبيرة، لم تعد موجودة عند الكثير من المفكرين.
بونيفاس، سيشارك في ندوة بالمعرض حول «جيو سياسة» الرياضة. كتبه في هذا المجال، لا بدّ أن تجعلنا نعيد التفكير بكل الألعاب التي لا تعرف اليوم أي «أخلاق رياضية». مع العلم أن كتابه الأخير عن الفنان الفرنسي الكبير «ليو فيري، الحي دائماً» سيكون موجوداً في المعرض.
جبور الدويهي: «طُبع في بيروت»
لا شك في أن ابن زغرتا (مواليد العام 1949) هو واحد من أجمل الأصوات الروائية اللبنانية والعربية المعاصرة. قد يتناغم حضوره في هذا المعرض ـ إذا جاز القول ـ مع ربيع علم الدين، بمعنى اكتشاف صوتين لبنانيين لا يكتبان بالفرنسية، بل ترجمت كتبهما إلى تلك اللغة. فمنذ كتابه الأول، استطاع الدويهي أن يفرد لنفسه مكانته الخاصة بين أسئلة السرد والرواية. اختار لغة كتابية مختلفة عن مجايليه، لا تتوقف عن تذكيرنا بأن الكتابة لا تزال ممكنة في هذا العصر. سلسلة من الروايات التي أعادت التفكير في كل شيء، لكنها لم تسقط ولو لحظة في الخطاب المباشر أو في أسئلة التاريخ، على الرغم من أنها تشكل تأريخاً ما، لأحداث اختار أن يعيد روايتها من وجهة نظره كمثقف وكاتب.
سيقدّم الدويهي كتابَيْه: «حي الأميركان» (روايته التي صدرت في ترجمة فرنسية عن منشورات «أكت ـ سود») كما روايته «طُبع في بيروت»، التي صدرت من فترة قصيرة (بالعربية عن «دار الساقي»). الرواية «الأولى» تعيد تخييل مدينة طرابلس في تحولاتها، وفي ما طرأ عليها من تغيّرات. صحيح أن الرواية تتحدّد بمكان روائي، إلا أنه يمكن قراءتها على أنها تروي تبدلات العديد من مدن المتوسط والشرق، التي شهدت لحظة انكسارها المعاصر لحظة احتلال الجيش الأميركي للعراق. هي مدن تذهب بغالبيتها إلى انكساراتها العميقة: السياسية والاجتماعية، والتي تبدو السبب الحقيقي لخروجنا من «التاريخ». بينما تعيد روايته الثانية تذكيرنا بالدور التاريخي الذي لعبه لبنان في تصدير المعرفة عبر عملية الطباعة.
بهذا المعنى تشكل رواية «طبع في لبنان» شكلاً من أشكال إعادة كتابة تاريخ لبنان، لكن من دون أن تسقط في إشكالية الكتابة التاريخية، بمعنى أن التاريخ هنا هو تاريخ الطباعة في لبنان، لكن وعلى خط موازٍ نقف على كل ما له ارتباط بالحيوات المتعدّدة التي عشناها: السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ..الخ.
«طبع في بيروت»، هي سيرة مدن عبر سيرة أشخاص، وسيرة أمكنة عبر سيرة أفكار.. كتابة تعرف كيف تخرج من ثقل الماضي لتصبح راهنة، وكيف تحول الراهن ولحظته إلى أداة للتفكير بالمستقبل من دون أن تقف عند لحظة التداعيات المميتة، بل تنجح في تقديم كتابة تعنينا كثيراً.
لوران غوديه: «الاستماع إلى الهزائم
لن تكون الروائية بول كوستان وحدها من حازت «جائزة غونكور» ووحدها الحاضرة في معرض هذا العام ـ وهي ستكون هنا بصفتها أيضاً عضوة في أكاديمية غونكور» من أجل توزيع جائزة «لا ئحة غونكور/ خيار الشرق» ـ إذ سيحضر كاتب آخر ممن حاز هذه الجائزة الأدبية الرفيعة: لوران غوديه (مواليد باريس العام 1972، وحازها العام 2004 عن روايته «شمس آل سكورتا»، وصدرت بترجمة عربية عن دار الآداب في بيروت، ونقلها بسام حجار، وهي المرة الثانية التي يشارك فيها بهذا المعرض).
حين حازها في ذاك العام، شكل نوعاً من مفاجأة إذ لم يتوقع أحد أن تفوز بها منشورات «أكت ـ سود»، وكانت أول مرة تحوز رواية صادرة عن تلك الدار هذه الجائزة.. في أي حال، ومن خلال روايته الإنسانوية هذه، ذات الملامح الملحمية، أظهر لنا الكاتب كيف أن أفراد عائلة واحدة، متجذرة في أرض «جاحدة» يتوارثون، على مدى خمسة أجيال، هذا «القليل» الذي تركته لهم الحياة، كما محاولتهم للهروب من بؤس هذه الحياة التي فرضت عليهم، وذلك بدءاً من العام 1870 وحتى أيامنا الراهنة.
في روايته الأخيرة «اسمعوا هزائمنا» والتي سيتحدث عنها خلال المعرض، تحضر مدينة بيروت كإطار مكاني للرواية، إذ تتحدث عن عميل في المخابرات الفرنسية يتم تكليفه بإيجاد عضو قديم في كوماندوس النخبة الأميركية يُشك في أنه قام بعمليات تهريب كثيرة وكبيرة. وخلال بحثه يلتقي بعالمة آثار عراقية كانت تحاول إنقاذ الآثار التي كانت موجودة في العديد من المدن العراقية التي تعرضت للقصف الأميركي.
ومع ذلك، لا تقف الرواية عند لحظتها الراهنة، بل تستعيد في طياتها ملحمة جلجامش ومساراتها المتعددة، هنيبعل ومحاولته الوصول إلى روما، الجنرال هيلا سيلاسي ووقوفه ضد الغازي الفاشي. كأننا أمام «فريسك» تاريخي يدفعنا إلى التفكير بكل هذه الهزائم التي مرّت.
رواية وصفها النقاد، حين صدورها، بأنها رواية مقلقة وكئيبة، رواية ترفض كل أشكال الفتوحات لتعلن أن الإنسانية والجمال هما وحدهما في هذه الحياة ما يستحقان أن نموت من أجلهما، إذ ربما تلخص هذه الجملة الرواية بأسرها: «لقد كسبنا المعارك التي طلبوا منّا أن نربحها، لكن نعرف، أنت وأنا، بأننا انهزمنا، في النهاية».
وجدي معوض: «عودة الإغريق»
قبل عامين استقبلت مهرجانات بيت الدين المخرج والممثل والكاتب اللبناني/ الكندي/ الفرنسي وجدي معوض ليقدم في القصر التاريخي مسرحيته «أنتيغون». وهو اقتباس لنص سوفوكليس الذي كتبه العام 441 قبل الميلاد. نص شكل هاجساً كبيراً لدى المسرحيين في مختلف أنحاء العالم، إذ انبرى عديدون لإعادة تقديمه على خشبات المسرح، وبخاصة في العصر الحديث. من هنا، نادراً ما تجد بلداً لم يمتلك «أنتيغونه» الخاصة، بمعنى أن رؤى تقديم المسرحية اختلفت من مخرج إلى آخر، من دون أن ننسى بالطبع الاقتباسات الكثيرة التي حاولت العمل على الفكرة و «إعادة» صوغها وفق إطار معين يخدم نظرة المخرج الراهنة.
من يعرف نص سوفوكليس، يعرف أنه يروي لنا قصة «ابنة أوديب» التي تعلن لأختها «إسمين» عن نيتها في التصدّي للمنع الذي أعلنه الملك «كريون» بعدم إجراء مراسم دفن أخيهما «بولينيس» الذي قتله أخوهما الآخر «إتيوكل»، خلال معركة بين الاثنين، إذ كان كل واحد منهما (من الأخوين) يريد قتل الآخر من أجل أن يصبح ملك «طيبة». نص يتحدّث عن الصراع «من أجل السلطة» (إذا جاز التعبير)، ونحن أمام حرب دامية بين شقيقين (وشقيقات أيضاً). حرب تعيد تشكيل كل المفاهيم العائلية والدينية والاجتماعية… بهذا المعنى، بقي هذا النص الإغريقي، نصاً راهناً لا يتوقف عن إثارة الأسئلة في كل عرض جديد.
ثمة راهن إذا دفع معوّض إلى إعادة العمل على هذا النص، إذ علينا ألا ننسى مسار حياته الذي جعله يغادر لبنان العام 1978 بسبب الحرب الأهلية، ليهاجر إلى فرنسا ومن ثم في بداية الثمانينيات إلى كندا، حيث بدأ اسمه يلمع، ليصبح واحداً من المسرحيين الحاضرين على الساحة العالمية.
يعود وجدي معوض إلى بيروت ومعرضها مع نص «كلبة»، وما هو الا إعادة قراءة واقتباس لنص آخر من الملاحم الإغريقية الذي يروي عن فيدرا زوجة تيزيه (ملك أثينا الأسطوري)، التي وقعت في حب هيبوليت. لكن معوض يحوّل هذه الأسطورة القديمة إلى حدث معاصر، ليتحدّث من خلال هذه الشخصيات عن أسئلة راهنة كأسئلة الجنسانية والمثلية الجنسية ونضال النساء.. إلى غيرها من الموضوعات التي تشغل بال العالم اليوم.
سيلفي جرمان: «طاولة الرجال»
في رواية سابقة لها بعنوان «ماغنوس» تنطلق الكاتبة الفرنسية سيلفي جرمان – (مواليد العام 1954 في شاتورو، ودرست الفلسفة عند إيمانويل ليفانس في جامعة «نانتير») – من السؤال التالي: أي قصة يمكن لنا أن نكتبها انطلاقاً من رجل ذي ذاكرة بفجوات متعدّدة، امتلأت عنوة بالأكاذيب لفترات طويلة، راودها التردد طيلة مسيرتها، وفجأة يأتي يوم تُصاب فيه بالتوهّج؟
حاولت الكاتبة في روايتها هذه أن تستعيد كلّ الشرط الإنساني انطلاقاً من هذه الذاكرة المشتتة، وكأنها بمعنى آخر، تعزف على وتر «الطفولة هي حلم الطفولة»، لتستعيد بذلك بطريقتها الخاصة زيارة حقبة معينة من حقبات التاريخ الفرنسي، تلك الحقبة التي «سيطر» عليها وجه الجنرال ديغول، من خلال عيون مجموعة من الصبيان.
نقف في روايتها هذه أمام مشهد العالم الذي يقدّم نفسه وفق «منشور مشوّه» من خلال نظرة شاذة وحالمة، نظرة شخص إلى قصته التي تشكل قلب الرواية. نظرة متسائلة، متألمّة، متلمّسة. رواية عن الذاكرة والهوية وعن لا أفقية الزمن في الحياة البشرية. هي أيضاً مرثاة حول استحالة تخطّي هذا الماضي الذي يلقي بثقل وزنه، ومع ذلك نحن أمام جمال حقيقي، ربما لأنه جمال الموت، أيّ جمال ذاك الذي يقلب كلّ شيء رأساً على عقب، ليُدخلنا في متاهات لا نعرف كيفية الخروج منها. من قال إن الحياة سهلة وأفقية؟ إنها ليست سوى هذه المتاهة التي لا يتحمّلها إلا أصحاب الحيوات الحقيقية.
روايتها الأخيرة التي ستقدّمها في المعرض بعنوان «على طاولة الرجال» وتلتقي مع سابقتها بكونها رواية مسكونة بـ «عنف الرجال»، لكنها «مضاءة» بهذا الكائن الذي يهرب من كل حصار وخضوع. هي قصة هابيل، الطفل المنحدر من «طبيعة حيوانية»، المولود في الحرب. يتبنّاه أخوان من بلد آخر، يعلمانه «ثقافة الكلمات». وفي رحلة بحثه عن هويته، يصطدم بعنف البشر.
كان هابيل قد ولد في غابة خلال حرب أهلية طاحنة، ما جعله يتحوّل إلى طفل بري متوحّش لا يعرف تصرفات الإنسان. وشيئاً فشيئاً يبدأ باكتشاف تعقيدات البشر، بدءاً من اللغة، إلا أنه يحتفظ ما في داخله من ارتباط حميم مع هذا العالم الحيواني الذي يشده إلى «أصوله».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى