‘الآخر الذي عشقناه’ لكاترين كوسيه أو الانحدار إلى الجحيم

أبو بكر العيادي

عد فوزها بغونكور طلبة المدارس عام 2008 عن رواية “مستقبل باهر”، علقت الفرنسية كاترين كوسّيه، المقيمة في الولايات المتحدة، آمالا عريضة بفوز روايتها الثانية عشرة “الآخر الذي عشقناه” بجائزة غونكور لهذه الدورة، ونافست الفائزة ليلى سليماني حتى آخر لحظة، دون جدوى.

“الآخر الذي عشقناه” هي مزيج من رواية السيرة الذاتية (autofiction) ورواية سيرة الآخرين (exofiction)، تتوجه فيها الذات الساردة إلى صديقها وعشيقها الأسبق توما بولو الذي اختار أن يضع حدا لحياته في مقتبل العمر، فهو الموضوع والمرسَل إليه واللغز التراجيدي المحيّر، تخاطب فيها ذلك الشاب الذي عرفته وهو في الثامنة عشرة من عمره فيما كانت هي تبلغ السادسة والعشرين، وانبهرت بحدة ذكائه وطموحه وأناقته ولباقته،.

ثم اندهشت لتوالي الخيبات في كل سعي يسعاه، خيبات لا تعرف إلى أيّ أمر تعزوها، تردده أم سوء اختياره أم قراراته الخرقاء، أم هو ناجم ببساطة عن خلل فطري. هي محاولة للبحث عن الوجه الحقيقي لذلك الصديق المفرط في كل شيء، في المرح والكآبة على حدّ سواء، مع نبرة شفيفة نلمس فيها نوعا من تبكيت الضمير، لأنها لم تشأ أو لم تستطع إنقاذ صديقها.

في حديث لإحدى المجلات، كشفت كوسّيه أن هذه الرواية تسكنها منذ عشر سنوات، ولم تعرف من أين تدخل عالم بطلها، فقد حاولت في البداية أن يكون الموضوع عن حزن لفراق صديق، ثم عن مسار مضطرب لشخصية إشكالية، ثم عن حداد مستحيل، حتى اهتدت إلى “الآخر الذي عشقناه” الذي استمدته من عنوان أغنية شهيرة لليو فيري “مع الوقت”، لتتوجه مباشرة عبر ضمير المخاطب المفرد إلى صديقها الذي كان، فتدخل رأسه وتضع نفسها مكانه لتحاول فهم مأساته، والإمساك باللحظة التي انهار فيها كل شيء.

ولعل القادح لفكرة الرواية هو توما نفسه، إذ تذكر الكاتبة أنه زارها مرّة في بيتها بمقاطعة بريطانيا شمالي فرنسا، وأطلعته على صفحات عنيفة كتبتها عنه، ورأيها فيه، وكانت تنوي أن تخصّص له رواية تجعل من مسيرته سلسلة متواترة من الإخفاق والانفصال، فانتابه من ذلك همّ وألم، وأعلن اعتراضه على الصورة التي رسمتها له قائلا “الناس، لو تدرين يا كاترين، لهم أيضا حياة داخلية”. وهي تشير إلى ذلك في روايتها وتعبّر عنه فيما يشبه الشعور بالذنب “حوّلتُ حياتك إلى خطّية زمنية نُزع منها جوهُرها، لأصدر حكمي فيها على ضوء النجاح وحده باعتماد مقاييسَ اجتماعية محضٍ”. وتقول أيضا “أنا صديقتك. لست شريرة، أنت تعرف. ولكن كم كنت أجهل الهشاشة، مثلما أجهل الألم الذي نسبّبه للآخر حين نضع الإصبع على أشد الجوانب حساسية ونضغط عليها”.
البطل إذن شخصية حقيقية، يدعى توما بولو، انتحر حين أتم عامه التاسع والثلاثين عام 2008 في ولاية فرجينيا لأسباب غامضة، تحاول الكاتبة أن تنفذ خلف سُجفها باستعادة عشرين عاما من علاقة بدأت بـ”صداقة إيروسية” كما تقول، لا شأن للحب فيها، قبل أن يفترقا ويظلا صديقين عن بعد، يلتقيان في المناسبات. عرفته الكاتبة أيام الدراسة بدار المعلمين العليا بباريس، قبل أن تلتقي به مجددا في أميركا حيث هاجر كلٌّ من جهته للتدريس، هي بجامعة ييل، وهو في أكثر من مؤسسة تعليمية دونها أهمية.

كان محبوبا حيثما حلّ، في باريس وفي أميركا، يَحْبوه جميع من يَعرفُ مودةً صادقة ويغفرون له زلاته، ويحيطونه بعطفهم، ورغم ذلك كان يحس بالوحدة. كان كمن ينسج عزلته بنفسه، إما لتقلّب مزاجه وعثرات لسانه أو لضيق صدره وكثرة نزواته، ما أدّى إلى تدمير علاقاته العاطفية والمهنية.

وكان الفشل أيضا حليفه حيثما حلّ، فبعد أن أخفق في الدخول إلى دار المعلمين العليا بباريس، وجد صعوبة أيضا في الالتحاق بالجامعات الأميركية كبرنستون وريد كوليج، أو الاستمرار فيها كويسليان ونيويورك، ولم يظفر سوى بوظيفة أستاذ مساعد في جامعة الكومنويلث بريشموند عام 2005. كذلك شأنه على المستوى العاطفي، فقد انفصلت عنه تباعا كلّ حبيباته: أليسا وأولغا وآنا.. كانت الطريق إلى جامعة كولومبيا سالكة لدى وصوله إلى أميركا واعتزامه مناقشة أطروحة حول رواية مارسيل بروست “في البحث عن الزمن الضائع″، ولكنه لم يُنهِها، فضيّع على نفسه فرصة ذهبية.

وقد أفلحت الكاتبة هنا في خلق موازاة بين بروست وتوما بولو، من جهة العلاقة الحميمة بأمّ تنتظر من وليدها كتابا عظيما، ومن جهة سمات سيكولوجية يلتقي فيها الرجلان، كالحساسية المفرطة، والغيرة الفتاكة، والإرجاء والتسويف، إلى جانب التأرجح بين رغبتين متناقضتين: العزلة والانفراد، والاختلاط بالناس وارتياد المجالس. والفرق الوحيد بين بروست وتوما بولو، بصرف النظر عن عبقرية الأول، هو الوسائل المادية.

فخلافا لبروست الذي اعتمد في عيشته على أسرة أرستقراطية موسرة، كان توما لا يملك مالا ولا احتياطيا يستند إليه، فأمّه هي بنت بوابة شقت طريقها بفضل الإقبال على المطالعة، وكان لا بدّ أن يعمل لضمان عيشه وتحقيق مطامحه. ولكن كلما زادت رغبته زاد إخفاقه، وخوفه من الإقصاء ظل يترافق مع نزوعه بنفسه إلى ذلك الإقصاء، والسبب كما توضح الكاتبة لاحقا أن توما كان مصابا بتعكر المزاج ثّنائيّ القطب (trouble bipolaire). ولكنها لا تتخذ من تلك الإصابة مفتاحا لحكايتها، كسرّ يكشف عن شخصية البطل وينير ما غمض من سلوكه وتصرفاته، بل جعلتها مطية لإضفاء أبعاد جديدة على بطل روايتها، واقعية كانت أم متخيّلة، بوضعه موضع مقارنة مع بروست للوقوف على نمط ما للإقامة في العالم، في قوّته وضعفه.

فهي تخاطبه قائلة “كأنّ الأمر لم يندثر منذ زمن.. تذكر هذه الفقرة من كتاب ‘من جهة غيرمانت’ حيث كتب بروست، بخصوص جدّته، أن الموت أقام بيننا منذ مدة قبل أن يجهز علينا، وأنه خلال تلك الأعوام، كان يقدم نفسه لنا مثل جار أو مستأجر له علاقة بنا. ليس اليوم أدركت أنك ستموتين. أنت تعرفين ذلك طوال تلك السنين منذ أن جاء ليسكن عندك…”.

بأسلوب مضغوط وإيقاع سريع ولغة تجمع بين الدقة والصفاء، استطاعت الكاتبة أن تسجّل الفروق القائمة بين الهشاشة والضعف، الحساسية المرهفة والنزعة العاطفية، النجاح والجمال، وبالتالي الفرق بين الحياة الداخلية والحياة الخارجية، لترصد انحدار نفس مضطربة إلى الجحيم.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى