«حلبٌ قصدُنا»: لوحة واحدة «لا شرقية ولا غربية»!

سامر محمد اسماعيل

خمسة عشر فناناً وفنانة جاءوا أخيراً من حلب إلى دمشق، في سابقة لم تشهدها سنوات الحرب الطويلة التي باعدت بين شمال البلاد وجنوبها. لجوء هؤلاء لم يأت نحو صالات «اتحاد التشكيليين السوريين» الذي لم يحرك ساكناً نحو عشرات من فناني المدينة المنكوبة، بل نحو صالة عرض خاصة جعلت من حضورهم معرضاً جماعياً استخدم من عجز بيت المتنبي الشهير: «حلبٌ قصدنا وأنتِ السبيل» (في صالة «ألف نون» بين 5 – 20 تشرين الثاني) عنواناً للفعالية التي رعتها كل من «وزارتي الثقافة والسياحة».
يحضر في المعرض خمسة عشر عملاً تصويرياً بأحجام مختلفة، تصدرتها لوحة الفنان المخضرم وحيد مغاربة، والذي يقدم في هذا المعرض مثالاً ناصعاً عن جدارياته ذات النبرة السحرية الأسطورية، مجسداً منظراً من الحياة اليومية في عاصمة الشمال السوري، جنباً إلى جنب مع بورتريهات نسائية قدمها كل من حوري سلوكجيان ورانية كرباج وجان حنا وجبران هدايا وخولة العبد الله ونعمت بدوي، إذ غلبت وجوه نساء حلبيات على أعمال هؤلاء؛ معشقةً لونيةً دسمة مع قسمات مشرقية لتفاصيل أنثوية وأخرى تعاملت مع موضوعة الطفولة كرمز تلتبس فيه المدينة بالمرأة الأم والحبيبة.

النص البصري
تناص بصري عكس دربةً في توزيع عناصر السطوع والظل على سطح اللوحة، والقدرة على الموائمة بين مساحات اليبوسة والرطوبة وفق لطخات سلسلة ومتدفقة للأحمر والأزرق والأصفر والبني وتدرجاتها، ولكن دون الخروج عن الحالة التعبيرية للوجه الإنساني، أو محاولة اللعب على قيم التوازن الخاصة به ضمن الإطار، مما غلّب الطابع التزييني على هذه الأعمال، مصوّباً طاقتها الجمالية نحو إشغال الخلفية والسطح بقيم حسية باذخة بضوئها وإشباعها بشحنات عاطفية برانية.
بالمقابل حضرت أعمال لافتة لكل من أحمد برهو وعلي حسين وعلي سرميني وبشير بدوي ومحمد زيدان ونزار خطيب وطاهر البني، حيث عمد هؤلاء إلى مغامرات على أكثر من مستوى، معتمدين على تقديم فضاءات أكثر رحابةً وعمقاً في المعالجة اللونية، والاعتناء أكثر فأكثر بالخطوط وقيم التوازن البصري بين عناصر اللوحة، موظفين تقنيات الكولاج والعمارة الحلبية في موضوعاتهم. برزت هنا أيضاً معالم من قيساريات الشهباء وقلعتها وخاناتها وأسواقها المسقوفة العريقة، مع العمل كما هو عند محمود ساجر على دمج قصيدة «مديح الظل العالي» لمحمود درويش ضمن نسيج لوحته، مستخدماً بذلك مقطع: «في كل مئذنةٍ حاوٍ ومغتصبُ، يدعو لأندلسٍ إن حوصرت حلبُ» كوصلة شعرية بين بيروت ومدينته زمن الحرب الأهلية.
هكذا نقل التشكيليون الحلبيون مشاهد كاملة من مآسيهم التي شاهدوها بين «حلبين»: شرقية وغربية، فما فرّقته الحرب عادت اللوحة ووحّدتهُ هذه المرة، دون الانصياع لخرائط الاقتتال الدائر، بل بالتركيز على غزارة الإنتاج الفني الذي تابع مسيرته تحت قصف مدافع جهنم، من دون أن تنجح شلالات الدم المتدفق من أحياء حلب وحاراتها القديمة بجرف ما تبقى من ألوان وقماش من بين أيدي فنانين اعتصموا بأبواب حلب التسعة، ناقلين ما تبقى من مراسمهم المحترقة والمدمرة إلى صالات العاصمة.
اللافت في «حلبٌ قصدنا» كان ـ ومنذ يوم الافتتاح ـ هو البهجة التي وشت بها الأعمال المشاركة، وعدم الامتثال للمباشرة الفنية برغم قسوة الظرف الذي حكم إنتاج اللوحة، ونقلها من «السبيل» و «السريان القديم» و «بستان القصر» وسواها من الأحياء الحلبية إلى غاليري يطل على ساحة الشهبندر الدمشقية. فالمعرض كما يقول القائمون عليه ليس مناحة على مدينة لم تعد موجودة على خريطة الحياة الطبيعية، بل هو «تأكيد أن كل دروب الحب توصل إلى حلب». تلك التي لو عكست لفظ أحرفها اليوم لصارت «بلح» بمذاق الدّم.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى