«اسمي آدم» روايات متعددة في رواية لا تنتهي

فيصل دراج

أنجز إلياس خوري في روايته الأخيرة «أولاد الغيتو – اسمي آدم» عمله الروائي الأكثر طموحاً. رسم الكارثة الفلسطينية وسرد وجوه الإرهاب الصهيوني، وساجل الأدب الفلسطيني وعلّق على الأدب الصهيوني، وأعطى الكتابة الروائية تصوراً جديداً. أغلق نصه، الذي ترفض حكاياته الانغلاق، بفكرة تقول: لا تستنفذ الكتابة الروائية الإبداعية موضوع: الكارثة، إذ لكل فلسطيني رعبه المستمر، وإذ اللغة تضيء الرعب وتحجبه، فما روّع الفلسطيني عام 1948 يتجاوز إمكانيات اللغة.
اقترب الروائي من موضوعه متوسلاً نصوصاً أدبية انطوت على حكاية «وضّاح اليمن»، الشاعر القديم الذي قتله عشقه، ورواية الأميركي هيرمن مليفل «موبي ديك»، حيث الحوت الأبيض يطارد صياداً عصابياً ويرسل بضحاياه إلى قاع المحيط، ورواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، التي قضت على فلسطينيين «هربوا» من أرضهم بالموت. ساجل الروائي نصوصاً من الأدب والحياة تنفتح على الموت، أنتج نصاً له فلسفة أدبية تتكئ على معنى الحكاية، إذ الحكاية جزء من الحياة والحكايات لها حياتها وموتها معاً، وتظل ناقصة في الحالين.
استعار الروائي حكاية «وضاح اليمن» في مقولاتها الثلاث: الحب والفقد والصمت. فكل حب جدير بحكايته ينتظره الفقدان، ولكل عاشق حقيقي صمته الأخير. رحل «وضّاح» مختنقاً بعشقه وصمته، أخمد صوته «زوج» جمع بين مهابة السلطة وضرورة الأسرار. تتكشّف في حكاية الصمت القاتل مصائر فلسطينيين عشقوا أرضهم وانتظروا مجزرة، حال أهل بلدة «اللّد»، وهم موضوع الرواية، الذين رفضوا الهرب وحسم الإرهاب الصهيوني أمرهم في تموز(يوليو) عام 1948. تصرف الروائي بحكاية «الشاعر اليمني»، وجعل منها مجازاً، يضيء وشائج العشق والانتظار المميت.
مات الشاعر في صندوق خشبي محكم الإغلاق صنع في بلاد الشام. ومات فلسطينيو غسان، الذي لا يختلفون عن أهل «اللّد»، في صهريج معدني خانق الهواء. أنتج الشاعر حكاية عشقه المضيء بموته، وحوّل الفلسطينيون الثلاثة موتهم بحكاية كثيرة الأسئلة تصرّف الأول بحياته، أهدرها بصمته، وتصرف الفلسطينيون المغلوبون بحياتهم وقضوا اختناقاً. كأن العشق لا وجود له إلا بصمت ضروري، وكأن الحكاية لا تصبح حكاية إلا إذا أغلقها موت جدير بها. طرح الروائي وهو يضيء موتاً بآخر سؤالين: كيف تُنطق الكتابةُ الصمتَ؟ هل ينفذ المؤرخ إلى ما ينفذ إليه الروائي؟ أنطق الروائي الصمت بالمجاز، وبحوار النصوص الأدبية، الواضح والملتبس معاً، وبلغة مليئة بالإيحاء تقلق الكلمات التي تحجب المعنى، وأنطقه بلعبة «المرايا المتوالدة»، إذ في شظايا كل حكاية ما يستكمل شظايا حكاية أخرى، وفي قدر الإنسان البسيط ما يعبّر عن أقدار جماعة، حال الصبي البريء الذي أرداه الرصاص قتيلاً على الأسلاك الشائكة. حاذر إلياس اللغة البلاغية الجاهزة، واستولد أخرى من الرعب والحب ومفارقات الحياة. أما المؤرخون الذين يستخفّون بالأدب، كما يقول السارد، فلهم أعراف جامدة، يأتي بها «ولع الوثيقة»، التي تختصر عذابات المغلوبين في لغة تقريرية باردة لها شكل القاعدة.

الجريمة والعقاب
في عمل إلياس خوري الكبير ما يستحضر، من قريب أو بعيد، رواية «موبي ديك». فبطل ملفل حاول الانتحار قبل ذهابه إلى السفينة الهالكة، وعاد من رحلة الموت ليسرد رعب ما رآه، وله اسمه التوراتي «أخاب»، الذي تلوح فيه الجريمة والعقاب. … وللبطل الفلسطيني الذي وزعه إلياس على طرق متعددة، اسمه التوراتي: «آدم» ابن التراب، وله هواجسه الانتحارية، وله «بعثه الغريب» الأقرب إلى مصادفة عجيبة، فقد التقى بأكثر من موت وانتهى غريباً. سرد «آخاب» غضب الحوت الدامي، وعاش الفلسطيني الموت في «اللّد» التي استباحها الإرهاب المسلح، حيث لغة الرصاص والجثث المنتفخة والعطش المهين، وذلك «البياض» الذي يصاحب الموت، ويرسل في الهواء رائحة مرعبة. توزعت «النجاة» على الشخصيتين فكل منهما له صفة «الناجي»، التي استعار الفلسطيني منها اسمه، فأصبح آدم وناجي معاً. نجاة مجزوءة محوّطة بالكآبة.
تصدر أهمية رواية إلياس خوري الاستثنائية من لقاء الكتابة بالكارثة، فالرواية تكتب عادة عن «المعيش»، أو «الواقعي» بلغة أخرى، بعيداً عن الكارثة التي تتضمن «استثنائياً» لا يمكن القبض عليه، تقبض على آثاره ويستعصي عليها ما تبقّى والرواية تكتب، عادة، عن مفرد مغترب، هجرته روحه أو هجره الله، أو عن أفراد متخاصمين لهم أقدارهم المتضاربة، على خلاف رواية الكارثة التي ترصد جمعاً بشرياً يقتنصه الموت ليلاً ونهاراً، وتطارده كوابيس طويلة الإقامة لا يمكن بلوغ قرارها. وضع إلياس المأساة الفلسطينية، المستمرة، في رواية، واشتق منها مأساة الفرد والجماعة، مأساة الإنسان في كل الأزمنة. ولعل ما يفصل بين المعيش المغترب والاغتراب الدامي، الذي يفيض على المكان والزمان، هو ما وزع اللغة على مقامات مختلفة، وحولها إلى سؤال أكثر. فهناك لغة تشبه لغة المؤرخين ولا تشبهها، تصف وتسرد، ولغة روائية لا تشبه إلا ذاتها، تنشق وتنقسم وتتناثر، محدثة عن ذاكرة الروح وبياض الموت وصفرة الهواء وبلاغة المرايا وعنف الموت العاري الموزع على شظايا حكائية لا تنتهي. انطوت اللغة على ما يمزج «الشهادة» بالتاريخ – شهادة على وقائع المجزرة، وعلى ما يواجه وقائع الموت بجمالية اللغة. عبّر إلياس في كتابته عن «مفارقة الكتابة»، التي تصف أرواحاً معذبة وتحتفظ بجمالها الخاص، كما لو كانت الكتابة المبدعة اختباراً وعذاب ومسرّة. وفي هذه اللغة أكثر من لغة، فهي سرد وبوح ورؤيا وهي الأدب والجمال كما يقول السارد.
ولعل عنف الكارثة، كما بياض الموت المخيف، هو الذي أطلق متواليات من الحكايات، فلكل قتيل قصته وللشخصيات الملفعة بالبياض وبالسواد حكاياتها، التي تتضمن أباً استشهد وتحوّل إلى حكاية، وأماً مات زوجها واحتضنت صبياً مات أبوه، وأعمى الحرب البصير وأكثر من «بلدة قتيلة» مشبعة بالأشباح. وفي الحكايات المتوالية مقارنات أدبية، اقتفت آ ثار «الموت الفلسطيني» في كتابة غسان، الذي وحّد بين الخروج والعار، وإميل حبيبي الذي اشتق روايته من حياته، وجبرا الذي أوكل الحكايات إلى الذاكرة «الرومانسية»، ومحمود درويش الذي اشتق كتابة الشعر من بلاغة الصمت، والرسام إسماعيل شموط، الذي رسم الوطن المفقود بعيون الذين فقدوه.

الزمن اللولبي
أنتج نص إلياس خوري فلسفته الأدبية، وهو يتأمل علاقة الحكاية بالموت الحياة، وأنتجها بزمن سردي ثنائي البعد: خطي ولولبي معاً، إذ في الخطي زمن مستقيم يصاحب الفلسطيني السائر إلى المجزرة والمنفى والشتات، وفي الزمن اللولبي الذي يجعل المجزرة الفلسطينية واقعة مستمرة. فالرعب الذي مضى استقر في الحاضر وفي الروح المخنوقة بالذكريات. عبّرت في حكاياتها المتعددة عن الرواية في: اللايقين، مساءلة ما كانه الفلسطيني وما «تبقى» منه، وهو الراحل من اللد إلى حيفا إلى عكا، إلى نيويورك، حيث لا رجوع. ولهذا يأخذ بطل الرواية، وهو مشتق من غيره، أسماء كثيرة فهو: آدم، ابن الأرض، الاسم الأول الذي أسبغه عليه سكان «اللّد القتيلة»، أي الفلسطينيون الذين غدوا ضحية جلاد كان بدوره ضحية، وهو «حسن»، ابن القائد الذي أخد مسدسه من شهيد وأعطاه لشهيد قادم، وهو «ناجي»، الوليد الذي كان أن يقتله الجفاف، وانتهى إلى امرأة عاقر أعطته الحياة وكثيراً من الحكايات.
في اللايقين»، الصادر عن تعدد الأحوال والأشياء، ما يشي بمعنى طويل وبعودة محتملة، فآدم ابن التراب الفلسطيني، وبمجازر لا تنتهي، ففي لعبة الموت في صبرا وشاتيلا ما يستأنف «مجزرة اللد» وغيرها. كسر الروائي «اللايقين» المشبع بالتشاؤم بمنطق «الحكاية»، التي هي حياة وصوراً من الحياة، والحكايات لا تنتهي. ولعل ما تأتي به الحياة ولا تأتي به، هو ما وضع في الرواية مكاناً واسعاً «للذاكرة»، التي ترى ما يراه صاحبها، أكان فلسطينياً أعمى انتهى إلى القاهرة، أو حاصرته أكثر من خيبة وانتهى إلى نيويورك.
أوكل إلياس خوري إلى موهبته، المصقولة بالاجتهاد والمعرفة، الجمع بين الروائي و «المؤرخ المختلف»، مستكملاً ما بدأه في «باب الشمس»، محاوراً عمله الروائي السابق بروايته اللاحقة، وهما ترسمان فلسطينياً محتضراً وفلسطينية غريبة ترقص في ساحة الموت البذيئة. قدّم الروائي اللبناني شهادة عن فلسطن عن طريق اللغة، وشهادة عن إبداع اللغة بمواد فلسطينية، وبنى رواية واسعة بمواد أدبية، تستعير «التاريخ» وترفضه، وتعرف تفاصيله وتمنحه تأويلاً جديداً. ذلك أن في طبقات الحكاية، المحدثة عن فلسطين المستمرة في نكبتها، ما يستولد «التباساً» خصيباً يتحث عن الموت والحياة وما بينهما وعن إنسان ينصر قضيته ويهزمها معاً.
انتهى إلياس إلى «شهادة» إبداعية مؤرقة وإلى أكثر من رواية، يقول السارد: «أقنع نفسي بأنني أكتب رواية، لا تشبه الروايات، لأنها تنتمي إلى جنس أدبي لا أعرف له اسماً، ولست متأكداً من وجوده أصلاً». في رواية إلياس أشياء مما قال به سارده، وفي السارد أشياء من تراب فلسطين وعذابها، وفي السارد والرواية فتنة الأدب الكبير، الذي يمحو حدود «الإيديولوجيا»، ويأمر بالاحتفاء بالإبداع الكتابي بعيداً من «نافل إيديولوجي» لا يفيد في شيء.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى