حكاية جوازات السفر الأربعة

محمد موسى

يُقارب المخرج الصربي “ميهايلو يفتيتش” في الفيلم التسجيلي “أربعة جوازات سفر” تاريخ دولة يوغسلافيا السابقة عبر حكايته الشخصية، فهو الذي لم يبلغ الأربعين من العمر بعد حمل أربع جوازات سفر صدرت بأسماء مُختلفة للبلد نفسه الذي كان يطلق عليه في الماضي “يوغسلافيا”. تبدل أسماء الدول، وإنزياحات الحدود الجغرافية، وتغيير الخرائط كان نتيجة لصراعات داميّة خلّفت آلاف القتلى والمهجرين، وأطلقت حروباً عنيفة في أوروبا، وقرّبت العالم وقتها من حرب كونية. لا يدخل المخرج في تفاصيل تاريخ المنطقة، لكنه في المقابل يُعاين الحاضر، ويُسلِّط الأضواء على أزماته، وينطلق من حياته وحياته عائلته للبحث في مفاعيل الصراعات الكبيرة وآثارها العميقة في المجتمع والناس.
يجمع المخرج في فيلمه بين الفيديوهات المنزلية التي صورّها والده بكاميرا 8 ملم في زمن ما قبل الأزمات، وبين أفلام التحريك الكوميدية، وأفلام صورّها هو نفسه لعائلته الصغيرة التي أجبرتها الأحداث التاريخية الكبيرة على توديع ذكرياتها الشخصية في البلد. لا يبحث المخرج عن خبراء أو مؤرخين ويبقى دائماً في فيلمه العاطفي المؤثر مع تجربته الذاتية، والهواجس التي تسيطر على عائلته وجيله. يُرمم “يفتيتش” ذكريات الطفولة البعيدة ويكمل ما نقص منها، لكنه وهو يفعل ذلك يبتعد تماماً عن الحنين إلى الزمن السياسي ليوغسلافيا السابقة.

عن فيلم “أربعة جوازات سفر” هذا لقاء مع المخرج “ميهايلو يفتيتش”..

تتعاطى في الفيلم مع موضوع معقد وتاريخ موجع، متى قررت أن تعمل هذا الفيلم؟ وهل كنت تعرف منذ البداية أنك ستروي قصة البلد من خلال وجهة نظر عائلية وشخصية ؟

بدأت الفكرة عندي منذ أوائل عام 2012. وكتبتها على ورقة واحدة وقتها، ويمكن تلخيصها بأني أعيش منذ ثلاثين عاماً في العنوان نفسه لكن جوازات السفر الأربعة التي ملكتها كانت ثلاثة منها تحمل أسماء دول مختلفة. كان لديّ رغبة مُلحّة لرواية قصة جيلي. وكيف نشأنا في الزمن الذي كانت يوغسلافيا الإشتراكية تتهاوى في حرب أهلية، وصربيا الحديثة في طور التشكُّل. ومدى تأثير هذه العمليات على الحيوات الفردية والإحساس بالهوية. في الخمسة عشر عاماً الأخيرة احتلّت صربيا المرتبة الأولى في العالم في هجرة الأدمغة. وهذا كان أحد نتائج التغييرات الاجتماعية في البلد. كنت أعرف منذ البداية أن الفيلم سيكون شخصي للغاية. وسوف أشرك عائلتي وأصدقائي ونفسي كشخصيات في الفيلم.
هل كنت تملك تصوراً منذ البداية عن بناء الفيلم، أم حدث هذا في وقت لاحق أثناء التصوير ؟

الأمر الأساسي الذي كان واضحاً منذ البداية الأولى أني كنت أريد أن أقوم بعمل كولاج. أردت أن أمزج أرشيف عائلي وأفلام متحركة ومادة صورية من الحاضر. كان لديّ بعض الأفكار حول بناء الفيلم وكتبت فكرتين عنه قبل بدء العمل على المشروع التسجيلي. هاتان الفكرتان انتهيا إلى سلة المهملات. كان علينا أن نطور طريقة للعمل في هذا الفيلم. كنا نصور ونعمل على أفلام التحريك ونمنتج الفيلم بالتوازي وعلى طوال عام كامل. كنت أصور مشهداً في صربياً، وأرسله إلى المونتير ألكسندر ستويانوف والذي كان يعيش في إيطاليا، مع بعض الأفكار التي تخصّ مونتاج الفيلم. كان يعيد لي مسودة للمشهد الممنتج. ثم كنت أقوم بعد ذلك بتسجيل التعليق الصوتي ونركبه على المشاهد.
خلال ذلك كنت أكتب أفكار سيناريوهات قصيرة لمشاهد الرسوم المتحركة الخاصة بالفيلم والتي كان يشتغل عليها “ستيفان فوخت”، الشخص المسؤول على جزء التحريك في الفيلم والذي يعيش في ألمانيا. هو كان يقوم بتنفيذ تلك المشاهد لنقوم بعدها بتوليفها مع المشاهد الأخرى. بعد ذلك أنتقل إلى المشهد اللاحق. كل عمليات تنفيذ الفيلم كانت تجربة، ما يشبه الجلسة المرتجلة مع زملاء آخرين. الكثير من العمل على الفيلم تم عبر شبكة الإنترنت.

فيلمك مليء بالحنين إلى الماضي، لكن من دون أن يبدو افتقادك لحقبة تاريخية معينة، ولكن كنت تعكس هذا الماضي على الزمن المعاصر. هل كان من الصعب الحديث عن الماضي بدون تمجيده؟

لقد كان من القرارات المهمة الأولى التي كان عليّ كمخرج اتخاذها في هذا المشروع هو عدم تمجيد الماضي، أو معالجة الماضي بتبسيط وجعله إما أبيض او أسود. كان من الملزم عليّ أن أحفر عميقاً في داخلي، وأركز على وجهة نظري وتاريخي الشخصي، وترك مساحة كافية للتفكير للمشاهد. المفتاح كان التركيز على تجربتي الشخصية، كنموذج لتجربة إنسانية معينة، وبعدها بدء البناء الفيلمي حول النشوء في هذه الظروف التي شهدت تغييرات اجتماعية عنيفة.

من الأشياء المثيرة في فيلمك هو الإطلاّع على ما مر به جيلك، وكيف يروون التغييرات التي حدثت في العقود الثلاث الأخيرة. هل رغبت في الحديث وإدراج جيل الشباب ، وما هي التحديات التي يواجهوها اليوم؟

ما رأيته في الفيلم كانت نتيجة لعملية اختيار الشخصيات. كنت أعرف منذ البداية بأني سأكون أحد شخصيات الفيلم، وبأني أمثل على نحو ما الجيل الأكثر شباباً في البلد. واحدة من الخطط الأولية للفيلم هو إدراج مجموعة أكبر من أصدقائي، حتى يمثلون جيل الشباب في البلد. لكني انتبهت وقتها أن جيل آبائي هو الجيل الذي حمل التجارب الكبيرة بالعيش في يوغسلافيا، وشاهد البلد يختفي في الحروب التي وقعت. نحن كنا محميين لأنهم كانوا حولنا. تجربتي من تلك السنوات هي تجربة طفل. كنت أريد بشكل ما أن أقدم في الفيلم وجهة نظر الطفل. أما عن جيلي فلقد تاه في الخمس والعشرين عاماً الأخيرة.
كان الجميع يتوقع أن السنوات التي ضاعت بين الحروب التي وقعت بين أعوام: 1991 و 1999 ستم تعوضيها بشكل ما مع صعود الديمقراطية في عام 2000. وسوف نبني مُجتمعاً أفضل. لم يتحقق شيء من هذا. نفس الأيدولوجية والعوامل السياسية لسنوات الاضطراب طُرِحت مجدداً في صربيا وكل يوغسلافيا القديمة. الأمر الوحيد الذي حدث هو إعادة توزيع الثروات. أستطيع أن اقول أن جيلي غير مرئي في صربيا الحديثة، وهذا أحد الأسباب التي جعلتني أقوم بعمل الفيلم،لكي أقول بأننا هنا.
كيف شرحت مشروع الفيلم لعائلتك، وكيف وجدوا النسخة النهائية منه؟

أخبرتهم أني أريد عمل فيلماً عن الهجرة والتاريخ ليوغسلافيا السابقة. لقد كان أمراً حساسا ً أن تحاول أن تكون في الوقت نفسه المخرج والشخصية . أعتقد أنهم رحبوا أن يكونوا في الفيلم، لأنهم كانوا يعرفون أني سأكون شخصية في الفيلم. لم يكن معي فريق تصوير في معظم الأحيان التي كنت معهم. كنت أرتب الكاميرا والصوت، وأُدير الحديث أثناء التصوير.
أول مشهد صورته معهم، كان ذلك الذي يصورهم وهم يشاهدون أفلام 8 ملم لعطلتهم في كرواتيا قبل فترة قصيرة من اندلاع حرب يوغسلافيا. وعندما قمنا بعمل مونتاج لذلك المشهد أطلعتهم على النسخة النهائية منه، حتى يعرفون إلى أيّ وجهة يمضي الفيلم. هذا منحهم شعوراً ما عن الدور الذي سيلعبوه في الفيلم. بعد ذلك لم أطلعهم على أيّ شيء آخر من المشروع، وشاهدوا الفيلم في نسخته النهائية عندما عرض في مهرجان سراييفو السينمائي. العائلة كانت سعيدة بالفيلم، وكيف ظهروا كشخصيات فيه.

استخدمت التحريك في فيلمك على نحو يشبه ما تقوم به بعض الأفلام التسجيلية الأمريكية، هل أنت معجب بالسينما التسجيلية في الولايات المتحدة؟

لجئنا إلى التحريك في الفيلم لاستحضار ذكريات وصور وأحلام من التي لم يعد من الممكن تقديمها بأيّ شكل آخر. مصمم التحريك “فوخت” له أسلوبه الخاص كثيراً في الأفلام المتحركة، ورسوماته تبدو وكأنها من إنتاج طفل. هذا بالضبط ما كنت أبحث عنه، خاصة أني أريد أن أبرز وجهة نظري كطفل في الأحداث التي وقعت. لقد تقابلت مع رسام التحريك في بداية عام 2012، عندما كان المشروع كله مكتوب على ورقة واحدة. وقررنا رغم ذلك العمل سوياً.
لم أكن أملك صيغة واضحة او نموذج لاستعمال التحريك في الفيلم. كل ما هناك أني أحببت الطريقة التي يعمل بها واعتقدت وقتها أنه سيكون تفاهم جيد بيننا. لقد كان تعاوني الأول مع الرسام، والمرة الأولى التي أتعاون بهذا الشكل مع زميل، لذلك كان الموضوع كله تجربة كبيرة. ليس فقط لي شخصياً، بل لجميع الفريق الإبداعي.

هل هناك الكثير من الأفلام التسجيلية عن التاريخ الداميّ لمنطقة يوغسلافيا السابقة ؟ وهل تتوقع أننا سنشاهد المزيد من الأفلام عن تلك السنوات المضطربة؟

هناك بعض الأفلام التسجيلية التي تتعاطي مع سقوط يوغسلافيا. لكنها نادراً ما فعلت ذلك من وجهات نظر شخصية. أتمنى ان نشاهد قريباً المزيد من الأفلام التسجيلية الشخصية عن هذا الموضوع. ليس فقط في هذا الجزء من العالم بل في كل مكان. لقد تم كبت القصص الذاتية مقابل الحكايات العامة والقومية، والتي كانت دائماً يتم التحكم بها عن طريق المقربين للسلطات. قوة الأفلام الشخصية التسجيلية هو مشاركتها القصص الذاتية، وتذكيرنا بالتجارب الإنسانية الفردية، وأنها فوق وجهات النظر الجماعية.

 

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى