الوثائقي «حريق في البحر»… أحلام المهاجرين ووهم جنة أوروبا الموعودة

محمد عبد الرحيم

، عُرض الفيلم الوثائقي «حريق في البحر» للمخرج الإيطالي جيافرانكو روسّي، وهو الفيلم الحائز جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين الأخير في دورته الـ66، ويعد أول وثائقي يحصل على مثل هذه الجائزة، إضافة إلى ترشحه إلى جائزة الأوسكار العام المقبل كأفضل فيلم أجنبي.
وقد حصل روسّي من قبل على جائزة الأسد الذهبي عن فيلمه الوثائقي «Sacro GRA» في مهرجان فينيسيا عام 2013.
«حريق في البحر» إنتاج إيطالي فرنسي عام 2016، 106 دقائق. ويدور الفيلم حول ميناء «لامبيدوسا»، الذي يقع على بعد حوالي 200 كم من الساحل الجنوبي لإيطاليا، وحوالي 113 كم عن شمال أفريقيا. هذا الميناء الذي يستقبل اللاجئين الأفارقة والعرب القادمين إليه عبر البحر من ليبيا وتونس، طيلة عشرين عاما، وأصبح رمزاً لموت العديد من الحالمين والآملين في حياة جديدة بتلمّس حافة القارة الأوروبية، هرباً من دولهم ونظمهم السياسية التي تاجرت بهم، ففضلوا الموت على البقاء في بلادهم.

المأساة كما يرويها روسّي

«أعتقد أننا جميعا مسؤولون عن هذه المأساة التي ربما تكون أسوأ مأساة يشهدها العالم منذ المحارق النازية». من هذه الكلمات التي توضح رؤية روسّي نسج أحداث فيلمه، من خلال تفاصيل دقيقة وإيقاع سردي هادئ يتم تأمل المأساة، مئات المهاجرين الأفارقة والعرب من نيجيريا، السودان، إريتريا ومؤخراً من سوريا، الجميع في مركب متهالك في عرض البحر، رجالا ونساء وأطفالا، بينما في انتظارهم فريق طبي وبعض من رجال السلطة، طائرة إنقاذ تحلق فوقهم، تنتشل الأموات منهم، وتصل بالأحياء إلى مكان آمن فوق هذه الجزيرة الحدودية. لا توجد لغة مشتركة بين الفارين ورجال السلطة فوق الجزيرة، فقط بعض الإشارات والتعليمات. أقنعة واقية وقفازات وأجساد تتحرك في آلية وسط دموع وصراخ النساء والأطفال، وعيون الرجال زائغة البصر.

أهل الجزيرة

والمقارنة دائماً تنعقد بين عزلة المهاجرين في البحر وعزلة أهل الجزيرة أنفسهم، صبي في حوالي الثانية عشرة من العمر، يهوى لعبة الصيد عن طريق إحدى النبال التي صنعها بنفسه، ونأى بنفسه عن عالم البحر، فقط يتجول في الغابات هو وصديقه، وينحتون بعض الثمار على شكل وجوه لبشر، ويتناوب كل منهما ضرب هذه الوجوه بالنبال، وفي الأخير يقومان بما يُشبه تضميد جراح هذه الوجوه، وهي إشارة لما يفعله الأوروبيون تجاه المهاجرين. فبينما يضعونهم في ما يشبه السجون (الآدمية)، يقومون بمعالجتهم وتضميد جراحهم، ودون أي مواثيق يتعاملون معهم ومع مَن يرسلونهم، وكأن الأمر اعتيادي والمهمة مألوفة.
هذه الألفة نراها عند جدة الصبي، وهي تستمع إلى الإذاعة المحلية، التي تذيع خبر عدة أموات فوق قوارب الهجرة، بينما تعد الطعام في اعتيادية شديدة، نعم ترتسم على ملامحها بعض علامات الأسى، إلا أن هذا لا يمنعها من الاتصال بمذيع إحدى المحطات الموسيقية، وتطلب أغنية قديمة تحبها وزوجها، لربما يستعيد ذاكرته.
المذيع بدوره لا يفعل سوى تبديل الاسطوانات بناء على رغبة جمهوره المحدود، أو ذوقه الخاص، وتتواصل معه الجدة طوال الفيلم. هذه الوحدة جسدها أكثر، صائد قنافذ البحر، الذي يغوص بالقرب من الصخور باحثاً عن صيد جديد، فهذا البحر الذي يرمي بمئات الضحايا، الذين يجاهدون فوق سطحه، لا أحد يهمه أمرهم. وكأن الجميع فوق الجزيرة في عالم آخر يعيشون. الوحيد الذي يصبح أداة التواصل بين سكان الجزيرة والمهاجرين هو الطبيب، الذي يعالج السكان، ويستقبل اللاجئين وهم على وشك الموت، أو يتفحص جثث المتوفين منهم.

الجزيرة وعالم اللاجئين

التناقض دوماً هو ما يميز سرد الحكاية، فبينما تبدو الجزيرة وكأنها بأشجارها وبحرها وألوانها الزاهية صورة مُثلى للمكان الآمن والهادئ، مساحاتها الشاسعة والشخصيات القليلة المُنتقاة ــ الشخصيات كلها حقيقية ــ تتجول في حرية وإن كانت أقرب إلى الوحدة والعزلة، في مقابل تكتلات المهاجرين والأماكن الضيقة التي يعيشون فيها، حتى أن أحدهم يحكي الحكاية كاملة، وما رآه في رحلة الهلاك هذه عن طريق ما يُشبه أغاني الراب، كيف تم اعتقاله ورفاقه في السجون الليبية، حتى أنه تمنى الموت أكثر من أي شيء، كذلك حتى في فترات الترفيه، بأن يقوم بعضهم بتشكيل فريق لكرة القدم، وكل واحد منهم تتم مناداته ببلده الأصلي، فهذا سوري، وهذا نيجيري، وهكذا.

التوثيق وإدانة النظم السياسية

اللافت في الفيلم أنه لا يسرد حكايته، أو حكاياته المتزامنة وفق خط سردي واحد، لكنها مجرد حكايات عن شخصيات تعاني العزلة منذ البداية، كحال الجزيرة نفسها، التي لمصادفة موقعها أصبحت شاهدة على حالات الموت المجاني، وكأن هذا الموت يتم في تواطؤ مع الجميع، السلطات الإيطالية التي تفتعل الإنسانية في استقبال ومعالجة المهاجرين، ووضعهم فيما يشبه الزنازين، وكأنهم في حالة من الخوف بأن يصل هؤلاء إلى أوروبا، والعيش في ظل الجنة الموهومة، وقبلها النظم السياسية الحاكمة في بلاد هؤلاء الذين أصبحوا يفضلون الموت على الحياة في بلادهم، لظروف اقتصادية عصيبة، أو سلطة ديكتاتورية أكثر قسوة من الموت نفسه. حالة دائمة من الإدانة للجميع، سواء الدول أو المتعاملين معها من تجار الموت. وكما انتهج المخرج جيافرانكو روسّي في فيلمه السابق «طريق غرا المقدس»، فالأمر نفسه يتحقق في «حريق في البحر»، ولكن هنا في شكل أقسى، فالطريق الجديد الذي أنهى حيوات ومهن العديد من الشخصيات، أصبح الآن يتجسد من خلال الموت الفعلي لا المعنوي، فالجثث التي يتم انتشالها من قاع القارب، ووضعها بعضها فوق بعض، مجرّد أجساد لمخلوقات لا تنتمي إلى عالم الإنسانية. يؤصل ذلك جميع الشخصيات الحقيقية في الفيلم، التي تعيش حياتها ودورها أمام الكاميرا، إضافة إلى الإيقاع التأملي الرصين للحياة فوق الجزيرة.
ينهي المخرج فيلمه، دون أدنى ادعاء بالإيحاء بانتهاء المأساة، فقد ينتهي الفيلم، دون أن تنتهى حالات الفرار فوق قارب متهالك، وبالتالي المزيد من الجثث التي يلقي بها البحر. جثث مجهولة تتلمس صخور جزيرة أكثر وحدة وعزلة.

الحروفية المتقدمة في أعمال التشكيلي السعودي يوسف إبراهيم

■ يشتغل الفنان التشكيلي السعودي يوسف إبراهيم على مواضيع حروفية متقدمة بما تطرحه تشكيلاته الفنية من إشكاليات فلسفية مختلفة تصب في القيم الفنية والجمالية وقيم الحياة والآليات المتنوعة، فهو يتجه إلى مناحي دقيقة في صياغته الحروفية، سواء ما تعلق منها بالحرف في ذاته، أو بعمليات التركيب الخطي، أو بالتجريد أو بمختلف المناحي الأخرى. فالأشكال الحروفية التجريدية ومفرداتها حاضرة في غالبية الأعمال.
ويمكن القول بأن التشكيلي يوسف إبراهيم يمتح مقومات أعماله من أسلوب يتأسس على الحيادية والدقة العالية والتقنية الكبيرة في معالجة مختلف المواضيع، فهو ينتج أعماله الحروفية الفنية وفق التركيبات المتوالية والتداخلات المتزنة والمؤثرات الضوئية والوعي بمستويات اللون المطلوبة، التي تتناسب وتصوراته المعرفية ورؤاه الفنية وحسه الإبداعي وذوقه الرفيع. وهو بذلك ينطلق من الواقع الحروفي لينوع الأساس الفني بأسلوبه التشكيلي الذي يخدم رؤيته الممزوجة بلب المعالم الثقافية العربية الإسلامية، فيغوص في حضرة الفن الحروفي بكل مقوماته الحضارية والجمالية، حيث لا يكتفي باستدعاء المادة والاشتغال عليها؛ وإنما يتجاوز ذلك إلى كل ما هو حروفي تجريدي ورمزي وعلاماتي وتعبيري وإيحائي ودلالي، ليس من حيث شكله البنائي، وإنما بخلفية سنادية تدلل على وعيه بأعماق ما تكتنهه الألوان في المادة الحروفية بكل عناصرها ومفرداتها الفنية، وايلائه لها أهمية كبرى، سواء من حيث التكوين الجمالي الذي يرصد السمات العديدة التي تتوفر عليها أعماله الحروفية التشكيلية، أو من حيث صنع الإيحائية لديه، التي تنبني على التوازن وعلى عدة مقومات قاعدية تخص الفن الحروفي التشكيلي المعاصر. ويوظف لعمل ذلك النظرة البعيدة الثاقبة، بابتعاد عن التعقيد والمساحيق اللونية، وبقرب من التوظيفات الدقيقة لحاسته التي تظهر سحرية أدائه، فيكشف عما تخبئه أعماله من محمولات جمالية تزخر بالتأويل ذي الدلالات المفتوحة وفقا لما يعبر عنه بدقة عميقة من مسافات مختلفة، تتبدى للقارئ الذي لا يملك رؤيتها بذلك الشكل الدلالي.
وهذا يعد ملمسا جديدا وإبداعا مميزا في أسلوب الفنان التشكيلي الحروفي المميز يوسف إبراهيم الذي يزكي في أدائه الفني الحروفي العلاقة القويمة بين الإشارة الحروفية والموضوع وفق المرجعيات المنبثقة من الثقافة العربية الإسلامية، ومن الموروث الحضاري السعودي، ليشحن العمل بطابع رمزي ودلالي، يمكنه من تخليد مفردات المضامين التي يشتغل عليها في ارتباط وثيق بالمكونات الثقافية والمعرفية التي تؤطر العمل في جوهره، وتنم عن أفكار متجددة للمبدع إبراهيم يوسف، وخياله المنفتح على مستوى التكوين والإضاءة وهو ما يضع القارئ أمام أعمال تنطق بمعاني ودلالات متعددة، غنية بالإشارات في سياق وشائج قائمة بين ما تحمله المضامين والمادة الجمالية في علاقة ترسخ جانبا من التداخل بين كافة العناصر المكونة لأعماله بكل ما تحمله الإشارات من تشعبات دلالية وتأويلات تميز في عمقها الخطاب الحروفي التشكيلي، وما تكتسيه اللوحات الفنية من وظائف بنائية ودلالية تحيل لمجال جديد لوضع تمظهرات الخط العربي والحروفية العربية والتشكيل العربي وكافة المواد بعمق وفرادة في تصوراته، التي تعج بالإيجابية في التعبير عن العالم البديل. وهذا هو ما يبين الاتجاه الجاذب في أعمال يوسف إبراهيم التي تحمل فلسفة حروفية جديدة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى