فيليب تيرمان.. أؤدي صلاتي فوق جسدك

إينانة الصالح
بدءاً من عنوان الديوان، «صديقي العزيز كافكا»، يظهر تأثّر الشاعر الأميركي فيليب تيرمان بكافكا وعوالمه، سواء من حيث الأسلوب واللغة الشعرية، أو من حيثُ النظرة الخاصة الفردية لكثير من الإشكالات الروحية والوجودية، عدا عن الفصام الصحّي الذي يُصاب به من يبحث في جوف البديهيات عن أسئلة، منطلقَين من أصولهما اليهودية وإن كان هذا انطلاقاً يحمل طابعاً كوزمولوجياً، مبتعدَين عن طقوسها ومعتقداتها، ليصلا معاً إلى لغة واحدة مفادها أن الإنسان متصل بأخيه الإنسان من حيث النشأة الأولى.
النشأة تلك؛ لا تنتهي سوى نهاية الأولى، باعتبار الروح لا تموت بل تنتقل حسب قناعات تيرمان (التقمص) أو تبقى في الهيولى حرةً من جسدها. ربما هي فكرة للقليل من الأمل مبتعدين عن فكرة الغياب التشاؤمية وأن لا معنى لحياة ستنتهي بلا عودة، أو هي تكثيف قيمة الروح وترقيتها عن جسد فانٍ، أو ربما كل هذه الأسباب مجتمعة جعلته يضمّنها بكثرة في ديوانه واعتبار الروح في ترحالٍ دائم.
الكتب السماوية
منطلقاً من فكرة التشابه البشري يقرر أن يخترع تشابهاً آخر يلمّ شملَ من فرقته الكتب السماوية، معرّجاً على الحب الذي هو أصل وغاية كل الأشياء، معتبراً بشكل مجازي أن الحب عبادة: «أنت توراتي وتلمودي/ ووصاياي المكتوبة والشفاهية. أنا أؤدي صلاتي الوسطى/ فوق جسدك، من الغسق وحتى غياهب الليل/ المطر ينصبّ بلا توقف على أحجار السطح/ وحبنا هو صلاتنا الصغيرة (ص 105)».
وبنوع من التقديم لذاته بكل تناقضاتها وهلوساتها الموجعة، وكل الإرهاصات التي تعبث في ذهنه، ما بين الرفض والقبول، وأحياناً الضياع بينهما بلا ثبات، لا بدّ من البحث عن ملاذ هادئ متّفقٍ عليه، يقي ولو لفترة الأفكار المشردة، إنها الأمومة وحدها: «أشرقنا من جسم واحد، أم وابن/ جسم جاء من جسم، تغذى عليه وانتشر منه/ رائحة تأتي من وردة، أغنية من أغنية، وضوء/ من منبعه. بدأنا بدقة قلب واحدة/ ونفس واحد، روح واحدة، بقرون قبل أن نسمع/ بالانفصال والضياع» (ص 97).
يناور الشاعر ما بين الروحانية والوجودية، يسرق فلسفته الخاصة التي تعتمد البحث والاكتشاف، وقبول ما يُدركه المرء برؤيته العقلانية أو الشعورية، يصرخ تيرمان بلا خوف في وجه المحرقة وأرض الميعاد لا بسبب رفضه الاستيطان ـ باعتبار الرفض بديهياً انطلاقاً من رفض الموروثات ـ بل محقوناً بفكرةِ أن القضية واحدة ولكل منا منظوره الخاص الذي يراها من خلاله ومن هنا تخلق الخلافات المميتة، متحدثاً عن إيميل تلميذه الأردني: «انتبه لصورة والدتي/ الواقفة أمام القبة المذهّبة للمسجد الأقصى/ وقال في القدس رأى والدي النور» (ص 127)، «سأكون هدفاً لرصاص لرجالٍ لا أعرفهم» (ص 124).
يسيج الفكرة السابقة بإنسانيته ويؤكدها بذكره راشيل كوري الناشطة في سبيل السلام ودهسها من قبل بلدوزر أميركية وهي تحتج على هدم بيت عربي في غزة من خلال رسائلها الالكترونية: «ماذا تركوا للناس؟… أنفقت وقتاً طويلاً بالكتابة/ عن خيبة أملنا بما اكتشفناه/ لحدّ ما كتابة أولية/ عن درجة الشرور/ التي لا زلنا مستعدين لارتكابها» (ص 131).
وباعتباره الرّاصد للواقع بعيني الروح، وباعتباره المتأثّر بإدراكٍ كامل أو باللاوعي بأفكار العديد ممّن سبقوه، حيث وجد في بعض ما قالوه فكراً لامس ميوله الخاصة، وباعتبار الإنسانية شعاره الأوحد، ها هو يذكر العمّال لكأنّ كارل ماركس كان يهيم في مخيّلته: «أتلقّى أجري لأحرر لساني السّليط. وحينما/ زجاجة المصباح تتشظّى، مهمتي/ تتلخّص في وصف الظلام. لا تتوقعوا مني/ العودة دائماً إلى نفس الكرسيّ/ مثل كلب يعود لنفس طاسة القصدير/ الموجودة في زاوية المكمن» (ص 111).
التمرد
إنه الوجع الباعث للتمرد، ذاك التمرّد الواجب على كل ما لا يحمل الشروط الإنسانية في الحياة المستمرة، كالطبيعة تماماً التي تتمرّد على الموت بالتجدد، وإن غلب على تجدّدها الروتين، تبقى بكل ما تحتويه حالةً خرافية وغرائبية لانعدام الثبات في كل موجوداتها الدائمة الحركة: «أين هو الربيع الذي لا يموت؟….زهرة الليلك، تحتضر/ وها هي تشرب، وتشرع بالانتباج/ ذراعها وكل أطرافها مرهقة كأنها إنسان» (ص 70).
من قلب كل هذا الذي يبحث عنه الكائن المعرفيّ كمدينة فاضلة، وعجزه عن التغيير كفرد تحكمه كل تلك التابوات التي لا يخدشها رفضه لها حين تكون سائدة ومقبولة من قبل الأغلبية، خوفاً واستسلاماً، أو تبعيةً لسياسة القطيع لا بد من الإحساس بالعجز والعدمية وتحويل القدر إلى شمّاعة لأسئلة لا إجابة عنها. فالشيء الوحيد الذي استمر مع كل تلك القصائد النثرية، ومحتوياتها الجمالية والفلسفية، هو الصور الشعرية الخلاّقة، التي خلقت بدورها موسيقى داخلية في النصوص، تتأرجح بين الحزن والحنين، بين المنطق والعبثي من الطروحات: «سوناتة الريح التي هبّت لتعصف/ بإنجازاتنا المنتهية» (ص 104).
ما بين الثالوث (الطبيعة والإنسان والعائلة) الذي شكّل هرماً تتشارك زواياه بإشعاع واحد هو الحسّ الإنساني، تنقّل الشاعر بكامل حضوره الذهني ليقدّم مادّة أدبية (برغم ترجمتها والذي يُشكر عليها المترجم لأنها ترجمة انتقائية بحق) بقيت تحتفظ بما يستحق أن يُقرأ ويعاد قراءته، بل ربما هي دعوة مبطنة لكسر كل الإيديولوجيات المُسبقة: «أنا حر فهذا جسدي» (ص 92)..
(السفير)